مدخل للعلوم القانونية 2
مقدمة
تهدف دراسة المدخل إلى علم القانون إلى الإلمام بالمبادئ والأصول العامة التي تكون الإطار الشامل لعلم القانون والحق، لذلك فإنها تتخذ من القانون والحق برمته موضوعاً لها، وتهدف إلى إلقاء الضوء وتوطئة السبيل لمساعدة المبتدئ على الإلمام بالأصول والمبادئ الأساسية العامة التي يرتكز عليها القانون والحق في جملته، ولذلك وبالرغم من أن أغلب مضمون هذه الدراسة قد ورد ضمن القانون المدني وخاصة الباب التمهيدي منه، فإن المدخل إلى علم القانون لا يرتبط من حيث المبدأ بفرع معين من فروع القانون ولا بفئة محددة من قواعده، مثلما ر يرتبط بنوع أو فئة محددة من الحقوق.
ولما كانت تلك هي غاية الدراسة، فإننا سنحرص على إبراز الأصول الكلية والمبادئ العامة الأساسية وترسيخها في ذهن كل مبتدئ في علم القانون، دون دخول في تفصيلات فرعية أو جزئية إلا ما اقتضته ضرورة لترسخ مبدأ أو لتوضيح فكرة وتحديد معالمها، إذ كثيراُ ما تتوارى تلك الأصول والمبادئ وتطمس معالمها أمام الإغراق في التفصيلات. ورائدنا في ذلك تزويد المبتدئ بالقدر المقبول والمعقول من المعلومات والأفكار، دون إسراف وتفصيل ممل أو تقتير وإيجاز مخل.
والمعّول عليه في هذه الدراسة هو القانون السوري، حين يقتضي الأمر دراسة أحكام القانون أو الإشارة إلى نصوصه، دون قطع السبيل أمام إجراء دراسة متقابلة مع القوانين الأخرى كلما اقتضى الحال ذلك بغية تدعيم هذه الدراسة بالمفيد.
ولأجل ذلك سنجعل هذه الدراسة في قسمين: نخصص الأول لنظرية القانون، ونخصص الثاني لنظرية الحق، ذلك على الشكل التالي:
القسم الأول: النظرية العامة للقانون.
القسم الثاني: النظرية العامة للحق.
تمهيد
القانــون والحق
القانون والحق مفهومان مترابطان متلازمان بحيث لا يذكر أحدهما إلا ويتبادر إلى الذهن المفهوم الآخر. فيمكن القول بأن الحق هو ثمرة القانون ونتيجته, كما أن القانون يتمثل عملياً حين تطبيقه بما ينجم عنه من حقوق.
ودراستنا في المدخل إلى العلوم القانونية تتناول في الواقع: دراسة نظرية القانون من جهة ونظرية الحق من جهة ثانية ولذا سنبدأ بتعريف كل من القانون والحق.
القانون:
يقصد به مجموعة القواعد التي تطبق على الأشخاص في علاقاتهم الاجتماعية ويفرض عليهم احترامها ومراعاتها في سلوكهم بغية تحقيق النظام في المجتمع .
فالقانون إذاً يعبر عن مجموعة القواعد القانونية التي تنظم حياة المجتمع وسلوك الأشخاص فيه وهذه القواعد تنظم أموراً مدنية أو تجارية أو جزائية أو غيرها, أياً كان مصدر هذه القواعد سواء كان مصدرها التشريع أو غيره من المصادر الأخرى.
فهذه القواعد القانونية بصرف النظر عن مصدرها أو موضوعها تشكل الإطار الذي يتكون منه القانون بمعناه العام الذي بيناه بالتعريف.
من جهة أخرى هناك معنى خاص شائع الاستعمال ويقصد به القواعد الصادرة عن السلطة التشريعية المختصة ( الممثلة بمجلس الشعب ) . وهذه القواعد وإن كانت تحتل الجزء الأكبر من القواعد القانونية في عصرنا إلا أنها لا تشملها جميعها.
أي أن القانون بمعناه الخاص هذا ليس سوى مصدر من مصادر القانون بمعناه العام وهو من أهم مصادره في عصرنا الحالي ولكنه ليس المصدر الوحيد.
وخلال دراستنا سنقتصر في استعمالنا لكلمة القانون على المعنى العام ( مجموعة القواعد القانونية ). وسنطلق على القانون بالمعنى الخاص اسم التشريع المرادف له.
الحق:
ويقصد بالحق السلطة أو الإمكانية أو الامتياز التي يمنحها القانون للشخص تمكيناً له من تحقيق مصلحة مشروعة يعترف له بها ويحميها1.
فالحق بهذا المعنى لا يتمثل إذن بالقواعد القانونية نفسها وإنما بما تقره هذه القواعد للأشخاص وما تمنحهم من سلطات ومكنات وميزات.
فعلى سبيل المثال القاعدة القانونية التي تمنح الحق للمستأجر في سكنى العقار المأجور, والقاعدة التي تمنح الحق للبائع في استيفاء ثمن المبيع من المشتري...الخ,فهذه القواعد تدخل في نطاق القانون, أما ما ينشأ عن هذه القواعد من سلطات وميزات يتمتع بها المستأجر أو البائع فإنما تعتبر حقوقاً يعترف بها القانون لهؤلاء الأشخاص ويمنحهم إياها.
العلاقة بين القانون والحق:
من خلال تعريف كل من القانون والحق يتبين لنا أن هناك ترابطاً تاماً واتصالاً وثيقاً, فلا ينشأ الحق إلا إذا أقرته واعترفت به قاعدة من قواعد القانون.
كما أن القانون يهدف بصورة أساسية إلى تحديد الحقوق وبيان مداها وكيفية اكتسابها وانقضائها. و بعبارة أخرى يمكن القول بأن الحق هو ثمرة القانون ونتيجته, كما أن القانون يتمثل عملياً حين تطبيقه بما ينجم عنه من حقوق2.
القسم الأول
القانون
سنتناول في هذا القسم دراسة النظرية العامة للقانون وذلك في بابين وهما:
الباب الأول: مفهوم القانون
الباب الثاني: مصادر القانون
الباب الأول
مفهوم القانون
ويقسم هذا الباب إلى ثلاثة فصول وهي:
الفصل الأول: تحديد مفهوم القانون
الفصل الثاني: أسس القانون
الفصل الثالث: أقسام القانون
الفصل الأول
تحديد مفهوم القانون
لتحديد مفهوم القانون لا بد من دراسة طبيعة القاعدة القانونية التي تعتبر الخلية الأساسية في تكوين القانون من جهة, ودور القانون من في التنظيم الاجتماعي الذي يعتبر هدف القانون وغايته من جهة أخرى, ومن ثم ينبغي علينا أن نلقي الضوء على نوعين هامين من أنواع القواعد القانونية وهما القواعد الآمرة والقواعد التكميلية أو المفسرة, ونخصص فرعا أخيرا لمقارنة القانون بعلم الأخلاق الذي يشاركه في مهمة التنظيم الاجتماعي.
وسنتناول ذلك وفق ما يلي:
الفرع الأول: القاعدة القانونية.
الفرع الثاني: دور القانون في التنظيم الاجتماعي.
الفرع الثالث:القواعد الآمرة والقواعد التكميلية أو المفسرة.
الفرع الرابع: القانون والأخلاق.
الفرع الأول
القاعدة القانونية
القاعدة القانونية هي الخلية الأساسية التي يتألف منها القانون بمعناه العام.
وقد عرفها الدكتور سليمان مرقس بأنها خطاب موجه إلى الأشخاص في صيغة عامة له قوة الإلزام.
من هذا التعريف نجد أن1:
1 ـ القاعدة القانونية خطاب موجه إلى الأشخاص:
وهذا الخطاب الموجه إلى الأشخاص إما أن يتضمن أمراً لهم بالقيام بفعل معين, أو نهياً عن القيام به, أو مجرد إباحة هذا الفعل دون أمر به أو نهي عنه.
$ فعلى سبيل المثال المادة ( 554 ) من القانون المدني: تنص على أنه (( يجب على المستأجر أن يقوم بوفاء الأجرة في المواعيد المتفق عليها )).
فهذه القاعدة تتضمن الأمر بفعل معين هو أداء الأجرة إلى المؤجر.
و المادة (185 ) من قانون التجارة بالنسبة للشركات المغفلة تنص على أنه: (( لا يجوز الجمع بين عضوية مجلس الإدارة وأية وظيفة عامة )).
فهذه المادة تتضمن النهي عن فعل معين هو الجمع بين عضوية مجلس الإدارة في الشركة المغفلة والوظيفة العامة.
$ولو أخذنا المادة ( 549 ) من القانون المدني التي تنص على أنه (( يجوز للمستأجر أن يضع بالعين المؤجرة أجهزة لتوصيل المياه والنور الكهربائي والتلفون والراديو وما إلى ذلك )). لوجدناها تتضمن إباحة فعل معين والترخيص به دون أمر ولا نهي.
ونلاحظ أنه لا يشترط في القاعدة القانونية أن تأتي بصيغة الأمر أو النهي أو الإباحة والترخيص لأنها قد تأتي على شكل إنذار موجه إلى الأشخاص بترتيب أثر ما على واقعة معينة فيستنتج من هذا الإنذار ما تريد القاعدة أن تأمر به.
فالمادة ( 388 ) من قانون العقوبات التي تنص على أنه:
(( كل سوري علم بجناية على أمن الدولة ولم ينبئ بها السلطة العامة في الحال عوقب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات وبالمنع من الحقوق المدنية )).
فهذه القاعدة لا نجد فيها صيغة الأمر, وإنما نجد فيها إنذاراً إلى من يتوانى عن إخبار السلطة العامة عن الجنايات الماسة بأمن الدولة.
2 ـ القاعدة القانونية يجب أن تكون عامة ومجردة:
لا يكفي أن يكون هناك خطاب موجه إلى الأشخاص سواء أكان أمراً أو نهياً أو مجرد إباحة وترخيص ليعتبر أن هناك قاعدة قانونية, بل يجب أن يكون هذا الخطاب أو يجب أن تكون هذه القاعدة عامة ومجردة1.
ومعنى ذلك أن القاعدة القانونية يجب ألا تخص شخصاً معيناً بالذات أو تتعلق بحادثة معينة, بل يجب أن تكون قابلة للتطبيق على كل من يمكن أن تتوافر فيهم الصفات والشروط التي تنص عليها.
وفي الواقع, فإن مفهوم القاعدة نفسه يفترض الاطراد وإمكانية التطبيق في الحالات والظروف المماثلة, أما الأحكام التي لا تطبق إلا على أشخاص معينين أو حالات محددة بالذات فإنها لا تكون قواعد قانونية بالمعنى الصحيح.
مثال:
1 ـ يحرم الطالب الذي يرتكب عملية الغش في الامتحان من متابعة امتحانه.
2 ـ يحال الموظف الذي يبلغ سن الستين على التقاعد.
إن كلا المثالين يمكن إدراجهما في عداد القواعد القانونية لأنهما لا يخصان طالباً أو موظفاً معين بذاته وإنما هما عبارة عن نصين عامين يمكن تطبيقهما على كل طالب يرتكب عمليه الغش في الامتحان وعلى كل موظف يبلغ سن الستين.
أما المثالين الآتين:
1 ـ يحرم الطالب ( فلان ) من متابعة امتحانه لارتكابه عملية الغش.
2 ـ يحال الموظف ( فلان ) على التقاعد لبلوغه سن الستين.
فلا يمكن اعتبارهما بمثابة قاعدتين قانونيتين لأن الحكمين اللذين يتضمنانهما يقتصر تطبيقهما على الطالب أو الموظف المعينين فيهما دون أن يتجاوزهما إلى غيرهما.
من جهة أخرى لا يشترط في القاعدة القانونية أن تتناول في حكمها عدداً كبيراً من الأشخاص أو أن تشمل المواطنين جميعاً ليعتبر أنه قد توافرت فيها صيغة العموم.
فكثرة الأشخاص الذين تطبق عليهم القاعدة أو قلتهم ليس لها اعتبار ولكن المعتبر في القاعدة القانونية هو ألا تتناول أشخاصاً معينين بذاتهم, بل أن يعم حكمها جميع الأشخاص الذين تنطبق عليهم الصفات والشروط المحددة فيها.
لذلك فقد تتناول القواعد القانونية في أحكامها فئات من الناس لا يكون عدد أفرادها كبيراً كالقواعد المتعلقة بالتجار أو الموظفين أو أساتذة الجامعة أو غيرهم.
وأحياناً قد تتناول القاعدة بحكمها شخصاً واحداً كالقواعد التي تتضمن تحديد صلاحيات واختصاصات رئيس الجمهورية مثلاً فهذه القواعد تعتبر قواعد قانونية على الرغم من أن تطبيقها يتعلق برئيس الجمهورية وحده. ذلك لأن الأحكام التي تتضمنها ذات صفة عامة بحيث يمكن تطبيقها بالنسبة إلى أي رئيس للجمهورية يجري انتخابه وليست خاصة برئيس معين بشخصه وذاته.
3 ـ القاعدة القانونية يجب أن تتصف بالصيغة الإلزامية
$-يقصد بذلك أن يكون للقاعدة القانونية مؤيد أو جزاء, بحيث يجبر الأشخاص على إتباعها ويفرض عليهم احترامها ولو بالقوة عند الاقتضاء.
والمؤيد أو الجزاء هو الأثر الذي يترتب على مخالفة القاعدة القانونية.
فمثلاً الأثر الذي يترتب على مخالفة القاعدة التي تأمر بعدم السرقة هو الحبس, والأثر الذي يترتب على مخالفة القاعدة التي تأمر بالوفاء بالديون هو التنفيذ الجبري...
والمؤيدات القانونية تعود في الدول المتمدنة إلى الدولة وحدها, فهي التي تملك وحدها وسائل إجبار الأشخاص على احترام القاعدة القانونية وهي التي ترتب الآثار الناجمة عن مخالفتها.
أي أننا نقصد بقولنا أن القاعدة القانونية تتصف بالصبغة الإلزامية هو أن تكون مؤيدة من قبل الدولة.
وهذا ما يميز القاعدة القانونية عن سائر القواعد الاجتماعية والأخلاقية ( كقواعد الأخلاق ) التي تفتقر إلى المؤيد من قبل الدولة.
بحيث لا يمكن للدولة أن تعاقب الفرد على عدم اللطف ( كقاعدة أخلاقية ).
بالمقابل ليس من الضروري أن يكون احترام الناس للقاعدة القانونية وتطبيقها من قبلهم ناجماً عن تأييد الدولة لها وفرضها إياها, بل قد يطبقونها من تلقاء أنفسهم لأنهم يعتقدون أنها واجبة التطبيق ولو لم تكن مفروضة عليهم من الدولة ومؤيدة من قبلها.
والمؤيد الذي تضعه الدولة للقاعدة ليكفل احترامها وتطبيقها من قبل الأشخاص يكون على نوعين1:
1 ـ المؤيد الجزائي: ويقصد به الزجر, ويكون ذلك بإيقاع العقوبة بالمخالف للقاعدة القانونية ردعاً له ولغيره عن مخالفتها.
2 ـ المؤيد المدني: ويقصد به الجبر, يكون ذلك بإعادة الأمور إلى نصابها وإزالة الخلل الذي أحدثته مخالفة القاعدة القانونية أو إصلاحه على قدر الإمكان.
والمؤيد الجزائي قد يقع على جسم الشخص ( كالسجن أو الإعدام ), وقد يكون عبارة عن غرامة يعاقب بدفعها.
أما المؤيد المدني فيكون على أنواع2:
1 ـ فهو إما أن يكون تنفيذاً عينياً وذلك بتنفيذ ذات الالتزام ( كإجبار البائع مثلاً على تسليم المبيع للمشتري ).
2 ـ أو أن يكون تنفيذاً بمقابل وذلك عن طريق التعويض ( كإجبار من سبب بعمله غير المشروع ضرراً للغير على دفع تعويض له عنه ).
3 ـ أو أن يكون ببطلان الاتفاق المخالف للقاعدة القانونية, كبطلان الاتفاق الواقع على بيع المخدرات.
وللتميز بين المؤيد الجزائي والمؤيد المدني نطرح المثال التالي:
لو فرضنا أن شخصاً يقود سيارته مخالفاً قواعد المرور قد صدم شجرة واقتلعها فحكم عليه بغرامة من جهة وبالتعويض عن الشجرة من جهة ثانية.
فالمقصود من الغرامة ليس إصلاح الضرر بل معاقبته لمخالفته قواعد المرور ( مؤيد جزائي ).
أما التعويض فلا يهدف إلى معاقبته وإنما لإزالة الضرر الذي ألحقه بمالك الشجرة من جراء عمله غير المشروع ( مؤيد مدني ).
أي أن المؤيد الجزائي والمؤيد المدني إنما يترتب على مخالفة القاعدة القانونية.
ولكن المؤيد الجزائي يقصد به المعاقبة, بينما لا يقصد بالمؤيد المدني سوى إعادة الأمور إلى نصابها.
الفرع الثاني
دور القانون في التنظيم الاجتماعي
صلة القانون بالحياة الاجتماعية:
إن بين القانون والحياة داخل المجتمع صلة وثيقة العرى وارتباطاً على جانب من الأهمية.
فالقانون لا يمكن أن ينشأ إلا حيث يكون هناك مجتمع يتولى تنظيمه وتحديد القواعد التي يجب أن تقوم عليها علاقات الأفراد فيه. ولا يمكن أن نتصور قيام مجتمع دون نظام صالح يبنى عليه ويتولى القانون أمر تحديده وفرضه.
وما دام القانون يتولى تنظيم المجتمع وعلاقات الأفراد فيه، فمن الطبيعي لنا أن نتساءل عن الدور الصحيح الذي يؤديه هذا السبيل والحد الذي يقف عنده في تدخله في شؤون الأفراد وعلاقاتهم المختلفة,
الجواب على هذا السؤال يختلف في الواقع باختلاف وجهات النظر التي تتولى معالجته والرد عليه، ونستطيع أن نميز خلال وجهات النظر هذه بين مذهبين رئيسين هما: المذهب الفردي أو الحر من جهة، والمذهب الاشتراكي أو التدخلي من جهة ثانية.
المذهب الفردي أو المذهب الحر
يقوم هذا المذهب الذي ساد أواخر القرن الثامن عشر والقسم الأكبر من القرن التاسع عشر، $على تقديس حرية الفرد تقديساً ---- كاملاً واعتبارها حقاً أساسياً من واجب المجتمع أن يبذل قصارى جهده للمحافظة عليها، ومن واجب القانون ألا يتدخل للحد منها إلا بالقدر الضروري جداً الذي لا غنى عنه1.
ففي ظل المذهب الفردي أو الحر نجد إذن أن نطاق القانون يضيق إلى حد كبير هو هذا الذي يقتضيه تأمين إقامة الحرية للجميع، ومنع الناس من التجاوز بعضهم على بعض.
المذهب الاشتراكي أو مذهب التدخل:
إن المذهب الفردي أو الحر، على ما يقتضيه من مثل عليا ودعوى مخلصة إلى تقديس $حرية الفرد واحترامها، قد بدا، بسبب التطور الاجتماعي الأخير الذي ظهرت بوادره في منتصف القرن التاسع عشر ولا يزال مستمراً حتى يمنا هذا غير كاف لإقامة نظام صالح يؤمن العدل والطمأنينة والاستقرار لجميع المواطنين في المجتمع.
وعلى هذا قامت النظريات الاشتراكية الحديثة تدعو الدولة إلى التدخل في شؤون الأفراد لحماية الضعفاء من تسلط الأقوياء وسيطرتهم فالقانون بحسب هذه النظريات لا يجيب انم تقتصر مهمته على دور سلبي بل يجب أن يؤدي دوراً إيجابياً فيتولى بنفسه تنظيم علاقات الأفراد وشؤونهم حين يخفق هؤلاء في تنظيمها على أساس عادل صحيح1.
ففي ظل المذهب الاشتراكي أو مذهب التدخل نجد أن للقانون مجالات أوسع واعم من المجال الذي يريده أن يدور فيه المذهب الفردي لأن دور القانون في الواقع لا يقتصر على تأمين الحرية للجميع وتركهم يعملون بأنفسهم وإنما هو يقوم أيضاً على التدخل في أعمالهم وشؤونهم لتنظيمها عندما تقتضي الضرورة أو المصلحة ذلك ومن هنا كان مبعث الاتساع الحالي لنطاق علم القانون.
الفرع الثالث
القواعد الآمرة والقواعد التكميلية أو المفسرة
يمكن تقسيم القواعد القانونية إلى قواعد آمرة وقواعد تكميلية أو مفسرة2.
أما القواعد الآمرة: ( القواعد الناهية ): فهي تهدف إلى حماية مصالح المجتمع الأساسية ولذلك لا يسمح للأفراد باستبعاد أحكامها وتبني أحكام غيرها فيما يجرونه من عقود أو تصرفات قانونية.
أما القواعد التكميلية أو المفسرة ( قواعد معلنة ):
فهي خلافاً للقواعد الآمرة, لا تهدف إلى حماية مصالح المجتمع الأساسية وإنما تتعلق مباشرة بمصالح الأفراد, ولذا يسمح لهؤلاء الأفراد باستبعاد أحكامها إذا شاءوا والأخذ بأحكام غيرها يختارونها بأنفسهم لأنهم الأولى بتقدير مصالحهم وطرق تحقيقها.
ونستطيع القول بوجود ثلاثة أنواع من الأحكام التي تتبع في تنظيم النشاط الإنساني والعلاقات بين الأفراد في المجتمع:
1 ـ الأحكام الاتفاقية أو التعاقدية.
2 ـ الأحكام التي تتضمنها القواعد المفسرة أو التكميلية.
3 ـ الأحكام التي تتضمنها القواعد الآمرة.
ونضرب المثال الآتي على هذه الأحكام:
إذا اتفق البائع والمشتري على أن يبيع الأول للثاني عقاراً يملكه وأن يدفع الثاني إلى الأول لقاء هذا العقار مبلغ خمسين ألف ليرة سورية, وأنهما اتفقا في عقد البيع على أن يدفع المشتري للبائع نصف ثمن العقار حين تسليمه إياه وأن يدفع النصف الآخر بعد ذلك على قسطين مثلاً.
كما اتفقا أيضاً على أن يدفع المشتري ثمن العقار بالعملة الذهبية.
فاتفاق كل من البائع والمشتري على دفع مبلغ خمسين ألف ليرة سورية لقاء ثمن العقار وهو حكم اتفاقي لم يخالف به قاعدة قانونية سابقة ( لعدم وجود قاعدة تحدد ثمن العقار بالنسبة إليهما ).
واتفاقهما على أن الثمن لا يدفع كله حين تسليم المبيع وإنما يتم دفعه على أقساط فهذا الاتفاق يخالف الحكم الذي تنص عليه قاعدة قانونية في المادة ( 425 ) ق. م التي تقضي بأن الثمن يكون (( مستحق الوفاء في الوقت الذي يسلم فيه
المبيع )) إلا أن هذه المخالفة جائزة لأن المادة ( 425 ) نصت على أن الحكم الوارد فيها يمكن للمتبايعين الاتفاق على خلافه. أي أن هذه القاعدة هي قاعدة تكميلية أو مفسرة لأنه يجوز الاتفاق على خلافها.
أما اتفاق كل من البائع والمشتري على أن يدفع المشتري ثمن العقار بالعملة الذهبية. فهو يخالف الحكم الذي تقرره قاعدة قانونية واردة في نص تشريعي يقضي بمنع التداول بالعملة الذهبية.
وهذه المخالفة غير جائزة لأن القاعدة القانونية الواردة في النص المشار إليه هي قاعدة آمرة لا يجوز الاتفاق على خلافها وأي اتفاق من هذا القبيل يعتبر باطلاً.
و لمعرفة القاعدة القانونية فيما إذا كانت آمرة أم تكميلية, ننظر إلى عبارة النص الذي وردت فيه, فإذا وجدنا فيها ما يشير إلى أنه من غير الجائز مخالفة الحكم الذي تنص عليه ( يعتبر باطلاً كل اتفاق مخالف ) أو ( بالرغم من كل اتفاق مخالف ) كانت القاعدة آمرة.
أما إذا وجدنا عبارة ( إلا إذا اتفق المتعاقدان على خلاف ذلك ) أو ( ما لم يكن هناك اتفاق مخالف ) كانت القاعدة تكميلية أو مفسرة.
أما إذا لم يتبين نوعها من عبارة النص نلجأ إلى تقدير مدى صلة القاعدة بمصالح المجتمع الأساسية أو بمصالح الأفراد ثم تحديد نوعها على هذا الأساس فإذا كانت تتعلق بمصالح المجتمع تكون قواعد آمرة. وإذا تعلقت بمصالح الأفراد كانت قواعد تكميلية أو مفسرة1.
وتعود تسمية القواعد الآمرة بهذا الاسم إلى أن الأحكام التي تفرضها هذه القواعد على الأشخاص هي أحكام مطلقة لا يجوز لهم مخالفتها أبداً.
أما القواعد التكميلية أو المفسرة فقد سميت كذلك لأن الأفراد قد لا يحددون في عقودهم أو اتفاقاتهم جميع الأمور والمسائل التفصيلية التي يمكن أن تنشأ عنها ولا يبينون أحكامها فتكون إرادتهم غير ظاهرة أو جلية بالنسبة لهذه الأمور. ولهذا تأتي القواعد التكميلية أو المفسرة لتكمل إرادة هؤلاء الأفراد وتفسر ما خفي منها.
فهي تكميلية لأنها تكمل إرادة الأفراد بالنسبة للأمور التي لم يتعرضوا لذكرها في عقودهم ومفسرة لأنها تفسر هذه الإرادة حين لا يبينها الأفراد بأنفسهم.
القوة الإلزامية للقواعد التكميلية أو المفسرة
يجب أن لا نتوهم بأن القاعدة القانونية الآمرة هي وحدها التي تعتبر ملزمة والتي تحظى بتأييد الدولة, وأن القاعدة التكميلية أو المفسرة ليست ملزمة للأفراد ولا تستطيع الدولة فرضها عليهم بالقوة عند الاقتضاء.
لأن القواعد القانونية أياً كان نوعها, هي قواعد ملزمة, وهي قواعد مؤيدة بقوة الدولة وسلطانها ومن الممكن فرض احترامها على الناس فرضاً, وبدون هذا الشرط لا يمكن أن تعتبر قواعد قانونية بالمعنى الصحيح, بل هي تعتبر حينئذ مجرد قواعد أخلاقية أو مجاملة أو نحو ذلك1.
أي أن الفرق بين القواعد الآمرة والتكميلية أو المفسرة ينحصر في أن القواعد الآمرة لا يمكن للأشخاص أن يتفقوا على خلافها في عقودهم. بينما يمكن لهم ذلك بالنسبة للقواعد التكميلية أو المفسرة.
فإذا اتفق هؤلاء الأشخاص على أحكام تختلف عن الأحكام التي تتضمنها القواعد التكميلية أو المفسرة في عقودهم طبقت عليهم هذه الأحكام التي اتفقوا عليها. وإذا لم يحدث بينهم مثل هذا الاتفاق طبقت عليهم الأحكام التي تتضمنها القواعد التكميلية أو المفسرة.
واعتبرت هذه القواعد بالنسبة إليهم حينئذ ملزمة لا يمكنهم التنصل من تطبيق أحكامها بل يرغمون على ذلك بقوة الدولة إذا اقتضى الأمر.
مفهوم النظام العام:
هو مجموعة الأسس الاجتماعية والاقتصادية والخلقية والسياسية والدينية التي يقوم عليها مجتمع من المجتمعات.
وبذلك يختلف مفهوم النظام العام من مجتمع إلى آخر بل ويتغير مفهومه ضمن المجتمع نفسه من زمان إلى آخر فهو ذو مفهوم نسبي متغير2.
وإن القواعد القانونية الآمرة يطلق عليها أيضاً اسم القواعد المتعلقة بالنظام العام فهي آمرة لا يجوز للأفراد مخالفتها أو الخروج عنها لأن المساس بها يشكل في الوقت نفسه مساساً بهذا النظام العام الذي تسعى إلى تحقيقه وحمايته.
ونحن نعلم أن القواعد الآمرة تهدف إلى حماية مصالح المجتمع الأساسية التي لا يسمح للأفراد بمخالفتها.
فمفهوم النظام العام إذاً تتمثل فيه هذه المصالح الأساسية للمجتمع, والقانون حين يجعل طائفة من قواعده آمرة لا يجوز لأحد مخالفتها فهو إنما يفعل ذلك لأن هذه القواعد تهدف إلى حماية النظام العام في المجتمع وبالتالي حماية المصالح الأساسية لهذا المجتمع.
$ ولكن ما هي ---- الأسس التي تؤلف النظام الحيوي للمجتمع ؟ أو ما هي المصالح الأساسية التي يسعى المجتمع إلى تحقيقها ؟
إن المصالح الأساسية للمجتمع تتجلى عادة بالنسبة للقانون المعاصر بالأمور التالية1:
1 ـ حماية الفرد في كل ما يتصل بحياته وسلامة أمنه وحريته.
مثلاً: القاعدة التي تقضي بتحريم الرق تعتبر قاعدة آمرة من النظام العام لأنها تهدف إلى حماية حرية الإنسان.
2 ـ حماية الدولة ومؤسساتها القانونية ونظام الحكم فيها:
وعلى هذا فإن جميع قواعد القانون العام التي تنظم العلاقات التي تكون الدولة طرفاً فيها قواعد آمرة من النظام العام.
3 ـ حماية العائلة وإقامتها على أساس سليم, فالقواعد التي تنظم أمور العائلة هي قواعد آمرة من النظام العام.
4 ـ حماية الأخلاق والآداب العامة: أي أن كل اتفاق يمس هذه الأخلاق يعتبر باطلاً لأنه يمس في نفس الوقت النظام العام في المجتمع.
5 ـ حماية بعض المصالح الاقتصادية والاجتماعية: وسن القواعد الآمرة لحمايتها, كما في قواعد قانون العمل التي تنظم علاقات أرباب العمل بالعمال.
مثلا إن تعدد الزوجات في سورية هو من النظام العام فلا يستطيع أحد أن يتفق على تحريم التعدد (تعدد الزوجات في سوريا قاعدة آمرة).
أما في فرنسا تحريم تعدد الزوجات هو من النظام العام لا يستطيع أحد أن يتفق على التعدد (تحريم تعدد الزوجات في فرنسا قاعدة آمرة).
الفرع الرابع
القانون والأخلاق
مقارنة القانون بالأخلاق:
تقوم بجانب قواعد القانون قواعد أخلاقية تلعب دوراً كبيراً في تنظيم علاقات الناس في المجتمع وتحدد سبل سيرهم وسلوكهم. ولكن التفريق بين القواعد القانونية والقواعد الأخلاقية لم يحدد بصورة عملية واضحة إلا في العصور الحديثة وخاصة في القرن الثامن العشر أما في العصور السابقة فقد كان التداخل بينهم كبيراً لحد يصعب التفريق معه بينهما.
$ولقد عرف الرومان نوعاً ما هذا التفريق حيث قال الفقيه (بول): إن ما يسمح به القانون لا يكون دائماً موافقاً للأخلاق وهو يعني بذلك وجود فرق بين القانون والأخلاق1.
وفي العصور القديمة كان الدين هو المسيطر بين أغلب الشعوب وكان ما يأمر به الدين $يعتبر في الوقت ذاته موافقاً للأخلاق وواجب الإتباع من الجهة القانونية.
وفي عصرنا الحاضر وبالرغم من التداخل الكبير بين القانون والأخلاق حيث أن قواعد القانون في أغلبها مستمدة من قواعد الأخلاق (فالقواعد التي تأمر بعدم السرقة هي قواعد أخلاقية وقانونية في ذات الوقت).
فقد حاول فقهاء القرن الثامن عشر وبخاصة (توماسيوس) و(كانت) بيان بعض الفوارق وهي فوارق يؤدي إليها اختلاف الغاية والهدف بالنسبة إليهما2.
فالأخلاق تهدف إلى تحقيق الطمأنينة والسلامة الداخلية للإنسان وبلوغ الكمال الفردي.
والقانون يهدف إلى تحقيق الطمأنينة والسلامة العامة أو الخارجية وتأمين النظام في المجتمع.
وعلى ما تقدم تبدو الفوارق بين القواعد القانونية والأخلاقية فيما يلي:
1 ـ اختلاف القانون والأخلاق من حيث النطاق:
إن نطاق القانون في الواقع أقل سعة من نطاق الأخلاق, ذلك أن القانون إنما يهتم فقط بقسم من أفعال الإنسان وتصرفاته وهذا القسم يتضمن التصرفات التي تدخل في نطاق سلوكه الاجتماعي.
بينما تشمل القواعد الأخلاقية هذا النوع من تصرفات الإنسان وتصرفاته الخاصة التي تدخل في نطاق سلوكه الفردي حتى ولو لم يكن لها أثر على علاقاته بالآخرين.
وعلى هذا نستطيع أن نميز بين ثلاثة مناطق بين القانون والأخلاق من حيث النطاق1:
أ ـ منطقة مشتركة بين القانون والأخلاق:
وهي تلك التي تتعلق بتصرفات الإنسان في المجتمع وصلاته بالغير كالقواعد المتعلقة باحترام حقوق وملكيات الآخرين ومنع ارتكاب الجرائم فهي قواعد يفرضها القانون والأخلاق معاً.
ب ـ منطقة خاصة بالأخلاق دون القانون:
وهي التي تتعلق بسلوك الإنسان وتصرفاته الفردية التي لا تأثير لها على صلاته بالآخرين.
كالحث على الصدق والشجاعة, فهي عبارة عن قواعد تفرضها الأخلاق وحدها دون القانون. لأنها لا تؤثر على صلاته بالآخرين وعلى حياته الاجتماعية.
وعلى هذا فإن القاعدة تظل تعتبر أخلاقية لا قانونية طالما أنها تتعلق بالفرد وحده دون أن تؤثر على الآخرين في المجتمع, أما إذا امتد تأثيرها إلى هؤلاء فتصبح قاعدة أخلاقية قانونية معاً.
فالأخلاق مثلاً تستنكر الكذب العادي الذي لا ينجم عنه ضرر للغير ولكن القانون لا يعاقب عليه, أما إذا نجم عن هذا الكذب ضرراً للغير كما في شهادة الزور, فلا يكون منع هذا الكذب قاعدة أخلاقية فقط بل قاعدة أخلاقية وقانونية معاً. وكذلك الأمر بالنسبة للأفعال الأخلاقية الأخرى كالجبن والفرار وما إلى ذلك.
ج ـ منطقة خاصة بالقانون دون الأخلاق:
كما في القواعد المتعلقة بتنظيم السير التي يفرضها القانون لتأمين النظام وتجنب الصدمات والحوادث.
2 ـ اختلاف القانون والأخلاق من حيث الشدة:
إذا كانت هنالك منطقة مشتركة بين القانون والأخلاق, وهي تلك التي تتعلق بتصرفات الإنسان ذات الصلة بحياته الاجتماعية وعلاقته بالآخرين في المجتمع, فإن القواعد القانونية قد تختلف في بعض الأحيان عن القواعد الأخلاقية في هذا المجال وتكون أقل شدة منها وأكثر تساهلاً بسبب مقتضيات المصلحة والضرورة.
وهنا يثور التساؤل التالي: لماذا تختلف قواعد القانون عن قواعد الأخلاق في حقل التنظيم الاجتماعي ؟
لأن الأخلاق تهدف دوماً إلى الإصلاح التام والكمال المطلق بينما يحرص القانون على مراعاة اعتبارات أخرى كالمصلحة والنفع إلى جانب المثل الأخلاقية التي يحاول تحقيقها.
$فالأخلاق مثلاً لا ترض أن يمتنع إنسان عن وفاء دينه مهما مر على هذا الدين من مدة أو زمن دون المطالبة به من صاحبه, أما القانون فإنه يبيح لهذا الإنسان أن يمتنع عن وفاء دينه بعد فترة معينة من الزمن إذا لم يطالبه به صاحبه خلال هذه الفترة وهذا ما يسمى بالتقادم لأنه يعتبر أن المصلحة تقتضي بألا تظل المنازعات القانونية قائمة دوماً ومستمرة.
وكذلك قد يعتبر منافياً للأخلاق أن يغبن البائع المشتري غبناً فاحشاً في ثمن ما يشتريه منه, ولكن القانون قد لا يمانع هذا الغبن إلا في ظروف خاصة, حرصاً على المصلحة التي تقضي باستقرار المعاملات وعدم إفساح المجال لإبطال العقود بصورة واسعة1.
وقد أشار الفقيه الفرنسي بورتاليس إلى هذا المعنى حيث قال:
" ما لا يكون مخالفاً للقوانين فهو مشروع, ولكن ليس كل ما هو مطابق للقوانين يكون شريفاً دوماً, لأن القوانين إنما تهتم بالمصلحة السياسية للمجتمع أكثر من اهتمامها بالكمال الخلقي للإنسان “.
3 ـ اختلاف القانون والأخلاق من حيث المؤيد أو الجزاء:
إن القواعد القانونية تتميز بأنها مؤيدة من قبل الدولة التي تستطيع فرضها بالقوة, أما القواعد الأخلاقية فإن الذي يفرضها على المرء هو ضميره ووجدانه أو الضمير العام في المجتمع ولكن بدون تدخل الدولة, فالإنسان يمتنع عن الكذب لأنه يكرهه أو خشية احتقار الناس له.
ولكن على الرغم من الفوارق بين الأخلاق والقانون فالصلة بينهما قوية جداً, ذلك لأن القاعدة الأخلاقية تحاول دوماً أن تصبح قاعدة قانونية والقواعد القانونية مستمدة في أغلبها من الأخلاق مما يمكننا من القول أن القانون ليس سوى الأخلاق حين ترتدي صبغة إلزامية.
الفصل الثاني
أسس القانــــون
سنحاول في هذا الفصل اعطاء لمحة موجزة عن أهم المذاهب والمدارس التي تولت البحث في أسس القانون وعرض آرائها ونظرياتها المختلفة عرضا سريعا وفقا لما يلي:
الفرع الأول: المذاهب الشكلية
الفرع الثاني: مدرسة القانون الطبيعي
الفرع الثالث: المدرسة التاريخية
الفرع الرابع: مذهب التضامن الاجتماعي
الفرع الخامس: مذهب العلم والصياغة
الفرع الأول
المذاهب الشكلية
أولاً:عرض النظرية
هذه المذاهب لا تبحث عن الأسس الخفية التي يقوم عليها القانون والعوامل العميقة التي تؤثر في وجوده بل تنظر فقط إلى القانون بوجهه الظاهر كمجموعة قواعد تقرها السلطة العامة أو الدولة فتعالجها على هذا الأساس دون أن تحاول التغلغل إلى ما وراء هذه القواعد للبحث في أسباب وعوامل نشوء تلك القواعد على هذا النحو.
والقواعد القانونية وفقاً لهذه المذاهب هي التي تتبناها الدولة فعلاً وتفرضها (وتسمى بالقواعد القانونية الوضعية ) وإذا أراد الباحث أن يبحث بها فعليه أن يبحث دون أن يتعداها إلى ما ورائها1.
وهذا القواعد جاءت موافقة لإرادة المشرع الممثلة لإرادة الدولة فالدولة هي المصدر الحقيقي للقواعد القانونية وهي أساسها الأول, وكل ما تعتبر الدولة من زمرة القانون يدخل في نطاقه فالقانون ما هو إلا مشيئة الهيئة الحاكمة أو الدولة ولا حاجة للبحث عن أسس أخرى فيما عدا هذه المشيئة.
وأهم فلاسفة هذا المذهب2:
الفقيه الإنكليزي "أوستن" الذي يستمد مذهبه من نظريات الفيلسوف "هوبز".
الفيلسوف هيجل الألماني.
الفقيه النمساوي كيلسن.
بعض الفقهاء الفرنسيين أنصار النظرية الوضعية وخاصة (ده مالبر ـ فالين).
ثانيا:ً تقدير النظرية
على الرغم من أن المذاهب الشكلية تتضمن نصيباً من الصحة ولكنها في نفس الوقت يمكن أن تعتبر خطرة وغير كافية:
أما أنها تعد صحيحة:
لأن القانون مرتبط بالدولة ومتصل بها كل الصلة وعلى هذا يجب أن تعتبر من زمرة القانون كل ما تعتبره الدولة كذلك وأن يعتبر خارجاً عنها كل ما لا ترضى الدولة أن تعتبره فتبنّي الدولة للقواعد القانونية أو إقرارها إياها هو المعيار الأكيد المباشر الذي يدلنا على صحة هذه القاعدة.
أم أنها تعد خطرة:
لأن المغالاة في الأخذ بهذه المذاهب قد يؤدي إلى تبرير استبداد الدولة وسيطرتها المطلقة أو إذا كان القانون هو مشيئة الدولة فقط فلا مجال بعدئذ إلى الشك في قيمة هذا القانون ومناقشته ما دام قد صدر عن الدولة ذات السلطان المطلق وصاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في هذا الشأن.
فالدولة بحسب هذه المذاهب ـ وخاصة المتطرفة منها كالمذاهب الألمانية ـ هي كل شيء وكل ما يصدر عنها من قواعد قانونية لا سبيل إلى الطعن فيه وهذا مما يؤدي أحياناً إلى تبرير بعض القواعد الصادرة عن الدولة التي قد لا تحقق العدل تماماً أو لا تحقق المصلحة العامة.
لماذا تعتبر المذاهب الشكلية غير كافية لتفسير أسس القانون ؟
$ - ذلك لتوقفها حين البحث عن هذه الأسس عند إرادة الدولة فقط واعتبار إياها الأساس الوحيد الذي يبنى عليه هذا القانون دون أن تحاول التعمق إلى ما وراءها والبحث عن العوامل الحقيقية التي تؤدي إلى نشوء القانون والأسس البعيدة التي يبنى عليها.
فإذا كانت الدولة هي الأساس المباشر الذي يبنى عليه القانون, فمن المهم أن نعرف ما هي الاعتبارات والعوامل التي تؤثر على إرادة الدولة نفسها حين انتقائها للقواعد القانونية, لأن الدولة لا تضع هذه القواعد اعتباطاً وإنما هي تقيمها على أسس ترتكز إليها وتبررها.
ومن هنا يتبين لنا عدم إمكان الاكتفاء بالمذاهب الشكلية وضرورة البحث فيما وراء إرادة الدولة عن الأسس العميقة التي يبنى عليها القانون.
الفرع الثاني
مدرسة القانون الطبيعي
أولاً:عرض النظرية
تعتبر هذه النظرية من أهم النظريات التي وجدت للبحث في أساس القانون فقد اعتبر قانوننا المدني القانون الطبيعي مصدراً أخيراً للقواعد القانونية يلجأ إليه القاضي للحكم بموجبه حين فقدان المصادر الأخرى وبالتالي فإن لمبادئ القانون الطبيعي فائدة عملية خاصة من حيث إمكان تطبيقها مباشرة من قبل القاضي بالإضافة إلى فائدتها الأصلية كأسس مثالية ترتكز عليها القواعد القانونية الوضعية.
ويرجع تاريخ هذه النظرية إلى عهد بعيد فقد عرفها اليونان والرومان وعرفها القانون الكنسي في القرون الوسطى ولكنها اكتسبت شكلها العلمي في القرن السابع عشر, وقد نادى بها عدد كبير من الفقهاء والفلاسفة وعلى رأسهم الهولندي غروسيوس1.
ومما زاد في أهمية هذه النظرية وانتشارها أن الثورة الفرنسية قد تبنتها وأخذت بها في مبادئها، وتتلخص هذه النظرية في النقاط التالية2:
1- تعتقد هذه النظرية أن هنالك إلى جانب القواعد القانونية الوضعية المطبقة فعلاً قواعد مثالية عادلة تسمو على القواعد الوضعية وتفرضها طبيعة الأشياء نفسها بالنسبة لعلاقة البشر فيما بينهم ومن هنا سميت النظرية القانون الطبيعي.
2- هذه القواعد التي تفرضها الطبيعة نفسها إنما يدلنا عليها ويكتشفها العقل السليم.
3- هذه القواعد مطلقة ثابتة لا تتغير ولا تزول فهي عامة بالنسبة لجميع الشعوب وواحدة بالنسبة لجميع الأزمنة.
4- إن هذه القواعد هي التي يجب أن تفرض نفسها وتهيمن على القواعد الوضعية فهي الأساس الذي يجب أن تستند إليه القواعد الوضعية لكي تكون واجبة الاحترام عليها ألا تخالف مبادئ القانون الطبيعي وتحرص على تطبيقها.
ونعرض لبعض الأمثلة التي تعتبر من مبادئ وقواعد القانون الطبيعي:
1 ـ احترام الحرية والملكية والسلامة الإنسانية.
2 ـ احترام المواثيق والعهود والوفاء بها.
3 ـ فرض تعويض عادل عن الأضرار التي يلحقها شخص بآخر بدون حق.
وهذه الأمور تعتبر طبيعية لأن العقل يرشدنا على صحتها حتى ولو لم تنص عليها القواعد القانونية الوضعية.
وتؤمن هذه النظرية بأن هناك حقوقاً أساسية فطرية للإنسان يستمدها من طبيعته ذاتها كانسان أهمها:
الحق في الحرية الذي تعتبره حقاً مقدساً لا يجوز النيل منه أو التجاوز عليه حتى من قبل الدولة نفسها.
وبالتالي فإن هناك صلة قوية تربط بين مذهب القانون الطبيعي والمذهب الفردي الذي يدعو أيضاً إلى تقديس الحرية.
ثانيا ً:تقدير النظرية
1 ـ ميزاتها:
إن نظرية القانون الطبيعي نظرية ذات طابع إنساني أو مثالي وقد ساعدت كثيراً على مقاومة الطغيان والاستبداد.
وهي على نقيض المذاهب الشكلية, إذ تعتبر أن هنالك مبادئ وقواعد عادلة تفرضها طبيعة الأشياء ويكتشفها العقل السليم ولا تتغير في الزمان أو المكان تحاول أن تجعل من فكرة العدالة مثلاً أعلى منفصلاً عن إرادة الدولة لا منبعثاً عنها, بل هي تحاول أن تحد من إرادة الدولة نفسها ومن سلطانها حين توجب عليها أن تستلهم في قواعدها القانونية التي تضعها مبادئ القانون الطبيعي المثالية العادلة وألا تخالفها في حال من الأحوال1.
2 ـ عيوبها:
إن الاعتقاد بوجود مبادئ مثالية مطلقة ثابتة في الزمان والمكان هو أمر فيه الكثير من الإغراق في التفاؤل والبعد عن الواقع. فالواقع يدلنا على أن هذه المبادئ نسبية لا مطلقة, فما نعتبره قانوناً طبيعياً في عصر من العصور أو بالنسبة لشعب من الشعوب قد لا يعتبر كذلك في عصر غيره أو بالنسبة لشعب آخر.
فنظام الرق مثلاً الذي نعتبره اليوم من أشد الأنظمة مخالفة لمبادئ القانون الطبيعي قد ساد زمناً طويلاً بالنسبة لأغلب شعوب العالم دون أن يستنكره العقل البشري آنذاك أو يأباه وفي هذا دليل واضح على أن المبادئ التي نسميها بمبادئ القانون الطبيعي هي أقرب ما تكون في الواقع إلى معتقداتنا وآرائنا الشخصية التي نؤمن بها منها إلى مثل عليا ثابتة لا تتغير.
ثالثا:ً تطور النظرية
القانون الطبيعي ذو المضمون المتغير والتي يعتبر أكبر مؤسسيها الفيلسوف الألماني ستاملر.
حاولت النظرية الجديدة أن تبقي على فكرة وجود القانون الطبيعي ولكن دون أن تعتبر أن المبادئ التي يتضمنها بمثابة هي مبادئ ثابتة مطلقة, بل اعترفت بنسبية هذه المبادئ وإمكانية تطورها1.
لكن هذا التطوير الذي طرأ عليها كاد أن يبعد النظرية عن هدفها الأصلي الذي ترمي إليه وأن يفقدها الكثير من أهميتها إذ أن هدف النظرية هو إقامة أسس ثابتة ومبادئ مثلى مطلقة للقواعد القانونية الوضعية أما أنصار التطوير فقد نادوا بنسبية الأسس وقابليتها للتغيير.
ومهما يكن من أمر هذه الانتقادات فإن نظرية القانون الطبيعي يظل لها الفضل الأكبر في أنها نبهت الأذهان إلى ضرورة التمسك بمبادئ مثلى تخضع لها القواعد القانونية الوضعية وهذه المبادئ والمثل إنما تدور كلها حول فكرة العدالة ذاتها وتنصهر فيها2.
الفرع الثالث
المدرسة التاريخية
أولاً:عرض النظرية
اشتهرت هذه النظرية في مطلع القرن التاسع عشر وجاءت كرد فعل لنظرية القانون الطبيعي التي تبنتها الثورة الفرنسية ولحركة التشريع الواسعة التي أخذت بالتزايد والانتشار في ذلك الوقت.
أخذ بهذه النظرية عدد كبير من الفقهاء الألمان وعلى رأسهم سافيني والذي أوضح مبادئه في رسالة شهيرة رد فيها على الفقيه تيبو الذي كان يدعو إلى تبني قانون مدني ألماني شبيه بالفرنسي.
وتقوم هذه النظرية على الاعتقاد بأن القانون من صنع الزمن ويتطور وفقاً لتطور المجتمع وحاجاته وأنه لا توجد قواعد ثابتة عامة بالنسبة لجميع الشعوب وجميع العصور وإنما هنالك نظم قانونية مختلفة يختص كل منها بأمة من الأمم وهو يتصل بتاريخها وماضيها ويتطور معها كما تتطور اللغة والتقاليد وسائر العلاقات الاجتماعية1.
فالنظرية التاريخية تعارض نظرية القانون الطبيعي ولا تؤمن بوجود أسس ثابتة يدل عليها العقل ويرتكز إليها القانون الوضعي بل ترى بأن القانون ينشأ عفوياً بفعل القوى الداخلية الكامنة في المجتمع.
فالشعب على مر العصور هو الذي ينشأ قواعده القانونية تبعاً لحاجاته.
والنظام القانوني في كل أمة إنما هو عصارة ماضيها ووليد تراثها التاريخي2.
ثانيا ً:تقدير النظرية
1ـ ميزاتها:
إن النظرية التاريخية تتضمن جانب كبير من الصحة من حيث أنها تبين أثر المجتمع في تكوين النظم القانونية وتطورها ومدى اختلاف هذه النظم باختلاف الأزمنة.
2 ـ عيوبها3:
من أهم الانتقادات التي وجهت للنظرية التاريخية:
أ- إن النظرية التاريخية إذ تعتبر أن النظم القانونية تنشأ وتتطور بصورة عفوية بفعل القوى الداخلية الكامنة في المجتمع إنما تنكر في الوقت نفسه أثر الإرادة الإنسانية الواعية في إنشاء هذه النظم وتطورها وفي الواقع يقول أيهرنج أن التطور لا يتم دوماً من تلقاء نفسه ولكن بعد صراع عنيف سعياً وراء غاية مرسومة, كما أن أغلب المبادئ القانونية السائدة في عصرنا كإلغاء الرق مثلاً لم يتم اكتسابها عفوياً ولكن بعد صراع مرير من أجلها, فالإنسان يلعب دوراً إيجابياً في إيجاد القانون وتطوره.
ب- تعتبر النظرية التاريخية أن خير مصدر للقواعد القانونية هو العرف الذي يتبع المجتمع في تطوره ويخضع له, وهي تنظر نظرة المرتاب إلى التشريع لأنه بإقراره قواعد ثابتة يحد من التطور الطبيعي للقانون ويعيق تقدمه كما ترى أن دور التشريع يجب أن لا يتعدى إقرار ما تقضي به الأعراف وتبنيه.
ولكن من المغالاة اعتبار التشريع يعيق دوماً تطور القانون وخاصة في عصرنا الذي أصبح من السهل فيه إصدار التشريعات المختلفة في شتى المناسبات ووفقاً لتطور الحاجات الاجتماعية كما أنه من الخطأ القول أن التشريع يجب أن يقتصر فقط على إقرار الأعراف وتبنيها إذ كثيراً ما نجد أن التشريع يأتي ليعدل في هذه الأعرف أو ليلغيها حين يجد المشرع أنها لم تعد تناسب مصلحة المجتمع1.
ت- إن النظرية التاريخية تؤكد أن هنالك لكل أمة نظاماً قانونياً خاصاً بها يخضع لمؤثراتها الداخلية وهو الوحيد الذي يلائمها ويفي بحاجاتها وهي في الوقت نفسه تنفي إمكانية اقتباس الأمم بعضها من بعض بالنسبة لهذه النظم.
فإذا كانت النظم القانونية تتأثر بالبيئة فإن هذا التأثير ليس كبيراً إلى الحد الذي يصعب معه كل تقارب أو اقتباس بينها.
بل إن التجارب قد أثبتت أنه من الممكن في كثير من الأحيان أن تتبنى أمة من الأمم قوانين أمة غيرها وأن تطبقها لديها وتستفيد مما تتضمنه من مبادئ وقواعد كما فعلت بلادنا عندما استمدت التشريعات المدنية والتجارية والجزائية الحديثة من التشريعات الأجنبية.
الفرع الرابع
مذهب التضامن الاجتماعي
أولاً: عرض النظرية
إن صاحب هذه النظرية هو الفقيه الفرنسي ديجي الذي يعد من أنصار المدرسة الوضعية العلمية التي يتزعمها الفيلسوف أوغست كونت.
وقد حاولت هذه المدرسة أن تتبنى في دراسة العلوم الاجتماعية ومن بينها علم القانون الطريقة العلمية المتبعة في دراسة العلوم الطبيعية القائمة على الملاحظة والتجربة, وقد حاول ديجي في دراسته للعوامل التي تؤدي إلى نشوء القواعد القانونية وتطورها أن يتوصل إلى تقرير بعض الحقائق العلمية ليستنتج منها نظريته عن التضامن الاجتماعي1.
الحقائق الأولية التي بنى عليها ديجي نظريته:
هي وجود مجتمع بشري لا يمكن للإنسان أن يعيش منعزلاً عنه من جهة ووجود تضامن بين أفراد المجتمع الواحد تفرضه عليهم طبيعة الحياة المشتركة من جهة ثانية وهذا التضامن هو:
- تضامن بسبب التقسيم في العمل.
- تضامن بسبب التشابه في الحاجات.
فتشابه حاجات الناس وتعددها وتوزيع العمل فيما بينهم لتأمين الحاجات التي لا يستطيع كل منهم أن يؤمنها بمفرده هما السبب في تعاونهم على العيش المشترك وتضامنهم الذي يفرضه عليهم نمط حياتهم.
ومن هنا وصل ديجي إلى النتيجة التالية:
القواعد القانونية توجد وتتطور لتحقق التضامن الاجتماعي في أحسن صوره وكل
ما من شأنه تحسين هذا التضامن يجب على القواعد القانونية أن تتبناه.
نتيجة أساسية في نظرية التضامن الاجتماعي:
فكرة التضامن الاجتماعي هي الأساس الصحيح الذي يجب أن تبنى عليه القواعد القانونية.
وحسب هذه النظرية إن ما يرينا مدى ملاءمة القواعد القانونية لهذه النظرية (هو البحث في ضمير أفراد المجتمع الذي توضع من أجله فإذا تأكد لدينا شعور هؤلاء الأفراد بضرورتها لدعم التضامن الاجتماعي اعتبرناها قاعدة قانونية واجبة التطبيق).
فلا يتم التأكد من مطابقة قاعدة قانونية لمفهوم التضامن الاجتماعي بمقارنتها بمبادئ ومثل نفرضها ونسلم بها.
مقارنة بين نظريتي التضامن الاجتماعي والقانون الطبيعي:
- نظرية القانون الطبيعي تؤمن بوجود مبادئ وقواعد طبيعية ثابتة أهمها الحقوق الفطرية الفردية للإنسان مثل الحرية والملكية التي من الواجب تقديسها والمحافظة عليها
- بالنسبة لنظرية التضامن الاجتماعي: الحقوق الفردية كسائر الحقوق التي تقرها القاعدة القانونية لا يمكن أن تبنى على مبادئ القانون الطبيعي والتي هي عبارة عن مبادئ مفترضة ولا تقوم على أساس علمي وإنما تبنى على فكرة التضامن الاجتماعي التي هي عبارة عن حقيقة واقعة يؤكد البحث العلمي وجودها.
نقاط هامة في النظرية:
- الحقوق الفردية حسب مبدأ ديجي لا يمكن أن تحترم إلا بالقدر الذي تحقق فيه المزيد من التضامن الاجتماعي ولا تتعارض معه, أما إذا تعارضت معه فإنها لا تستدعي الاحترام ويجب الحد منها وفقاً لمقتضيات الضرورة الاجتماعية.
-الحق الفردي حسب نظرية ديجي أقرب ما يكون إلى وظيفة اجتماعية تساهم في تدعيم التضامن الاجتماعي منه إلى حق طبيعي مقدس تغلب عليه الصبغة الفردية.
ثانياً: تقدير النظرية
1ـ ميزاتها1:
تمتاز نظرية ديجي في ناحيتين هما:
أ ـ أظهرت أهمية اللجوء إلى الطريقة العلمية في دراسة الوقائع والظواهر القانونية والكشف عن أسباب نشوئها وتطورها.
ب ـ جعلت من فكرة التضامن الاجتماعي الغاية الأساسية التي يجب أن تستند إليها القاعدة القانونية الوضعية وتسعى إلى تحقيقها.
كما أنها تصلح أن تكون مستنداً قوياً تعتمده المذاهب الاشتراكية.
1ـ عيوبها1:
الانتقادات التي وجهت إلى نظرية التضامن الاجتماعي أو الانتقادات التي وجهت إلى مذهب ديجي:
أ- الاقتصار على طريقة العلوم الطبيعية في دراسة الظواهر الاجتماعية فيه الكثير من مغالاة على اعتبار أن العلوم الطبيعية تدرس ما هو كائن أما العلوم الاجتماعية ومن بينها علم القانون تدرس ما هو كائن أيضاً وإنما لا نكتفي في دراستنا لعلم القانون بإظهار القواعد التي تحكم علاقات الأفراد في المجتمع ولكننا نرمي أيضاً إلى تحديد القواعد التي يجب أن تسود هذا المجتمع وإلى جانب معرفة الوقائع التي يدلنا عليها العلم لا بد لنا من التمسك بمثل أعلى يرشدنا إليه العقل.
وديجي لا ينكر وجود مثل هذه المثل لكنه لا يفترض هذه المثل افتراضاً مبنياً على العقل وإنما يستنتجه استنتاجاً بالطريقة العلمية التي تقوم على ملاحظة الوقائع وتفسيرها والمثل الذي تدل عليه هذه الوقائع هو التضامن الاجتماعي بحسب نظرية ديجي.
ب- الحقائق التي يحاول أن يثبتها ديجي بالطريقة العلمية وبالرغم من صحتها ليست هي كل شيء تدلنا عليه ملاحظة الوقائع الاجتماعية فعلى الرغم من كون الإنسان كائن اجتماعي إلا أنه يحتفظ بشيء من الكيان الذاتي والشخصية المستقلة وعلى الرغم من قوة عامل التضامن الاجتماعي فهو ليس الوحيد بالنسبة لهم.
فإلى جانبه هناك عوامل التنافس وتنازع البقاء مثلاً وإذا كان ديجي قد اختار عامل التضامن ليبني عليه نظريته فهو لم يقم بذلك استناداً إلى دراسة الواقع فحسب لأن الوقائع تكشف لنا عن عوامل أخرى غيره وهو يثبت بهذا أنه لا يستطيع أن يستغني عن استلهام العقل إضافة لدراسة الواقع2، وفيما بعد كان ديجي قد أضاف إلى فكرة التضامن الاجتماعي فكرة العدالة.
ت- اعتماد ديجي على معرفة شعور الأفراد إزاء ملاءمة القاعدة القانونية لفكرة التضامن الاجتماعي عرضه للنقد خاصة من الفقيه البلجيكي (دابان) الذي يرى عدم ثبوت اتجاهات الشعور الشعبي وعدم تميزها ففي كثير من الأحيان يكون الشعور الشعبي ليس له رأي معين اتجاه بعض الأمور القانونية وإذا وجد فقد يكون اتجاهات متعارضة لا يمكن استجلاء مفهوم واضح منها.
الفرع الخامس
مذهب العلم والصياغة
أولاً - عرض النظرية:
حاول فقهاء القرن العشرين وفي مقدمتهم الأستاذ جيني استخلاص وجمع النقاط الصحيحة التي ينادي بها كل مذهب من المذاهب وأطلق عليه اسم مذهب العلم والصياغة1، ويرى الأستاذ جيني أن علم القانون علم معقد وأنه يقوم على عنصرين رئيسين هما:
1 ـ عنصر العلم.
2 ـ عنصر الصياغة.
- أما عنصر العلم فهو الذي يقدم لنا الحقائق التي تصلح أن تكون أساساً لاختيار القواعد القانونية الملائمة.
- وعنصر الصياغة هو الذي يتيح لنا أن نصوغ هذه القواعد القانونية بشكل معين يجعلها صالحة للتطبيق العملي2.
يرى جيني أن عنصر العلم يتضمن أربعة حقائق مستمدة من أحد المذاهب المعروفة في تحديد أسس القانون حيث تعتبر هذه الحقائق بمثابة عوامل تؤثر في تكوين القواعد القانونية أي أسس تبنى عليها هذه القواعد.
أما الحقائق التي عددها جيني:
1 ـ الحقائق الواقعية.
2 ـ الحقائق التاريخية.
3 ـ الحقائق العقلية.
4 ـ الحقائق المثالية.
1 ـ الحقائق الواقعية:
تتضمن الظروف (المادية, الطبيعية, المعنوية) التي تحيط بنا كالأحوال الفيزيولوجية والاقتصادية والاجتماعية والدينية, وهي أمور يجب مراعاتها حين وضع قاعدة قانونية
2 ـ الحقائق التاريخية:
التطورات التي مرت بها القواعد والمؤسسات القانونية.
3 ـ الحقائق العقلية:
وهي المبادئ التي يوحي لنا بها العقل ويدلنا على صحتها.
4 ـ الحقائق المثالية:
وهي الأهداف التي يطمح إليها كل مجتمع ويعمل على تحقيقها.
وعلى سبيل المثال لتوضيح الحقائق:
أحكام الزواج:
يدفعنا عامل الواقعية: إلى أن نأخذ بعين الاعتبار بعض الأمور الفيزيولوجية كاختلاف تركيب بنية الرجل والمرأة أو اشتراط البلوغ وما إلى ذلك.
- يدفعنا عامل الحقائق التاريخية: لدراسة التطور التاريخي للعائلة ومعرفة المراحل التي مرت بها حتى اكتسبت صورتها الحالية.
- يدفعنا عامل الحقائق العقلية: إلى الاستدلال عن طريق العقل بأن الزواج يجب أن يكون طريقة لإنشاء أسرة وإيجاد الاستقرار.
- يدفعنا عامل الحقائق المثالية: إلى استجلاء الأهداف البعيدة التي يرمي إليها المجتمع الذي توضع لأجله القواعد القانونية.
ومن خلال دراسة طريقة جيني في وضع نظريته نستنتج ما يلي أن جيني استمد:
- عامل الحقائق الواقعية من المدرسة الوضعية العلمية.
- عامل الحقائق التاريخية من المدرسة التاريخية.
- عامل الحقائق العلمية من مدرسة القانون الطبيعي.
- عامل الحقائق المثالية من مذهب ايهرنج.
ثانياً: تقدير النظرية1:
1- ميزاتها:
تمتاز بعدم المغالاة والاعتدال ومحاولة الاستفادة من وجهة نظر من سبقها (بطريقة صحيحة) استطاع جيني أن يتحرر من خطأ من سبقه (الذين تبنوا عامل واحد من هذه العوامل).
2- عيوبها
النقد الذي وجه إلى النظرية:
نقدها الأستاذ روبيه بقوله: جمعت هذه النظرية تحت لواء العلم عدداً من الحقائق التي لا تندرج جميعها تحته فالحقائق الواقعية والتاريخية صحيح أنها من قبل الحقائق العلمية أو الحقائق المثالية والعقلية إلا أنها أقرب إلى السياسة القانونية التي تعتمد العقل أكثر من الحقائق العلمية.
الفصل الثالث
أقسام القانون
يقسم القانون إلى زمرتين رئيسيتين وهما: زمرة القانون العام وزمرة القانون الخاص. وسنحاول التعريف بالقانون العام والقانون الخاص والمقارنة بينهما, ثم اعطاء لمحة موجزة عن مختلف فروعهما. وذلك وفقا لما يلي:
الفرع الأول: القانون العام والقانون الخاص
الفرع الثاني: فروع القانون العام
الفرع الثالث: فروع القانون الخاص
الفرع الأول
القانون العام والقانون الخاص
تعريف القانون العام1:
هو القانون الذي ينظم العلاقات التي تكون الدولة بصفتها صاحبة السيادة طرفاً فيها فهو ينظم أجهزة الحكم وعلاقة الدولة مع غيرها من الدول والأفراد.
تعريف القانون الخاص:
هو القانون الذي ينظم العلاقات التي لا تكون الدولة بصفتها صاحبة السيادة والسلطان طرفاً فيها وهي علاقات الأفراد فيما بينهم وأحياناً علاقتهم مع الدولة أي حين لا تدخل الدولة بصفتها صاحبة السيادة بل كأي فرد عادي.
وإذا نظرنا لأي مجتمع من المجتمعات من السهل علينا ملاحظة وجود فئتين في هذا المجتمع:
فئة حاكمة تتمثل بالدولة ومؤسساتها وأجهزة الحكم فيها.
فئة محكومة تتمثل بالأشخاص العاديين من طبيعيين أو اعتباريين.
ونلاحظ أيضاً أن الفئة الحاكمة الممثلة بالدولة تتمتع ببعض الامتيازات الخاصة التي تقتضيها طبيعتها كهيئة حاكمة ومنها:
تنظيم جهاز الحكم, جباية الضرائب, علاقة الدولة مع موظفيها.
أما ما يتعلق بالأفراد من قواعد قانونية تنظم علاقاتهم فيما بينهم:
كقواعد الزواج والطلاق والبيع والشراء والإيجار والتجارة.... فيعتبر من قواعد القانون الخاص.
مثال (1):
إذا أرادت الدولة أن تشق سكة حديد وهذه السكة سوف تمر بأراضي الغير في هذه الحالة لا يأتي ممثل عن الدولة ويتفاوض مع أصحاب هذه الأراضي: لأن الدولة دخلت في هذه العلاقة بوصفها صاحبة السيادة والسلطان أي: تملك امتيازات لا يملكها الأفراد وذلك يعني أن هذا التصرف يدخل ضمن نطاق القانون العام.
مثال (2):
شخص لديه بناء وأرادت إحدى الوزارات أن تتخذه مقراً لها وطلبت استئجار البناء الذي يملكه.
هل يستطيع هذا الشخص أن يرفض هذا العرض ؟ في هذه الحالة نعم, لأن الدولة دخلت في هذه العلاقة بوصفها شخصاً عادياً وليس بوصفها صاحبة السيادة ولهذا يستطيع الشخص الرفض إن أراد.
ونلاحظ أن هذه العلاقة تدخل ضمن نطاق القانون الخاص.كما و حاول الفقهاء تصنيف القانون إلى مكتوب وغير مكتوب والمقصود بالكتابة: يجب أن تكون صادرة عن سلطة تشريعية بشكل كتابي كالدستور مثلاً ثم يجب أن يتم نشرها.وبالتالي فإن جمع عدة أعراف وكتابتها لا يعني أنها أصبحت قانون مكتوب.
معيار التفريق بين القانون الخاص والعام:
إن تقسيم القانون إلى عام وخاص يعود إلى عهد بعيد فقد عرف عند الرومان حيث اعتبروا من القانون الخاص كل ما يتعلق بمصالح الأفراد.
وقد حاول رجال القانون إيجاد معيار أو ضابط دقيق بين القانون العام والخاص لضبط القواعد القانونية لكنهم فشلوا في أغلب محاولاتهم.
أما المعايير الأكثر نصيباً في الصحة والصواب1:
1 ـ المفهوم المالي:
إن أكثر القواعد المنظمة للعلاقات المالية (بيع ـ شراء) هي من القانون الخاص أما القواعد التي تنظم العلاقات الأخرى كتنظيم جهاز الدولة هي من القانون العام.
وإذا أمعنا النظر نجد أن هذا المعيار غير صحيح إذ أن كثيراً من القواعد التي تنظم أموراً لا أثر للمفهوم المالي فيها تعتبر من القانون الخاص لا العام (كالقواعد الرامية إلى تنظيم العلاقات العائلية مثلاً) وهناك أموراً مالية كثيرة لها علاقة مباشرة بالقانون العام (كالضرائب والأملاك العامة).
2 ـ المصلحة العامة والمصلحة الخاصة:
أصحاب هذا المعيار برأيهم: القانون الخاص هدفه الرئيسي حماية المصلحة الخاصة للأفراد بينما هدف القانون العام حماية المصلحة العامة للمجتمع وهذا المعيار انتشر كثيراً بين رجال القانون إلا أنه بعيد عن الصحة والصواب فليس هناك حدوداً واضحة تمكننا من التمييز بين ما تحققه القواعد القانونية من مصلحة عامة ومصلحة خاصة وهناك عدد كبير من القواعد في القانون الخاص تغلب فيها المصلحة العامة بحيث نعتبرها قواعد آمرة.
مثال:
أمور العمل والعائلة تهدف إلى تحقيق المصلحة العامة وحمايتها وتصنف ضمن القانون الخاص.
3 ـ صفة أطراف العلاقة القانونية:
إذا كانت الدولة بصفتها صاحبة السيادة والسلطان هي أحد أطراف هذه العلاقة اعتبرنا هذه القواعد من القانون العام. وإذا كانت الدولة بمثابة الفرد العادي بدون سلطة متدخلة كانت هذه القواعد من القانون الخاص.
ويظهر أن هذا المعيار أفضل المعايير.
صعوبة التفريق بين القانون العام والقانون الخاص:
ليس من السهولة التفريق بين الزمرتين حتى أن العلماء اختلفوا في تصنيف بعض فروع القانون وتحديد الزمرة التي تنتسب إليها كالقانون الجزائي وأصول المحاكمات المدنية والتجارية.
القانون الجزائي:
يعتبر لدى معظم العلماء من فروع القانون العام " باعتبار المجتمع هو المتضرر الأول من الجريمة في حين " يصنفه البعض في زمرة القانون الخاص باعتبار أن القانون الجزائي يتعلق بحماية الأفراد في حياتهم وأعراضهم وأموالهم كذلك أصول المحاكمات المدنية والتجارية يرى الكثير من الفقهاء حالياً ضرورة تصنيفها في زمرة القانون العام بينما هي في زمرة القانون الخاص باعتبار أنها تتعلق بتنظيم وتحديد عمل سلطة من أهم سلطات الدولة.
وهي السلطة القضائية لذلك نرى صعوبة التفريق بين هاتين الزمرتين لذلك رأى بعض الفقهاء أن هنالك زمرة ثالثة بين القانون العام والقانون الخاص هي زمرة القانون المختلط1.
التداخل والتأثير المتبادل بين القانون العام والقانون الخاص:
إن تقسيم القانون إلى عام وخاص هو تقسيم مصطنع بعض الشيء ولا يوجد انفصال تام بين هاتين الزمرتين أو اختلاف كبير بين قواعدهما بل على العكس هناك نوع من التداخل والتأثير المتبادل بين قواعد القانون العام وقواعد القانون الخاص وبين أنواع العلاقات في كل منهما.
مثال:
هناك الكثير من المبادئ والقواعد التي تطبق في نطاق القانون العام مستمدة إلى حد كبير من قواعد ومبادئ القانون الخاص (كالقواعد المنظمة للعقود الإدارية أو للمسؤولية الإدارية التي تعتبر من قواعد القانون العام وهي مستمدة من قواعد نظرتي العقد والمسؤولية في القانون المدني الذي هو أبرز فروع القانون الخاص).
وهناك الكثير من قواعد القانون الخاص تفسح للدولة مجالاً كبيراً للإشراف عليها والتدخل بها مثل أمور العمل أو مراقبتها لبعض أنواع الشركات.
ومن أبرز الصور للتداخل بين القانونين الشركات والمشاريع المؤممة.
كالمشاريع التي كان يملكها أفراد تحولت إلى ملكية الدولة بعد الحرب العالمية الثانية مما اعتبره بعض الفقهاء دليلاً على توسع القانون العام.
بينما اعتبر آخرون بأن هذه المشاريع لم تفقد الأساليب والطرائق التي كانت تمارس بها فعالياتها في الماضي وهي أساليب تنظمها قواعد القانون الخاص (ميزانية هذه المشاريع وتنظيم علاقاتها بعمالها وعلاقاتها بالمستهلكين) مما تقدم نلاحظ صعوبة الفصل بين القانونين.
الفرع الثاني
فروع القانون العام
يضم القانون العام الفروع التالية1:
1 ـ القانون الدستوري.
2 ـ القانون الإداري ويلحق به القانون المالي.
3 ـ القانون الجزائي بما في ذلك أصول " المحاكمات الجزائية “.
4 ـ القانون الدولي العام.
القانون الدستوري2:
ويتضمن:
1 ـ المبادئ والقواعد الأساسية التي تحدد: الحقوق والواجبات العامة للمواطنين (الحريات ـ حماية الملكية ـ العدالة ـ المساواة).
2 ـ كيفية تنظيم السلطات العامة في الدولة " من تشريعية ـ قضائية ـ تنفيذية".
وعلاقة هذه السلطات بعضها ببعض ومع الأفراد حتى أن الدستور يسمى أيضاً بالقانون الأساسي والقواعد الدستورية تعتبر أكثر القواعد القانونية أهمية وأعلاها مرتبة.
القانون الإداري والمالي3:
الإداري ويتضمن: القواعد التي:
أ ـ تنظم نشاط السلطة التنفيذية.
ب ـ ممارسة السلطة التنفيذية نشاطها عن طريق الإدارات التابعة لها.
قواعد القانون الإداري لا يجمعها تشريع موحد بل توجد تشريعات متفرقة " كقانون الموظفين ـ بلديات ـ استملاك “.
مباحث القانون الإداري:
يبحث القانون الإداري في:
1 ـ التنظيمات الإدارية وتقسيماتها.
2 ـ نشاط الدولة ومظاهره " أعمال إدارية ـ الوظائف وما يتعلق بها ـ أملاك الدولة “.
3 ـ القضاء الإداري " تنظيمه ومهامه “.
ومن الجدير القول بأن هذا موجز بسيط لأن القانون حالياً في توسع مستمر متزايد في الدول الاشتراكية الحديثة.
القانون المالي1:
ويسمى بالتشريع المالي يتضمن القواعد التي تحدد كيفية " تنظيم الميزانية ـ الموارد ـ وجوه الصرف “.
والموارد تتألف من الضرائب والغلات التي تجنيها من أملاك الدولة ومن القروض التي تعقدها في بعض الأحيان.
أما النفقات متعددة أهمها ما يصرف من أجل رواتب الموظفين أو المشاريع ومصروفات الدفاع والإنشاءات وهناك صلة وطيدة ما بين القانون المالي والإداري.
القانون الجزائي وأصول المحاكمات الجزائية:
القانون الجزائي2: أو قانون العقوبات:
والقانون الجزائي ينقسم إلى قسمين:
1 ـ قسم عام.
2 ـ قسم خاص.
أ- يبحث في الجريمة وأنواعها:
(جنايات ـ جنح ـ مخالفات).
ب- يبحث في عناصر الجريمة وهي:
1 ـ العنصر القانوني " الفعل المرتكب مجرماً بنص القانون “.
2 ـ العنصر المعنوي " توفر النية الجرمية ـ أو الخطأ والإهمال ".
3 ـ العنصر المادي " القيام بارتكاب الجرم أو شرع أو شارك فيه".
ج -يبحث في العقوبة وأنواعها:
تحصر العقوبة بين حدين أعلى وأدنى كما يبحث في حالات عدم المسؤولية عن الجريمة.
أما القسم الخاص: فهو يبحث في أنواع الجرائم المختلفة: القتل ـ السرقة ـ الخيانة ـ التزوير....
والقانون المطبق في بلادنا الصادر بتاريخ 22/6/1949 يشمل مختلف هذه الأبحاث.
أصول المحاكمات الجزائية: تلحق بالقانون الجزائي تتضمن أصول التحقيق والطعن والتنفيذ.
وقانون أصول المحاكمات في سورية الصادر بتاريخ 13/3/1950 حدد السلطات التي يعود إليها أمر ما سبق من تحقيق وجمع الأدلة والقبض على الفاعلين وإحالتهم إلى القضاء وتقديمهم إلى المحاكم المختصة.
القانون الدولي العام1:
ويتضمن:
1 ـ القواعد التي تنظم العلاقات الدولية في حالات السلم والحرب والحياد.
2 ـ ينظم اكتساب الدولة في حالة السلم السيادة والاعتراف بها دولياً والتمثيل السياسي والقنصلي فيما بينها والمفاوضات لفض النزاعات.
3 ـ في حالة الحرب ينظم القانون الدولي علاقات الدول المتحاربة.
(كيفية إعلان الحرب وإنهائها ـ معاملة الأسرى ـ تنظيم استخدام الأسلحة ومنه ما كان منها محرماً دولياً).
1 ـ في حالة الحياد:
يحدد علاقات الدول الحيادية بالمتحاربين يبين الحقوق والواجبات المترتبة عليها.
وأخيراً: القانون الدولي يتضمن القواعد التي تتعلق بالمنظمات الدولية كالأمم المتحدة.
ويحتاج القانون الدولي العام إلى قوة دولية لفرض القواعد التي ينص عليها وإلا أصبح بدون مضمون عملي. ويستمد القانون الدولي مصادره من الأعراف الدولية والاتفاقات والمعاهدات.
بعض عيوب القانون الدولي:
1 ـ عدم مصداقية القانون الدولي.
2 ـ عدم وجود سلطة تشرع القوانين.
3 ـ عدم وجود جزاءات تفرض على خروقات تحدث حاليا وبشكل يومي وخاصة من قبل الكيان الصهيوني
الفرع الثالث
فروع القانون الخاص
يضم قسم القانون الخاص الفروع التالية:
1 ـ القانون المدني بما في ذلك قانون الأسرة والعائلة.
2 ـ القانون التجاري.
3 ـ أصول المحاكمات المدنية والتجارية.
4 ـ القانون الدولي الخاص.
5 ـ بعض الفروع المستحدثة مثل قانوني العمل والزراعة.
القانون المدني1:
تعريفه: القواعد التي تنظم علاقات الأفراد فيما بينهم إلا ما يتناوله بالتنظيم فرع آخر من فروع القانون الخاص.
العلاقات التي تقوم بين الأفراد تقسم إلى نوعين:
1 ـ علاقات عائلية:
$يعود تنظيمها إلى القانون المدني غالباً أما في الدول العربية فلها فرع مستقل نظراً لتعدد الأديان وضرورة خضوع كل طائفة إلى قواعدها الدينية الخاصة بها في مجال أمور العائلة.
$ 2- العلاقات المالية بين الأفراد انفصلت بشكل تدريجي عن القانون المدني وأصبحت لها فروعاً خاصة كقانون التجارة الذي ينظم العلاقات التجارية والعمالية.
لذلك يقتصر القانون المدني في بلادنا العربية على تنظيم العلاقات المالية.
وبالرغم مما تقدم فإن للقانون المدني أهمية بالغة تبدو في الأمور التالية:
1 ـ القانون المدني هو الأصل الذي تفرعت عنه بقية فروع القانون " تجارة وعمل "
2 ـ القانون المدني لا يختص بفئة معينة بل يطبق على جميع المواطنين دون استثناء
3 ـ عند عدم وجود قواعد في فروع القانون الأخرى فعودتها دائماً إلى القانون المدني.
تطور القانون المدني في بلادنا:
ظلت الدول العربية بما فيها سوريا لقرون طويلة تعمل بموجب الشريعة الإسلامية في كل الأمور تستقى من المذاهب المختلفة وتعتمد على: الكتاب ـ والسنة ـ والإجماع ـ والاجتهاد إلا أن الدولة العثمانية أحدثت قانون التجارة والجزاء وتشريع الأحكام العدلية والأمور المتعلقة بالعقارات.
$ وعلى سبيل المثال مجلة الأحكام العدلية التي صدرت سنة 1293 هـ وأخذت قواعدها من المذهب الحنفي.
ومجلة الأحكام العدلية هي من أهم الأعمال التي صاغت الأحكام حيث بقيت سورية تطبق ما ورد في مجلة الأحكام العدلية حتى بعد زوال الحكم العثماني وأجري في عهد الانتداب الفرنسي تعديلاً فرنسياً لبعض النواحي المدنية " قانون الملكية العقارية الصادر سنة 1930 قرار رقم 3339.
$أما بعد استقلال سورية فلقد ألغت التشريعات الصادرة عن كل من:
$الدولتين العثمانية والفرنسية كمجلة الأحكام العدلية والقرار 3339،وصدر بتاريخ 18 أيار 1949 المرسوم التشريعي رقم 84.
$----و القانون المدني الحالي الذي أخذ بكامله تقريباً عن القانون المدني المصري، المستمد $بدوره عن الغرب أما الخلاف الطفيف ما بين القانون المدني السوري والمصري ويتمثل بالأحكام العقارية المأخوذ عن القرار 3339.وقد استغرق اثني عشر عاماً لصدروه من عام 1936 إلى 1948.
أما مصادر القانون المدني المصري المأخوذ عنه القانون المدني السوري فهي:
-التشريع المدني المصري المستمد من التشريع المدني الفرنسي مع بعض التعديلات. إذ طبقت مصر منذ عام 1876 القانون المدني الفرنسي.
- اجتهاد القضاء المصري في تطبيق نصوص ذلك التشريع وتفسيرها وإغنائها بالحلول العملية الملائمة لتطور الحاجات الاجتماعية.
- التشريعات الإسلامية وهي من أهم المصادر التي اعتمد عليها القانون.
- التشريعات أو التقنيات الأجنبية الحديثة. وفي مقدمتها القانون الفرنسي والألماني $والسويسري التي استفاد التشريع السوري منها واستقى أفضل ما فيها.
قانون الأسرة والعائلة1:
$وينظمها حالياً بالنسبة للمسلمين في سورية قانون الأحوال الشخصية صدر بتاريخ 17/9/1953 وهو مستمد من الشريعة الإسلامية ويتضمن أحكام الزواج، والطلاق، والنسب والأهلية والنيابة الشرعية، والوصية والميراث ونحو ذلك.
أما بالنسبة لغير المسلمين من الطوائف المسيحية واليهودية: فقد نصت المادة الأخيرة من هذا القانون على تطبيق ما لدى كل طائفة من أحكام دينية تتعلق بـ (خطبة ـ زواج ـ نفقة $زوجية ـ نفقة صغير ـ بطلان زواج ـ حله ـ رباطه ـ البائنة (الدوطة) ـ الحضانة). $كما نصت المادة قبل الأخيرة من القانون على بعض الأحكام الخاصة بالطائفة الدرزية.
القانون التجاري1:
$يتضمن القواعد التي تطبق بالنسبة للتجار وعلى الأعمال والأمور التجارية.
ويعود سبب انفصاله عن القانون المدني إلى ما يمتاز به من معاملات تجارية تقوم على التبسيط والمرونة والسرعة والثقة.
والقانون التجاري يقسم إلى قسمين هما:
1 ـ القانون التجاري البري.
2 ـ القانون التجاري البحري.
يضاف إليها قسم جديد يختص بالتجارة الجوية.
$أما القانون التجاري البري فينظمه في سوريا القانون الصادر بتاريخ 22/6/1949 وقد صدر قانون جديد في عام 2007 ويبحث بشكل عام في:
(التجار ـ المؤسسات التجارية ـ الشركات التجارية ـ الأعمال التجارية ـ العقود التجارية ـ الأسناد التجارية ـ الأسناد القابلة للتداول ـ الصلح الواقي والإفلاس..).
$وأما القانون التجاري البحري:
فقد صدر بتاريخ 12/3/1950 وينظمه حالياً القانون رقم 46 تاريخ 28/11/2006 ويبحث في: (السفن وملكيتها ـ عقود العمل البحري ـ إيجار السفن ـ عقود النقل البحري ـ الأخطار البحرية وضمانها).
أصول المحاكمات المدنية والتجارية2:
$يتضمن القواعد التي تبين الإجراءات الواجب على المحاكم تطبيقها وعلى الأفراد اتباعها في الدعاوى التي يقيمها هؤلاء فيما يتعلق بأمورهم المدنية والتجارية، وأصول تنفيذ الأحكام الصادرة بشأنها.
$وقد صدر قانون أصول المحاكمات 28/9/1953 فحدد اختصاص كل نوع من المحاكم بالنسبة للدعاوى التي يجوز عرضها عليه، وكيفية رفع الدعوى وإجراء المحاكمة وتنظيم الأحكام وطرق الطعن ملحقاً بها قانون البينات الصادر بتاريخ 10/6/1947. وهي قواعد تنظم الوسائل التي يجب إتباعها واعتمادها لإثبات الحقوق المدعى بها.
وهنا نرى أنه من الضروري إلقاء الضوء على التنظيم القضائي الحالي في سورية1:
إضافة لتنظيمات المحاكم المدنية والتجارية يوجد القضاء الإداري الذي يتمثل في مجلس الدولة ويتألف من قسمين وهما:
1 ـ القسم القضائي.
2 ـ والقسم الاستشاري للفتوى والتشريع.
ويتألف القسم القضائي من:
المحاكم الإدارية ـ محكمة القضاء الإداري ـ المحكمة الإدارية العليا و تقوم إلى جانبها هيئة مفوضي الدولة حيث تحضر الدعوى وتهيئها للمرافعة.
أما المحاكم التي يتألف منها القضاء العادي فهي:
أ ـ محكمة النقض (التمييز سابقاً).
ب ـ محاكم الاستئناف.
جـ ـ المحاكم البدائية.
د ـ المحاكم الصلحية.
يضاف إلى هذه المحاكم (الشرعية ـ الطائفية ـ المذهبية والتي تختص بالفصل في أمور الأحوال الشخصية) ومحاكم استثنائية خاصة مهمتها إقامة الدعوى الجزائية ومباشرتها وتمثيل المجتمع لدى المحاكم ثم تنفيذ الأحكام الجزائية بعد اكتسابها الدرجة القطعية.
المحاكم الصلحية:
$يتألف كل منها من قاض منفرد وتفصل في المنازعات المدنية والتجارية البسيطة، والجرائم البسيطة (جميع المخالفات والجنح التي لا تتجاوز عقوبة الحبس فيها أكثر من السنة).
المحاكم البدائية:
يتألف كل منها من قاض منفرد: تفصل في سائر المنازعات المدنية والتجارية والجنح.
محاكم الاستئناف:
$وتتألف من رئيس وأعضاء يسمون مستشارين، ويوزعون على عدد من الغرف المدنية والجزائية، وتستأنف إليها أحكام المحاكم البدائية وبعض الأحكام الصلحية.
$ (ومن بعض مستشاري الاستئناف تشكل محاكم جنايات تنظر في القضايا الجنائية).
محكمة النقض:
$وتوزع أيضاً إلى غرف متعددة، وهي المرجع الأعلى الذي يعود إليه أمر مراقبة أحكام هذه المحاكم والنظر في مدى صحتها ومطابقتها للقانون والأصول، والمحاكم الأدنى من محكمة النقض تسمى محاكم الأساس أو الموضوع لأنها تنظر في أساس الدعوى ووقائعها بعكس محكمة النقض التي تسهر فقط على حسن تطبيق القانون من قبل المحاكم الأخرى، فهي بذلك تسمى محكمة القانون.
القانون الدولي الخاص1:
$ويتضمن القواعد التي تبين، بالنسبة لكل نوع من القضايا التي يكون فيها عنصر أجنبي، ما إذا كانت محاكم الدولة مختصة للنظر فيه أم لا، كما تحدد القانون الذي يجب تطبيقه عليه2.
مثال:
باع سوري مقيم في فرنسا عقار إلى مواطن ألماني في إيطاليا وحدث فيما بعد نزاع فالقانون الدولي الخاص يحدد ما إذا كانت المحاكم السورية مختصة للنظر بالنزاع ثم يحدد القانون الواجب التطبيق مِن القوانين الأربعة.
$ولا توجد قواعد محددة تسير عليها جميع الدول فيما يتعلق بمسائل هذا القانون، ولكل دولة قواعدها بهذا الشأن.
وهذه القواعد لا يضمها في الجمهورية العربية السورية تشريع موحد بل هي موزعة على عدة تشريعات.
بعض الفروع المستحدثة في نطاق القانون الخاص:
من أهمها: قانون العمل ـ القانون الزراعي ـ وقد أخذت تنفصل عن القانون المدني وتتدخل الدولة في تنظيمها ومراقبتها, وقواعدها آمرة من النظام العام لأن هذه القوانين تنظم العلاقات التي تؤثر مباشرة بالمصالح الاجتماعية والاقتصادية للدولة.
الباب الثاني
مصادر القانون
يتألف هذا الباب من تمهيد وفصلين وهما:
الفصل الأول: التشريع.
الفصل الثاني: المصادر غير التشريعية.
تمهيد
حول مصادر القانون
المصدر المادي:
هو المصدر الذي تستمد منه القاعدة القانونية مادتها أو موضوعها. (أي إن الحكم الذي تتضمنه القاعدة هو الذي يكون موضوعها ومادتها).
المصدر الرسمي:
هو المصدر الذي يوفر لها قوتها الإلزامية أو صبغتها الرسمية (وإن القوة الإلزامية التي تتمتع بها القاعدة هي التي تضفي عليها الصبغة الرسمية).
و لا تكتمل القاعدة القانونية إلا إذا توفر لها هذان العنصران معاً: مادتها أو موضوعها من جهة, وصيغتها الرسمية من جهة1.
لأن المصادر المادية كلها إذا كانت توفر للقاعدة مادتها ومضمونها وفحواها لا تكفي لجعلها قاعدة قانونية بل لا بد للقاعدة في نفس الوقت من مصدر رسمي يضفي عليها القوة الإلزامية, فالمصادر المادية لا تكشف لنا إذاً عن وجود القواعد القانونية أو عدم وجودها وإنما الذي يرشدنا إلى ذلك هو المصادر الرسمية.
وعلى هذا, فإن المصادر الرسمية للقواعد القانونية هي وحدها التي تعنينا في مصادر القانون $فمثلاً إن المصدر المادي لقانون الأحوال الشخصية هو الشريعة الإسلامية، والمصدر المادي للقانون المدني هو القانون المدني المصري أو القانون المدني الفرنسي.
تعداد المصادر الرسمية وبيان أهميتها:
هنالك مصدران رئيسيان رسميان للقانون تأخذ بهما جميع الدول هما:
1 ـ التشريع.
2 ـ العرف.
ويضاف إلى هذين المصدرين في بعض البلاد مصدران آخران أو أحدهما وهما: القواعد الدينية من جهة ومبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة من جهة.
ويتصل بالمصادر الرسمية للقانون مصدران آخران يعتبران بمثابة مصدرين تفسيريين, وهما الاجتهاد القضائي والفقه.
أوجه الاختلاف بين المصادر الرسمية والاجتهاد القضائي والفقه؟
إن الاجتهاد القضائي والفقه لا يؤديان إلى إيجاد قواعد قانونية عامة قابلة للتطبيق بصورة إلزامية ومطردة على جميع الحالات المتماثلة, كما هو الأمر بالنسبة للمصادر الرسمية, بل إن دورهما يقتصر على تفسير وبيان كيفية تطبيق القواعد القانونية المنبثقة عن المصادر $الرسمية دون أن يكون لما ينتج عنهما صفة القواعد القانونية الإلزامية. وهنا لابد من إبراز الملاحظات1 التالية:
أولاً: لا تطبق المصادر الرسمية للقواعد القانونية جميعها دوماً في مختلف الأحوال والظروف بل إن هناك بعض الأمور ـ كالأمور الجزائية مثلاً ـ لا يمكن أن يطبق فيها سوى مصدر واحد هو التشريع حيث أنه من أهم مبادئ القانون الجزائي المبدأ الذي ينص $على أنه: (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني). والقانون هنا هو التشريع وذلك لأن الأحكام الجزائية إنما تتعلق بأرواح الناس وحرياتهم وسلامتهم ومن الواجب تنظيمها عن طريق التشريع وعدم ترك أمور الناس فيها عرضة لأهواء القضاة وتقديراتهم الشخصية.
مثال:
لا يوجد نص تشريعي يعاقب الإنسان على عدم تطوعه لإنقاذ شخص معرض للخطر, وبالتالي فإن القاضي لا يستطيع أن يفرض عليه عقوبة ما استناداً إلى ما قد يراه من مبادئ القانون الطبيعي أو قواعد العدالة مثلاً لأن المصدر الوحيد في الأمور الجزائية هو التشريع.
مثال:
إذا حدد التشريع لجريمة من الجرائم عقوبة معينة فإن القاضي لا يستطيع أن يفرض عقوبة غيرها يقدرها بنفسه استناداً إلى الأعراف مثلاً أو غيرها.
ثانياً: ليس للقاضي حرية الاختيار بين هذه المصادر وتطبيق ما يراه مناسباً منها دون غيره $بل هناك ترتيباً وتسلسلاً معين بينها يلزم القاضي بإتباعه وذلك حسب المادة الأولى من القانون المدني التي تنص:
( 1 ـ تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو فحواها.
2 ـ فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه, حكم القاضي بمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية, فإذا لم توجد فبمقتضى العرف, فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة).
فبحسب هذه المادة يعتبر التشريع المصدر الأول للقواعد القانونية, وفي حال عدم وجود نص يمكن تطبيقه من التشريع يعمد القاضي إلى الحكم بمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية ثم بمقتضى العرف وأخيرا بمقتضى القانون الطبيعي وقواعد العدالة.
مثال:
إذا عرضت على القاضي قضية تتعلق بالقرض مع الفائدة مع العلم أن مبادئ الشريعة الإسلامية تحرم هذا النوع من القرض؟
القاضي ملزم بأن يحكم أولاً بموجب النصوص التشريعية المتعلقة بالموضوع الذي يطلب إليه الحكم فيه ولا يستطيع أن يطبق مبادئ الشريعة الإسلامية إلا في حال عدم وجود هذه النصوص, وبالنسبة للقرض مع الفائدة هنالك نصوص تشريعية تجيزه فلا يمكن إذن تطبيق قواعد غيرها....
مثال:
عرضت على القاضي مسألة ينطبق عليها التشريع ـ الشريعة ـ العرف فماذا يطبق في هذه الحالة؟ القاضي ملزم بإتباع الترتيب المنصوص عليه في المادة الأولى من القانون المدني.
مثال:
عرضت على القاضي الجزائي قضية جزائية ولم يجد لها نص تشريعي بالأفعال التي قام بها $المدعى عليه, ما العمل في مثل هذه الحالة؟
$يحكم القاضي في هذه الحالة بالبراءة أو عدم المسؤولية حيث أن هناك مصدر وحيد للأمور الجزائية هو التشريع.
ثالثاً: اعتبر الفقه والاجتهاد القضائي في كثير من الشرائع فيما مضى من المصادر الرسمية للقواعد القانونية وفي الواقع لم يقتصر دور الاجتهاد القضائي والفقه في كثير من الشرائع القديمة (كالشريعة الرومانية) على تفسير القواعد القانونية وتطبيقها بل كان لهما الأثر البالغ في إيجاد الكثير من القواعد.
ولا يزال الاجتهاد القضائي يعتبر من المصادر الرسمية في بعض البلاد كإنكلترا حيث تعتبر الأحكام القضائية بمثابة سوابق ملزمة ومن الواجب إتباعها في القضايا المماثلة.
رابعاً: إن الاجتهاد القضائي بصورة خاصة له من الوجهة العملية تأثير كبير في تطوير القواعد القانونية وتعديلها على الرغم من اعتباره من الوجهة النظرية من المصادر التفسيرية لا الرسمية, واعتباره غير ملزم إلا بالنسبة للقضايا نفسها التي فصلت فيها هذه الأحكام دون أن تكون واجبة التطبيق في القضايا المماثلة وذلك لأن:
القضاة يعمدون إلى شيء من التوسع أو التصرف في تفسير القواعد القانونية لجعل هذه القواعد أكثر ملاءمة لمقتضيات التطور والبيئة.
$خامساً: إن هناك نوع من التداخل والتقارب بين المصادر الرسمية والتفسيرية فهي ليست منفصلة عن بعضها كل الانفصال... حيث: يستمد التشريع كثيراً من قواعده من الأعراف السائدة... والاجتهاد القضائي من شأنه أن يوضح التشريع ويجلي غموضه ويظهر الأعراف ويثبتها, إذاً تسهم هذه المصادر مشتركة في إيجاد القواعد القانونية وتطويرها وإعطائها صورتها الأخيرة التي تجعلها صالحة للتطبيق العملي.
سادساً: إن المصادر المختلفة للقانون لم تظهر جميعاً دفعة واحدة في التاريخ, وإنما ظهرت على مراحل متتالية تبعاً لتطور المدنية وتقدمها وهي على الترتيب التالي:
1 ـ العرف.
2 ـ قواعد الدين ومبادئ القانون الطبيعي.
3 ـ الاجتهاد.
4 ـ التشريع.
الفصل الأول
التشريــــع
سنحاول في هذا الفصل الذي نخصصه لدراسة التشريع، وهو المصدر الأول من مصادر القانون وأكثرها أهمية وانتشاراً، أن نستعرض تعريف التشريع وأهميته وكيفية سنه ومراحل تكوينه المختلفة، ثم نتحدث عن بعض النصوص القانونية الأخرى التي تتصل بالتشريع $وتتشابه وإياه وهي الدستور والأنظمة مبينين صلة كل منهما به ودور القضاء في رقابة $دستورية التشريع وقانونية________، ثم نتناول بعد ذلك تفسير التشريع، وتطبيقه من حيث الزمان والمكان وإلغاءه.
وعلى هذا فإن دراستنا في هذا الفصل تضم الفروع التالية:
الفرع الأول:تعريف التشريع وسنه
الفرع الثاني: التشريع ودستورية الأنظمة
الفرع الثالث: تفسير التشريع
الفرع الرابع: تطبيق التشريع من حيث الزمان أو المكان أو تنازع القانونين
الفرع الخامس: إلغاء التشريع
الفرع الأول
تعريف التشريع وسنه
أولاً: تعريف التشريع1
يطلق اسم التشريع على القواعد القانونية الصادرة عن السلطة التشريعية المختصة في نصوص مكتوبة ووفقاً لأصول معينة.
$---- نستنتج من هذا التعريف أن أهم ما يميز التشريع هو:
1 ـ صدوره عن السلطة التشريعية المختصة.
2 ـ إتباعه أصولاً معينة في تكوينه لا يتم بدونها وجوده واعتباره.
أهمية التشريع ومزاياه:
هو من أكثر مصادر القانون أهمية وأوسعها انتشاراً ويعتبره بعض الفقهاء المصدر الأوحد للقواعد القانونية.
ويعود السبب في هذه الأهمية الخاصة للتشريع إلى ما يتمتع به من مزايا عديدة أهمها1:
1- سهولة سنه من قبل السلطة التشريعية المختصة وسهولة إلغائه فهذه السلطة تستطيع كلما دعت الضرورة أو المصلحة أن تسن ما تشاء من التشريعات الصالحة وأن تلغي ما يظهر لها فساده أو عدم صلاحه.
أما العرف فهو ينشأ ويزول بصورة بطيئة ومن الصعب تغييره أو تعديله بسرعة لعدم وجود هيئة مختصة بذلك.
2- سهولة معرفته والرجوع إليه وتحديد زمن ابتدائه وزواله, إذ أنه يصدر في نصوص مكتوبة, بحيث يكون من السهل الرجوع إلى الوثائق والمستندات التي تتضمن هذه النصوص لمعرفته وتحديد تاريخه.
أما العرف فلا بد فيه من إثبات التعامل الجاري بين الناس والعادات السارية فيهم للتأكد من وجوده, كما لا يمكننا تحديد تاريخ دقيق لبدء انتشار العرف أو لزواله.
3- التشريع يساعد على حماية حريات الأفراد وحفظ حقوقهم, فهو يحدد حقوقهم وواجباتهم, وهو يعتبر ضابطاً صحيحاً يسير بموجبه القضاة أنفسهم بالإضافة لخضوع الناس للتشريع لأنه مستمد من رغباتهم ومحقق لحاجاتهم.
4- التشريع يساعد على توحيد النظام القانوني في البلد الواحد ووضع قواعد قانونية عامة تطبق على المواطنين جميعاً في مختلف مناطقهم وأنحائهم وذلك خلافاً للعرف أو الاجتهاد القضائي اللذان يؤديان لإيجاد قواعد قانونية تختلف في بعض المناطق عن بعضها الآخر.
وقد وجهت المدرسة التاريخية الانتقاد التالي للتشريع:
أن التشريع يضع القواعد القانونية في نصوص ثابتة مستقرة, وذلك يعرقل التطور الطبيعي لهذه القواعد ويعيق تقدمها, في حين أن العرف يخضع لتأثير المجتمع المباشر, ليساعد على تحقيق هذا التطور في أحسن صوره ويجعل القواعد القانونية أكثر ملائمة لحاجات المجتمع.
عوامل1 انتشار التشريع:
1- توطد سلطة الدولة وتمركزها, مما أدى إلى أن تجمع الدولة في يدها سلطة التشريع وأن تسن القواعد القانونية لجميع أنحاء البلاد.
2- قيام سلطة مختصة تتولى أمر التشريع في النظم الديمقراطية التي أخذت بمبدأ فصل السلطات, مما ساعد على أن تنصرف هذه السلطة إلى عملها في سن التشريعات.
3- انتشار النزعة الاشتراكية في عصرنا الحاضر التي تدعو إلى تدخل الدولة في شؤون الأفراد وتوليها أمر تنظيمها عندما تقضي بذلك الضرورة ومصلحة المجتمع.
ثانياً:سن التشريع
السلطة التشريعية المختصة التي يعود إليها سن التشريع:
يختلف النظر إلى هذه السلطة باختلاف النظم في البلاد, ففي النظام الدكتاتوري الاستبدادي يعتبر الحاكم نفسه صاحب السلطان المطلق وإليه يعود أمر التشريع وسن القواعد القانونية التي ليست سوى مشيئته وإرادته يمليها على شعبه ويفرض عليه احترامها. أما في النظام الديمقراطي, فالشعب على العكس هو الذي يعتبر مصدر السلطات جميعها ومن بينها السلطات التشريعية.
والأصل أن يتولى أمر التشريعات ومناقشتها والتصويت عليها أفراد الشعب أنفسهم مباشرة $ولكن هذه الطريقة كانت تطبق في بعض البلاد قليلة العدد (كما في المقاطعات السويسرية), حيث من المستحيل لمعظم الدول جمع أفراد الشعب وجعلهم يصوتون على تشريع تريد إقراره1.
ولهذا يعهد بأمر التشريع في الأنظمة الديمقراطية إلى مجلس خاص يتولاه باسم الشعب ونيابة عنه ويطلق عليه اسم مجلس الشعب أو المجلس النيابي أو مجلس الأمة.
على أن يتولى رئيس الجمهورية في بعض الحالات الاستثنائية أمر التشريع أيضاً فيسن التشريعات التي يطلق عليها حينئذٍ المراسيم التشريعية.
المرسوم التشريعي:
هو تشريع يسنه رئيس الجمهورية في بعض الأحوال التي يتولى فيها سلطة التشريع.
ورئيس الجمهورية لا يصدر المرسوم التشريعي بصفته رئيساً للسلطة التنفيذية بل باعتباره يمارس في بعض الأحوال الاستثنائية التي نص عليها الدستور مهام السلطة التشريعية.
ولذلك لا يعتبر المرسوم التشريعي عملاً تنفيذياً بل هو عمل تشريعي بحت ولا يختلف المرسوم التشريعي عن التشريع في شيء إلا في صدوره عن رئيس الجمهورية حين يمارس السلطة التشريعية بدلاً عن مجلس الشعب2.
ويتولى رئيس الجمهورية سلطة التشريع, بحسب دستورنا الحالي3 في الحالات الثلاث التالية:
1 ـ في المدة الفاصلة بين ولايتي مجلسين, أي خلال الفترة الواقعة بين انتهاء ولاية مجلس الشعب السابق وبدء ولاية مجلس الشعب الجديد.
2 ـ خارج دورات انعقاد مجلس الشعب, أي خلال الفترات التي يكون فيها مجلس الشعب موجوداً ولكنه غير منعقد.
3 ـ في أثناء انعقاد دورات مجلس الشعب إذا استدعت ذلك الضرورة القصوى المتعلقة بمصالح البلاد القومية أو بمقتضيات الأمن القومي.
ففي الحالتين الأولى والثانية, لا يمارس مجلس الشعب مهمة التشريع ولذلك لا بد أن يعهد بهذا الأمر إلى رئيس الجمهورية حتى لا تتوقف حركة التشريع في البلاد, أما في الحالة الثالثة فيكون مجلس الشعب موجوداً ومنعقداً, ولكن هنالك ظروف استثنائية, كنشوب حرب أهلية أو حدوث أزمة اقتصادية عنيفة.
ويشترط عدد من الدساتير أن يكون هنالك تفويض من مجلس الشعب لرئيس الجمهورية لإصدار المراسيم التشريعية في هذه الحالة الثالثة ولذا يطلق رجال القانون على هذه المراسيم اسم تشريعات التفويض بينما يطلقون على المراسيم في الحالتين الأولى والثانية اسم تشريعات الضرورة.
وقد نص دستورنا على أن المراسيم التشريعية التي تصدر خارج انعقاد دورات مجلس الشعب يجب أن تعرض على المجلس في أول دورة انعقاد له, كما أن المراسيم التشريعية التي تصدر أثناء انعقاد دورات المجلس بسبب حالة الضرورة القصوى المتعلقة بمصالح البلاد القومية أو بمقتضيات الأمن القومي يجب أن تعرض على المجلس أيضاً في أول جلسة له, ولمجلس الشعب الحق في إلغاء المراسيم التشريعية المعروضة عليه في هاتين الحالتين أو تعديلها، وذلك بأكثرية ثلثي أعضائه المسجلين لحضور الجلسة على أن لا تقل عن أكثرية أعضائه المطلقة. أما المراسيم التشريعية التي تصدر في الفترة الفاصلة بين ولايتي مجلسين فلا تعرض على مجلس الشعب فيما بعد, ولكن يمكن أن تعدل أو تلغى كما تعدل أو تلغى التشريعات عادة.
مراحل سن التشريع:
لا بد للتشريع لكي يتم وجوده من مراحل أربعة1:
1 ـ الاقتراح.
2 ـ الإقرار.
3 ـ الإصدار.
4 ـ النشر.
1- الاقتراح:
إن مرحلة اقتراح التشريع هي المرحلة الأولى التي يبدأ فيها التشريع بأخذ طريقه إلى الظهور والوجود. ويعود حق اقتراح التشريعات إلى رئيس الجمهورية بصفته ممثلاً للسلطة التنفيذية من جهة, وإلى كل عضو من أعضاء مجلس الشعب من جهة ثانية, ويسمى الاقتراح الصادر عن رئيس الجمهورية في هذا الشأن مشروع قانون أما الاقتراح الصادر عن أحد الأعضاء فيسمى اقتراحاً بقانون.
2- الإقرار:
يعود إقرار التشريع أو التصويت عليه إلى مجلس الشعب وهو أهم مرحلة من مراحل تكونه على الإطلاق لأنه هو الذي يؤدي إلى إيجاده فعلاً. إلا أن التصويت على التشريع وإقراره من قبل مجلس الشعب لا يكفي وحده لجعله نافذاً وملزماً من الوجهة القانونية فلا بد له من المرور بمرحلتين:
1 ـ إصداره من قبل رئيس الجمهورية ليصبح قابلاً للتنفيذ.
2 ـ ونشره في الجريدة الرسمية ليصبح ملزماً.
3- الإصدار:
هو العمل الذي يتم به إثبات وجود التشريع بصورة رسمية, أو كما يقول بعض الفقهاء بأنه بمثابة شهادة الميلاد التي تعطى للتشريع من قبل رئيس السلطة التنفيذية وهو في بلادنا رئيس الجمهورية. ولإصدار التشريع من قبل رئيس الجمهورية فائدتان:
أ- تمكن رئيس الجمهورية من إصدار أمره إلى السلطة التنفيذية التي يعتبر رئيساً لها, بأن تطبق التشريع الذي أقرته السلطة التشريعية وبذلك تكون السلطة التنفيذية قد تلقت أوامرها من رئيسها مباشرة وليس من قبل السلطة التشريعية وهذا ما ينسجم لحد كبير مع مبدأ الفصل بين السلطات.
ب- يمكن لرئيس الجمهورية أن يراقب التشريعات الصادرة عن مجلس الشعب ويتيح له المجال لأن يردها إليه, إذا رأى أن الضرورة تدعو لذلك.
ولا يستطيع رئيس الجمهورية تعطيل التشريعات التي ترسل إليه لإصدارها بل يحدد له الدستور عادة مهلة يتوجب عليه خلالها إصدار التشريع أو إعادته إلى مجلس الشعب ليعيد النظر فيه, وحين يصر مجلس الشعب على التشريع ويقره مرة ثانية بأغلبية معينة فإن من واجب رئيس الجمهورية إصداره1.
4- النشر:
هو المرحلة الأخيرة التي يمر بها التشريع فيصبح بعدها نافذاً وواجب التطبيق على جميع الأشخاص الذين تتناولهم أحكامه. ولكنه لا ينفذ من حيث المبدأ إلا بعد إعلانه للناس ويكون ذلك بنشره في الجريدة الرسمية, ولا يغني عن النشر في الجريدة الرسمية أي وسيلة أخرى من وسائل الإعلام, كالنشر في الصحف العادية أو الإذاعة أو التلفزيون. ولا يغني أيضاً عن النشر في الجريدة الرسمية العلم الشخصي بالتشريع فإن كان التشريع لم ينشر بعد فإنه لا يطبق حتى على الأشخاص الذين يعلمون علماً أكيداً بوجوده.
على أن التشريع بعد نشره ومرور الفترة المحدودة لنفاذه يكون واجب التطبيق ولو لم يعلم الناس بوجوده, فليس المهم إذاً العلم بالتشريع فعلاً وإنما اتاحة الفرصة للعلم به2, ولولا ذلك لكان بإمكان الكثيرين من الناس مخالفة التشريع ثم التهرب من توقيع الجزاء عليهم بإدعائهم جهلهم إياه ومن هنا جاءت القاعدة القانونية التي تقضي:
" الجهل بالقانون لا يعتبر عذراً ".
الفرع الثاني
التشريع والدستور والأنظمة
إلى جانب التشريع وهو النص المكتوب الصادر عن السلطة التشريعية متضمناً القواعد القانونية, يوجد نوعان آخران من النصوص التي تتضمن مثل هذه القواعد وهما: الدستور من جهة والأنظمة من جهة ثانية.
أولاً -مقارنة التشريع بالدستور والأنظمة
1- موقع التشريع بين الدستور والأنظمة:
هناك بين الدستور والتشريع والأنظمة نوع من التسلسل والتدرج, فالدستور هو أعلى هذه النصوص ثم يأتي بعده التشريع ثم تليه الأنظمة. وهذا يعني أن التشريع يحتل الموقع الوسط, ومن واجب التشريع ألا يخالف الدستور في أحكامه كما أنه من واجب الأنظمة ألا تخالف كلاً من الدستور والتشريع في أحكامها1.
2- مقارنة الدستور بالتشريع:
الدستور: هو مجموعة القواعد القانونية الصادرة عن سلطة خاصة تسمى بالسلطة التأسيسية والتي تتضمن النظام الأساسي للدولة والمبادئ العامة التي يقوم عليها أسلوب الحكم فيها.
$وبذلك نلاحظ أن كلاً من الدستور والتشريع يختلف عن الآخر2:
أ- من حيث الشكل:
إن الدستور يوضع من قبل سلطة خاصة هي السلطة التأسيسية, أما التشريع فهو من عمل السلطة التشريعية, وقد لا تختلف السلطة التأسيسية في كثير من الأحيان عن السلطة التشريعية من حيث تركيبها وتشكيلها. ولكنها تختلف مع ذلك من حيث التسمية ونوع المهمة المعهود بها إليها هي وضع دستور للبلاد لا سن التشريعات العادية.
ب- من ناحية الموضوع:
إن الدستور يتضمن النظام الأساسي للدولة والمبادئ العامة التي يقوم عليها أسلوب الحكم فيها في حين لا يرمي التشريع إلى شيء من ذلك بل تقتصر مهمته على تنظيم علاقات الدولة وأمور الأفراد ضمن حدود الدستور ونطاقه.
$أي أن الدستور هو النطاق العام الذي تدخل ضمنه التشريعات فهو الذي يرسم لها الحدود التي يجب عدم تجاوزها.
3- مقارنة الأنظمة بالتشريع:
تعريف الأنظمة:
هي عبارة عن نصوص تصدر عن السلطة التنفيذية متضمنة القواعد التي تفصل أحكام التشريعات وتوضحها وتبين كيفية تنفيذها وتطبيقها1.
والأنظمة إما أن تصدر عن رئيس الجمهورية أو الوزراء المختصين أو الإدارات العامة والمجالس البلدية, ويطلق على الأنظمة الصادرة عن رئيس الجمهورية اسم المراسيم التنظيمية, بينما يطلق على الأنظمة الصادرة عن بقية السلطات اسم القرارات التنظيمية.
وتستمد السلطة التنفيذية صلاحيتها في إصدار المراسيم والقرارات التنظيمية إما من التشريع نفسه الذي تصدر لأجله هذه المراسيم والقرارات أو من المبدأ العام الذي يعترف لها بموجبه بحقها في إصدار الأنظمة اللازمة لتنفيذ التشريعات, ولو لم يفوض أمر ذلك إليها بنص خاص.
مقارنة بين التشريع من جهة وبين المرسوم أو القرار التنظيمي من جهة:
أ- من حيث الشكل:
يختلف القرار التنظيمي عن التشريع في أنه يصدر عن السلطة التنفيذية لا عن السلطة التشريعية.
ب- من ناحية الموضوع:
يختلف القرار التنظيمي عن التشريع في أنه لا يتطرق إلى الأمور التي يعالجها بصورة رئيسية أصلية ولكن بصورة تبعية بغية تفسير التشريع وتفصيل أحكامه دون أن يستطيع $مخالفة هذه الأحكام أو تعطيلها أو التعديل فيها.
ويختلف المرسوم التشريعي عن المرسوم التنظيمي, إذ أن المرسوم التشريعي وبالرغم من صدوره عن رئيس الجمهورية كالمرسوم التنظيمي إلا انه يعتبر بمثابة التشريع نفسه ويقوم $مقامه وهو بذلك لا يخضع للتشريع بل يستطيع أن يخالف أحكامه أو يلغيها أو يعدلها. ولابد من التفريق بين المراسيم والقرارات التي تصدر عن السلطة التنفيذية فهي على نوعين:
أ ـ المراسيم والقرارات التنظيمية2:وهي التي ذكرناها سابقاً
ب ـ المراسيم والقرارات العادية أو الفردية:
وهي تختلف عن النوع الأول في أنها لا تتضمن قواعد قانونية عامة بل هي عبارة عن أحكام فردية خاصة بشخص أو أشخاص معينين أو بواقعة أو وقائع محددة كما في قرار تعيين موظف مثلاً أو إغلاق مقهى.
ثانيا -رقابة القضاء لدستورية التشريع وقانونية الأنظمة:
1- رقابة القضاء لدستورية التشريع:
سوف نلخص هذا بالسؤال التالي:
هل يستطيع القاضي أن يمتنع عن تطبيق التشريع إذا وجد أن أحكامه تخالف المبادئ المقررة في الدستور وتتعارض معها, أم أن من واجبه تطبيق التشريع دوماً سواء أكان موافقاً للدستور أم مخالفاً له ؟
لقد ظهر حول هذا الموضوع اتجاهان متعاكسان1:
فأصحاب الاتجاه الأول يرون:
أنه لا حق للقضاء في مناقشة مسألة دستورية التشريع, بل عليه أن يطبق التشريع كما هو إذا كان مستوفياً لشرائطه الشكلية, ولو خالف في أحكامه مبادئ الدستور, وحجة أصحاب هذا الرأي أن السماح للقضاء بمراقبة دستورية التشريع سيؤدي حتماً إلى تدخل السلطة القضائية في أعمال السلطة التشريعية, مما يتعارض مع مبدأ الفصل بين السلطات.
أما أصحاب الاتجاه الثاني:
وعلى رأسهم ديجي وهوريو فيرون أن للقضاء الحق في مراقبة دستورية التشريع وأن عليه أن يمتنع عن تطبيق التشريع حين يتأكد من مخالفة أحكامه للدستور الذي يتوجب عليه التقيد به.
وهم يوردون لذلك حججاً عديدة أهمها:
أ- إن مراقبة القضاء لدستورية التشريع أمر تحتمه الضرورة والمنطق, لأننا لو رفضنا هذا $الحق لاستطاعت السلطة التشريعية مخالفة الدستور على هواها دون أن يمكن منعها.
ب- إن مراقبة القضاء لدستورية التشريع أمر يدخل في حدود مهامه واختصاصه لأن القضاء ملزم باحترام الدستور والتشريع وحين وجود تعارض بين أحكامهما على القاضي $تطبيق النص الأعلى مرتبة, وعليه بذلك تطبيق الدستور وترك التشريع لمخالفته إياه.
ج- إن رقابة القضاء لدستورية التشريع ليس فيها ما يتعارض مع مبدأ الفصل بين السلطات لأن السلطتين التشريعية والقضائية ملتزمتان باحترام الدستور, فإذا خالفت السلطة التشريعية الدستور وامتنعت السلطة القضائية عن ذلك فمعنى ذلك أن السلطة التشريعية تدخلت في شؤون السلطة القضائية وليس العكس.
وبالرغم من أن هذا الرأي الثاني يبدو أقوى حجة, إلا أن القضاء في كثير من البلاد لم تمنحه $دساتيرها صراحة مثل هذا الحق، وقد أخذ بالرأي الأول ورفض أن يعترف لنفسه بصلاحية $مراقبة دستورية التشريعات. أما في بلادنا فيلاحظ أن القضاء العادي يرفض بصورة عامة أن يعترف لنفسه بحق مراقبة دستورية التشريع, وأما القضاء الإداري فيستشعر من بعض قراراته أنه يعترف لنفسه بهذا الحق
2- رقابة القضاء لقانونية الأنظمة:
إن رقابة القضاء القانونية الأنظمة تعني في نفس الوقت رقابته لدستوريتها, وهذه الرقابة قد أخذت بها معظم الدول المتمدنة في عصرنا, وهي لا تقتصر فقط على المراسيم والقرارات التنظيمية بل تتناول أيضاً القرارات والمراسيم العادية, فجميع ما يصدر عن السلطة التنفيذية من مراسيم أو قرارات يمكن الطعن فيها أمام القضاء إذا خالفت في أحكامها الدستور أو التشريع..
الفرع الثالث
تفسير التشريع
ضرورة التفسير:
يتألف التشريع من قواعد عامة ومجردة توضع من قبل المشرع. فإذا عرضت قضية ما على قاضٍ يكون من واجب هذا القاضي البحث في نصوص التشريع أولاً عن القاعدة الممكن تطبيقها على القضية ثم يصدر حكمه بمقتضى هذه القاعدة بعد أن يتثبت من صحة انطباق القاعدة على القضية.
ولكن عمل القاضي ليس بهذه السهولة إذ عليه أن يتثبت من مضمون القاعدة التشريعية ويفسرها ويوضح معناها ويستخلص الحكم المطلوب تطبيقه على القضية.
تعريف التفسير:
هو بيان المعنى الحقيقي الذي تدل عليه القاعدة التشريعية وإيضاحه, واستنتاج الحكم الذي تنص عليه ليمكن تطبيقه تطبيقاً صحيحاً. ولا مجال للتفسير إلا حيث يكون هنالك نص يراد التعرف لمضمونه ولذلك لا يفسر إلا التشريع ونصوص الشريعة الإسلامية, أما العرف ومبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة فلا مجال لتفسير قواعدهما لعدم ورودها في نصوص مكتوبة1.
أنواع التفسير:
تفسير التشريع قد يصدر عن المشرع نفسه الذي سنه أو عن القضاة الذين يتولون أمر تطبيقه أو الفقهاء الذين يعكفون على دراسته وبذلك يكون لدينا ثلاث أنواع2 للتفسير:
1 ـ التفسير التشريعي:
يصدر عادة عن المشرع الذي سن التشريع الأصلي تشريعاً آخر لتفسيره يسمى بالقانون التفسيري حين يرى أن الضرورة تدعو لذلك.
ويعتبر القانون التفسيري الصادر عن المشرع بمنزلة التشريع نفسه الذي يراد تفسيره ولذلك فإن هذا التفسير من أهم أنواع التفسير وأقواها من الوجهة القانونية.
والقانون التفسيري الذي يصدره المشرع لا يطبق فقط منذ صدوره وإنما منذ صدور التشريع الأصلي الذي جاء ليفسره لأن القانون التفسيري لا يعتبر تشريعاً جديداً وإنما إيضاح لتشريع سابق.
2- التفسير القضائي:
وهو من أكثر أنواع التفسير شيوعاً وأشدها أهمية من الوجهة العملية ومن مزايا التفسير القضائي أنه ذو طابع عملي لأن القاضي إنما يعمد إليه بمناسبة قضية أو قضايا معينة يطلب إليه الحكم فيها, فيحاول جهده أن يفسر التشريع في ضوء ظروف هذه القضية أو القضايا وملابساتها, ويكون تفسيره أشد صلة بالحياة العملية وأكثر ملائمة لضرورات الواقع من أي تفسير غيره.
لكن ليس للتفسير القضائي أية صفة إلزامية إلا بالنسبة للقضية التي صدر من أجلها ومعنى ذلك أن التفسير الذي يصدره المشرع حول قاعدة ما يجب أن يراعى بالنسبة لجميع القضايا التي تطبق فيها هذه القاعدة أما التفسير الذي تصدره المحكمة فهو لا يلزم إلا في القضية التي فصل فيها ومن الجائز مخالفته وتبني تفسير معاكس.
3- التفسير الفقهي:
وهو التفسير الذي يصدر عن الفقهاء وذوي الاختصاص في القانون.
ومن أبرز صفاته أنه لا يتمتع بأية قوة إلزامية, وإنما هو عبارة عن مجرد رأي يصدره فقيه أو رجل قانون, وقد يأخذ به أو يهمل.
4- التفسير الإداري:
وهو يتمثل عادة في البلاغات والتعليمات التي تصدرها الإدارات العامة المختصة إلى موظفيها لتفسر لهم فيها أحكام التشريعات التي يكلفون بتطبيقها وتبين كيفية هذا التطبيق.
حالات التفسير وأسبابه:
إن أهم العيوب التي تطرأ على النصوص التشريعية فتجعلها بحاجة إلى التفسير هي1:
أ- الخطأ المادي:
$يعتبر أن هناك خطأ مادياً في النص إذا كانت العبارة التي ورد بها هذا النص تتضمن خطأ فادحاً في بعض ألفاظها بحيث لا يستقيم معنى النص إلا بتصحيحها, وهذا النوع من العيوب هو أبسطها وأقلها شأناً لأنه في الواقع لا يستوجب تفسير النص المعيب وإنما تصحيحه فقط.
ب- الغموض أو الإبهام:
يعتبر النص غامضاً أو مبهماً إذا كانت عباراته غير واضحة كل الوضوح بحيث تحتمل التفسير أو التأويل وبحيث يمكن أن نستنتج منها أكثر من معنى واحد ومهمة القاضي في مثل هذه الحالة هي أن يختار من بين المعاني المختلفة التي يحتملها النص المعنى الأكثر صحة.
أمثلة:
ينص القانون المدني الفرنسي على أن: " بيع ملك الغير باطل..." فهذه المادة تقضي ببطلان البيع الذي يجريه البائع على شيء لا يملكه ولكن في القانون الفرنسي نوعين من البطلان بينهما اختلاف كبير في الأحكام المترتبة عليهما وهما: البطلان المطلق والبطلان النسبي, ومن أبرز نقاط الاختلاف بينهما أن العقد الباطل بطلان مطلق يمكن أن يدعي ببطلانه كل ذي مصلحة وبصورة خاصة كل من المتعاقدين, كما يمكن أن تقضي المحكمة ببطلانه, أما العقد الباطل بطلان نسبي فلا يستطيع أن يطالب ببطلانه إلا المتعاقد الذي تقرر الإبطال لمصلحته.
ت- النقص أو السكوت:
$ويعتبر أن هنالك نقصاً في النص إذا جاءت عبارته خالية من بعض الألفاظ التي لا يستقيم الحكم إلا بها أو إذا أغفل التعرض لبعض الحالات التي كانت يفترض أن ينص عليها.
مثال:
لقد ورد في المادة (151) من القانون المدني المصري القديم أنه: " كل فعل نشأ عنه ضرر للغير يوجب ملزومية فاعله بتعويض الضرر ", فهذه المادة قد يفهم منها أن كل فعل للإنسان أياً كان نوعه يستوجب إلزام هذا الإنسان بالتعويض عما ينشأ عنه من ضرر للآخرين ولكن الواقع أن المرء لا يلزم بالتعويض إلا عن الأضرار التي تنجم عن أفعاله غير المشروعة أو الخاطئة, أما أفعاله المشروعة التي لا يتعدى فيها على غيره فإنه لا يسأل التعويض عنها ولو سببت لهذا الغير بعض الأضرار.فنجد أن نص المادة يجب أن يكون على النحو التالي:
" كل فعل غير مشروع نشأ عنه ضرر للغير... ".
ث- التناقض أو التعارض:
$يكون هنالك تناقضاً أو تعارضاً بين نصين إذا كان الحكم الذي يدل عليه أحدهما يخالف تماماً الحكم الذي يمكن أن يستنتج من الآخر ومهمة القاضي في هذه الحالة هي أن يحاول التوفيق بقدر الإمكان بين النصين فيسعى إلى أن يطبق كلاً منهما في زمرة معينة من الحالات.
مثال:
ورد في المادة " 115 " من القانون المدني أنه: " يقع باطلاً تصرف المجنون أو المعتوه إذا صدر التصرف بعد شهر قرار الحجر ".
$وتنص المادة (200) من قانون الأحوال الشخصية على أن: " المجنون والمعتوه محجوران لذاتهما ويقام على كل منهما قيم بوثيقة ", فالمادة الأولى تشترط لاعتبار تصرفات المجنون والمعتوه باطلة صدور قرار بالحجر عليهما.
وتعتبر المادة الثانية أنهما محجورين لذاتهما, وبالتالي فإن تصرفاتهما تعتبر باطلة لمجرد الجنون أو العته حتى لو لم يصدر قرار بذلك.
مدارس التفسير المختلفة:
أولا-المدرسة التقليدية أو مدرسة الشرح على المتون:
نستطيع أن نجمل مبادئ المدرسة التقليدية في أنها تقوم على التقيد بنصوص التشريع تقيداً تاماً وعدم الخروج عنها مطلقاً وقد ظهرت هذه المدرسة في فرنسا1.
وسبب انتشار هذه المدرسة هو صدور عدد من التشريعات في فرنسا مطلع القرن التاسع عشر وبخاصة صدور القانون المدني الفرنسي في عهد نابليون.
أما المبادئ التي نادت بها هذه المدرسة في تفسير التشريع فيمكن إيجازها:
1 ـ على القاضي أن يستمد أحكامه كلها من نصوص التشريع لأن التشريع يتضمن كل ما تدعو الحاجة إليه من القواعد القانونية.
2 ـ ليس على القاضي أن يتوقف في تفسيره للتشريع عند ألفاظه بل عليه أن يبحث عن نية المشرع التي تبدو من خلال عباراته.
3 ـ هذه النية على القاضي أن يبحث عنها لدى المشرع الذي أصدر التشريع وفي الزمن الذي أصدره فيه وإذا لم يكن هذا ممكناً فعلى القاضي أن يفترض هذه النية افتراضاً.
ولا شك أن المدرسة التقليدية في تفسير التشريع تؤدي إلى وضع ضوابط صحيحة وواضحة ومحددة لهذا التفسير فتبعد بذلك احتمال كل تفسير اعتباطي أو كيفي من قبل القضاة وتؤمن وجود نوع من الاستقرار في المعاملات القانونية.
ثانيا-المدرسة التاريخية:
إن الفكرة الرئيسية التي تقوم عليها هذه المدرسة هي ضرورة تفسير هذا التشريع تفسيراً جريئاً واسعاً, فلا تتبع بالنسبة إليه دوماً إرادة المشرع نفسه الذي صدر عنه, بل تراعى فيه ضرورات المجتمع والتطور الحالي, لأن النصوص يجب ألا تجمد عند إرادة واضعها الأصلي وإنما عليها أن تتبع الزمن في تطوره وسيره2.
وتعتبر هذه المدرسة أن النصوص القانونية بعد صدورها عن المشرع تصبح ذات وجود مستقل قائم بذاته منفصل عن إرادة المشرع نفسه بحيث يمكن تكييفها وتفسيرها وفقاً للتطورات $المختلفة التي تطرأ على المجتمع، وبحسب هذه النظرية فإن النص التشريعي لا يفسر بحسب ما أراده المشرع في الماضي وإنما بحسب ما يمكن أن تكون عليه نية المشرع حالياً حين تطبيق هذا النص, وهذا ما يعبر عنه بأنه لا يبحث عن النية المفترضة للمشرع بل عن النية المحتملة.
ثالثا-المدرسة العلمية:
لقد أسسها الفقيه جيني ومن أهم مبادئها1:
على القاضي أن يتمسك أولاً بالنصوص وأن يفسرها وفقاً لإرادة المشرع الذي صدرت عنه, وهذا المبدأ يتفق إلى حد بعيد مع وجهة نظر المدرسة التقليدية.
ولكن البحث عن إرادة المشرع الذي وضع التشريع لا يمكن أن يستمر بصورة مطلقة بل هنالك ظروف وحاجات متجددة لا بد من الاعتراف معها بأن نية المشرع غير معلومة بالنسبة إليها, وعندئذ ليس على القاضي أن يجهد نفسه في البحث عن هذه النية وأن يفترضها افتراضاً $وإنما يطبق على هذه الحالات الجديدة الحكم الذي يراه أدعى للمصلحة والصواب.
وإن القاضي إذا كان حراً في انتقاء الحلول الملائمة للحالات الجديدة فانتقاؤه يجب أن يكون علمياً وتسمى طريقته بالبحث العلمي الحر.
طرق التفسير ووسائله:
إن النص الصريح والواضح لا مجال لتفسيره, وأنه ليس على القاضي بالنسبة إليه إلا أن يطبقه بحذافيره دون أن يحاول تغيير معناه أو مخالفة الحكم الذي ينص عليه, وعلى هذا يقال: " لا مساغ للاجتهاد في مورد نص ", ولكن في سبيل معرفة مضمون النص وإيضاح معناه واستنتاج الحكم لا بد للقاضي من إتباع عدد من الطرق لتفسير النصوص2:
أولاً: طرق التفسير الداخلية:
وتقوم هذه الطرق على تحليل النص تحليلاً منطقياً واستنتاج الحكم المطلوب منه مباشرة دون اللجوء لإيضاحه إلى وسائل ومستندات أخرى خارجة عنه ومن أهم هذه الطرق3:
1- الاستنتاج بطريق القياس:
يلجأ إليه لتطبيق حكم وارد بشأن حالة معينة على حالة أخرى لم ينص عليها في التشريع وذلك لوجود الشبه الأكيد بين الحالتين أو لوجود ما يسمى بالاتحاد بينهما في السبب أو العلة.
مثال:
جاء في أحد الأحاديث النبوية الشريفة أن قاتل مورثه لا يرث فالحكم هنا هو حرمان الوارث الذي يقتل مورثه من نصيبه في الإرث والسبب هو قتله للمورث وقيست هذه الحالة على حالة ثانية تتعلق بالموصى له الذي يقتل الموصي فيطبق عليه نفس الحكم ويحرم من حقه في الوصية لتشابه الحالتين واتحادهما بالعلة.
2- الاستنتاج من باب أولى:
يلجأ إليه لتطبيق حكم وارد بشأن حالة معينة على حالة أخرى لم ينص عليها بالتشريع لا لأن علة الحكم في الحالة الأولى أو سببه متوافران في الحالة الثانية فحسب بل لأنهما أكثر توافراً في الحالة الثانية من الأولى.
مثال:
فمن الآية الكريمة التي تأمر الإنسان بحسن معاملة أبويه نستنتج: { لا تقل لهما أف ولا تنهرهما} أنه من باب أولى أن من واجبه أيضاً عدم ضربهما.
3- الاستنتاج بمفهوم المخالفة:
يلجأ إليه لتطبيق عكس الحكم الوارد بشأن حالة معينة على حالة أخرى لم ينص عليها في التشريع, لأن هذه الحالة الثانية تختلف كل الاختلاف عن الأولى بحيث تعتبر معاكسة لها تماماً.
فطريقة الاستنتاج بمفهوم المخالفة هي عكس الاستنتاج بطريقة القياس.
ففي الاستنتاج بمفهوم المخالفة تكون الحالة الغير المنصوص عليها بنص تشريعي معاكسة للحالة المنصوص عليها بذلك النص ولهذا فإن من الضروري أن تطبق عليها حكماً معاكساً.
مثال:
إن المادة " 405 " من القانون المدني تنص على: " إذا هلك المبيع قبل التسليم... انفسخ البيع واسترد المشتري الثمن ", من الممكن أن نستنتج بمفهوم المخالفة أنه إذا هلك المبيع بعد التسليم لا قبله فلا ينفسخ المبيع ولا يكون للمشتري الحق في استرداد الثمن.
ثانياً: طرق التفسير الخارجية:
ونعني بذلك مجموعة الأدلة والوثائق والوسائل التي يستعين بها القاضي لتفسير النص التشريعي وبيان معناه. وأهم هذه الطرق1:
1- حكمة التشريع وغايته:
إن المشرع حين يضع نصاً من النصوص لا يفعل ذلك بصورة عفوية أو اعتباطية وإنما هو يختار هذا النص سعياً وراء غاية يحرص عليها أو تحقيقاً لحكمة يراها والحكمة التي يتضمنها تساعد إذن على تفسير هذا النص حين غموضه وعلى استنتاج الحكم الصحيح منه.
وعلى هذا مثلاً حين يشدد التشريع العقوبة في حالة " السرقة ليلاً " فإننا نستطيع أن نفسر هذه العبارة بأنها السرقة التي تقع أثناء الظلام وليس ليلاً بالمعنى الفلكي الذي يمتد من الغروب إلى الشروق إذ أن المشرع لا يقصد في الواقع أن يشدد العقوبة بجريمة السرقة التي تقع خلال ساعات معينة وإنما خلال ظروف معينة وهي وجود الظلام.
2- الأعمال التحضيرية:
تشمل الأعمال التحضيرية جميع الأعمال التي سبقت صدور التشريع عن السلطة التشريعية أو رافقته.
وأهم الوثائق التي تتضمنها هذه الأعمال التحضيرية:
أ ـ المذكرة الإيضاحية أو لائحة الأسباب الموجبة التي ترفق عادة بالتشريع بيان الأسباب التي دعت إلى إصداره والغاية المتوخاة منه وأهم ما يتضمنه من قواعد قانونية بارزة.
$ب ـ الدراسات التي تقوم بها اللجان التشريعية المختصة حول هذا التشريع بعد إحالته إليها.
$ج- مناقشات أعضاء مجلس الشعب المتعلقة بهذا التشريع حين عرضه عليهم للتصويت عليه وإقراره والإيضاحات التي يدلى بها حوله.
ج- المصادر أو السوابق التاريخية:
هي المصادر التي أخذ عنها التشريع قواعده واستمد منها أحكامه, فالتشريعات الأجنبية تعتبر بمثابة مصادر تشريعية لأغلب تشريعاتنا.
كما أن الشريعة الإسلامية تعتبر أيضاً المصدر التاريخي لقانون الأحوال الشخصية.
فعندما يجد القاضي نفسه أمام نص تشريعي غامض بإمكانه أن يرجع إلى المصدر الأصلي الذي استمد منه هذا التشريع أحكامه وأن يفسر النص في ضوئه.
الفرع الرابع
تطبيق التشريع من حيث الزمان والمكان أو تنازع القوانين
قد تحدث وقائع قانونية تجاوز في بعض عناصرها حدود الدولة الواحدة وتمتد إلى دول متعددة, ومن المهم في هذه الحالة أيضاً أن نحدد مدى إمكانية تطبيق كل من تشريعات هذه الدول المختلفة عليها, وهذا ما نعبر عنه بتطبيق التشريع من حيث المكان.
وقد تصدر في فترات متعاقبة تشريعات ضمن حدود الدولة الواحدة يخالف بعضها أو يناقض البعض الآخر، ومن المهم في هذه الحالة أيضاً أن نحدد مدى إمكانية تطبيق كل من هذه التشريعات على الوقائع القانونية التي تحدث في فترات متعاقبة، وهذا ما نعبر عنه بتطبيق التشريع من حيث الزمان.
وفي كلتا الحالتين يكون هناك تشريعات يتنازعان الواقعة أو القضية الواحدة ويحاول كل $منها أن يشملها بحكمه.
فإذا كان التنازع بين تشريعات متعاقبة ضمن الدولة الواحدة كان تنازعاً من حيث الزمان, وأما إن كان بين تشريعات دول متعددة فهو تنازع من حيث المكان.
والتنازع سواء من حيث المكان أو الزمان لا يقع بين التشريعات وحدها وإنما يقع بين القواعد القانونية المختلفة أياً كان مصدرها.
أولاً- تطبيق التشريع من حيث المكان
1 -المبدأ العام
عرض المبدأ:
المبدأ الذي يتبع في هذا الموضوع يبدو سهلاً ومنطقياً في نفس الوقت: فالتشريع يطبق منذ صدوره ونفاذه لحين إلغائه فهو لا يسري على ما تم من أفعال وتصرفات قبل نفاذه وهو لا يتناول في حكمه ما ينشأ عن هذه الأفعال والتصرفات بعد زواله وإنما ينحصر تأثيره ومفعوله فيما بين هاتين النقطتين نقطة مبدأه ونقطة منتهاه1.
وينتج عن هذا أن التشريع الجديد يطبق فوراً منذ نفاذه بالنسبة للمستقبل ولكنه لا يسري على الماضي.
ويسمى التطبيق الفوري للتشريع بالأثر المباشر للتشريع, أما عدم سريانه على الماضي فيسمى بعدم رجعية التشريع.
فالمبدأ يقوم على فكرتين:
أ- الأثر المباشر للتشريع:
وهذا يقتضي تطبيق التشريع الجديد فوراً ووقف العمل بالتشريع السابق.
ب- عدم رجعية التشريع:
وهذا يقتضي عدم سريان التشريع الجديد على الماضي بل تطبيق التشريع القديم على ما تم من أفعال وتصرفات قبل نفاذ التشريع الجديد1.
مثال:
لو صدر تشريع يمنع تهريب الذهب خارج البلاد فإنه يطبق فوراً بالنسبة لجميع الأفعال التي ترتكب بعد نفاذه.
مثال:
لو فرضنا أن تشريعاً جديداً يشترط لصحة هبة العقار أن تكون بسند رسمي, فإن كل هبة عقار لا تتم بسند رسمي بعد نفاذ التشريع الجديد تعتبر باطلة, بينما تعتبر كل هبة تمت قبل نفاذ التشريع صحيحة.
ضرورة هذا المبدأ:
إن ضرورة تطبيق التشريع الجديد فوراً لا تحتاج إلى تبرير لأن التشريع الجديد يصدر ليلغي التشريع القديم ويحل محله.
أما ضرورة عدم سريان التشريع الجديد على الماضي أو عدم رجعية التشريع فمبدأ هام يستند إلى مبررات كثيرة من المنطق والعدل والمصلحة.
صعوبة تطبيق هذا المبدأ:
في الواقع هنالك حالات لا يثير فيها تطبيق هذا المبدأ أية صعوبة كما في الأمثلة التي ذكرناها سابقاً.
ونلاحظ أن أي حادثة حاولنا أن نطبق التشريع عليها تكون قد تمت إما بعد نفاذ التشريع الجديد (وعندها يطبق التشريع الجديد عليها) أو قبل نفاذه (عندها تخضع لحكم التشريع القديم).
ولكن هنالك حالات كثيرة لا تنقضي فيها الوقائع والتصرفات دفعة واحدة وإنما هي تمتد فترة من الزمن بحيث تبدأ في ظل التشريع القديم ثم تستمر إلى ما بعد نفاذ التشريع الجديد.
مثال (1):
$فلو أن شخصاً أوصى بثلث ماله في ظل تشريع يجيز الوصية بثلث المال, ثم صدر بعد ذلك تشريع يحرم الوصية بأكثر من الربع, فأي التشريعين يطبق بالنسبة للوصية ؟
مثال (2):
وأيضاً شخص بلغ سن الأهلية في ظل تشريع يعتبر سن الأهلية 18 سنة, ثم بعد بلوغه سن الأهلية بعام صدر تشريع يجعل سن الأهلية 21 سنة.
هل يعتبر هذا الشخص ناقص الأهلية أم كامل الأهلية ؟
وللإجابة عن هذه الأمثلة لا بدل لنا من دراسة النظريتين التاليتين:
2 -النظرية التقليدية والنظرية الحديثة:
أ- النظرية التقليدية:
عرض النظرية:
إن المعيار الذي تتخذه هذه النظرية للتفريق بين الحالات التي يمتنع فيها تطبيق التشريع الجديد, والحالات التي يجب فيها تطبيقه, يقوم على التمييز بين ما تسميه بالحق المكتسب ومجرد الأمل1.
وترى هذه النظرية ضرورة تطبيق التشريع القديم لا الجديد إذا كان الأمر يتعلق بحق مكتسب, لأن تطبيق التشريع الجديد على الحق المكتسب يؤدي إلى إعطائه مفعولاً رجعياً وهذا غير جائز بحسب مبدأ عدم رجعية التشريع, أما إذا كان لا يتعلق بحق مكتسب وإنما بمجرد أمل فليس في تطبيق التشريع الجديد في هذه الحالة ما يمس بمبدأ عدم رجعية التشريع.
من أهم الأمثلة على ذلك:
لو أن إنساناً أوصى بثلث تركته في ظل تشريع يجيز الوصية بالثلث ثم صدر بعد ذلك تشريعاً جديداً يحرم الوصية بأكثر من الربع فإذاً علينا التفريق بين الحالتين:
أ ـ إذا كان الموصي قد توفي قبل صدور التشريع الجديد, فإن الموصى له بمجرد وفاة الموصي يصبح ذا حق مكتسب في الوصية وتؤول إليه ملكية ما أوصي له به, وعلى هذا لا يجوز أن يطبق التشريع الجديد على هذه الوصية, لأن تطبيقه يؤدي إلى المساس بحق الموصى له, وهو حق مكتسب.
ب ـ أما إذا كان الموصي لم يمت بعد حين صدور التشريع الجديد فإن هذا التشريع يجب أن يطبق فوراً على الوصية المذكورة فلا تجوز إلا بمقدار ربع التركة فقط.
والسبب في تطبيق التشريع الجديد في هذه الحالة هو أن تطبيقه لا يؤدي إلى المساس بحق مكتسب لأن الموصى له ليس له حق مكتسب في الوصية قبل موت الموصي, وإنما له مجرد أمل فيها إذ أن الموصي يستطيع أن يرجع عن وصيته في أي وقت يشاء.
الاستثناءات من القاعدة التي تقرها النظرية التقليدية1:
أ- إذا نص التشريع الجديد صراحة على سريان أحكامه على الماضي, لأن مبدأ عدم رجعية التشريع لا يقيد المشرع وإنما يقيد القاضي فقط.
ومعنى ذلك أن القاضي لا يستطيع أن يجعل للتشريع مفعولاً رجعياً بحيث يطبقه بالنسبة $للحقوق المكتسبة السابقة لصدوره, في حين يستطيع المشرع فعل ذلك. إذن فمبدأ عدم رجعية التشريع يقيد القاضي ولا يقيد المشرع
ب- إذا كان التشريع الجديد يتعلق بالنظام العام:
فالتشريع الجديد إذا كان من التشريعات التي تتعلق بالنظام العام قد يُسمح في كثير من الأحيان بإعطائه مفعولاً رجعياً وتطبيقه بالنسبة للماضي.
مثال:
صدر تشريع يمنع التعامل بالذهب, وهذا يعتبر من التشريعات التي تتعلق بالنظام العام فإنه يطبق على العقود الجارية بعد إصداره وقبل صدوره. فلا يجوز الدفع بالذهب بعد صدور هذا التشريع, حتى ولو تم الاتفاق على ذلك قبل صدور التشريع.
ج- إذا كان التشريع الجديد تشريعاً تفسيرياً, فإنه يطبق اعتباراً من تاريخ التشريع الذي جاء لتفسيره وليس من تاريخ صدوره فقط.
د- إذا كان التشريع الجديد من التشريعات الجزائية التي تلغي عقوبة سابقة أو تضمن عقوبة أخف للمتهم.
والسبب في ذلك هو أن التشريع الجديد ما دام قد ألغى العقوبة أو خفف منها فمن الضروري أن يستفيد المتهم منه لأنه أرحم بالنسبة إليه وأعدل حيث أن التشريع الجديد لا يقضي بإلغاء العقوبة أو تخفيفها إلا لشعوره بشدة وقساوة العقوبة السابقة وذلك بخلاف لو كان التشريع الجديد يعاقب على فعل لم يكن معاقب عليه سابقاً أو يتضمن عقوبة أشد من العقوبة المقررة.
فعندها يطبق التشريع القديم لأنه ليس من العدل أن نفرض عقوبة على إنسان بسبب فعل لم يكن معاقباً عليه أو نعاقبه بأشد من العقوبة التي كانت مقررة حين ارتكاب الفعل.
نقد النظرية التقليدية:
يمكننا أن نلخص النقد الذي وجه إلى النظرية التقليدية وإلى معيارها في التفريق بين الحق المكتسب ومجرد الأمل في النقطتين التاليتين1:
أ- غموض هذا المعيار:
إذ يصعب التفريق في الواقع بين ما يجب أن يعتبر حقاً مكتسباً فلا يطبق عليه التشريع الجديد أو مجرد أمل فيطبق عليه هذا التشريع.
وقد حاولت هذه النظرية التفريق بين الحق المكتسب ومجرد الأمل فقالت:
الحق المكتسب:
هو ما يدخل في ذمتنا وثروتنا بصورة نهائية ويصبح جزءاً منها بحيث لا يمكن انتزاعه بدون إرادتنا.
أما مجرد الأمل:
فهو عبارة عن أمنية أو احتمال قد يتحقق أو لا يتحقق.
ب- عدم صحة هذا المعيار في بعض الأحيان:
إذ يلاحظ أن هنالك بعض الحالات التي تتعلق بحق مكتسب لا بمجرد أمل ومع ذلك يطبق عليها التشريع الجديد لا القديم, وفي بعض الحالات تتعلق بمجرد أمل ومع ذلك يطبق عليها التشريع القديم.
ومن أمثلة ذلك مثال الوصية الذي طرحناه:
حيث علمنا أن الوصية لا تنشئ حقاً مكتسباً للموصى له في حال حياة الموصي وإنما هي عبارة عن مجرد أمل لا يصبح حق مكتسب إلا بوفاة الموصي.
ولكن لو أن تشريعاً جديداً صدر في حال حياة الموصي, لا ليعدل من حدود الوصية وإنما ليضف بعض الشروط عليها ـ كشرط إنشائها بسند رسمي عند كاتب العدل ـ فإن هذا التشريع لا يطبق على الوصية السابقة لصدوره حتى ولو كان الموصي لا يزال على قيد الحياة, فالوصية في هذه الحالة تظل صحيحة استناداً إلى التشريع الذي نشأت في ظله, ولا يطبق عليها التشريع الجديد بالرغم من أن تطبيقه لا يتعلق بحق مكتسب وإنما بمجرد أمل.
ب- النظرية الحديثة:
تفرق هذه النظرية بين ما يسمى بطريق إنشاء أو زوال الوضع القانوني من جهة وبين آثار ذلك الوضع أو المركز القانوني من جهة ثانية.
فكل وضع قانوني (كالوضع القانوني للدائن أو الموصي) إنما ينشأ ويزول بطرق مختلفة هي عبارة عن وقائع وتصرفات قانونية كما أن كل وضع قانوني تنتج عنه بعض الآثار (كالآثار التي تترتب على الملكية أو الوصية أو حق الدائن)1.
وترى هذه النظرية أن الوقائع والتصرفات التي تؤدي إلى إنشاء الأوضاع القانونية أو زوالها يجب أن تتم وفقاً لشروط التشريع الذي تمت في ظله.
فلو غير تشريع من شروط تكوين واقعة ما, فإن هذا التشريع لا يطبق على الوقائع التي تمت قبل صدوره إلا إذا نص المشرع على خلاف ذلك.
أما لو كان التشريع الجديد لا يعدل من شروط أو صحة الوقائع التي تؤدي لإنشاء وضع قانوني وإنما يعدل من آثار هذا الوضع فيجب التفريق بين حالتين1:
أ- بالنسبة للآثار التي نجمت سابقاً عن هذا الوضع القانوني فهنا لا يمكن تطبيق التشريع الجديد عليها, إلا إذا نص المشرع على خلاف ذلك عملاً بمبدأ عدم رجعية التشريع.
ب- أما بالنسبة للآثار التي ستنجم عن هذا الوضع القانوني في ظل التشريع الجديد, فإن هذا التشريع هو الذي يطبق عليها عملاً بمبدأ الأثر المباشر.
مقارنة بين النظرية التقليدية والنظرية الحديثة:
سنقارن بين هاتين النظريتين من خلال مثال الوصية الذي شرحناه سابقاً:
إن الوصية التي تنشأ وضعاً قانونياً للموصى له, وبحسب النظرية الحديثة يجب أن يكون هذا التصرف موافقاً من حيث تكوينه وصحته لقواعد التشريع, وعلى ذلك فالتشريع الجديد الذي يعدل من شروط صحة الوصية لا يطبق على الوصية التي أجريت قبل صدوره وإنما يطبق $عليها التشريع القديم, سواء صدر التشريع الجديد بعد وفاة الموصي أو في حياته.
وإن الآثار الناجمة عن الوصية لا تترتب بالنسبة للموصى له إلا بعد وفاة الموصي, وعلى هذا ففي حالة الوصية بثلث التركة في ظل تشريع يجيز ذلك ثم صدور تشريع جديد لا يجيز الوصية بأكثر من الربع فإننا نفرق بين ما إذا كان الموصي قد توفي قبل صدور التشريع أو بعده.
أ- إذا كان الموصي قد توفي قبل صدور التشريع الجديد:
لا يسري هذا التشريع على تلك الوصية, لا استناداً لوجود حق مكتسب كما في النظرية التقليدية ولكن لأن أثر الوصية قد ترتب قبل نفاذ التشريع الجديد.
ب- إذا توفي الموصي بعد نفاذ التشريع الجديد:
فإن التشريع الجديد يجب أن يطبق على تلك الوصية بحيث لا تنفذ إلا في حدود ربع تركة $الموصي, لا لأن -الموصى له ليس له سوى مجرد أمل قبل وفاة الموصي حسب النظرية التقليدية ولكن لأن أثر الوصية قد ترتب في ظل التشريع الجديد.
وبذلك نلاحظ أن معيار النظرية الحديثة أدق من معيار النظرية التقليدية. ويمكن ان نلاحظ على سبيل المثال أن الوصية تنشئ وضعاً قانونياً بحسب النظرية الحديثة
بعد أن درسنا النظرية التقليدية والنظرية الحديثة ننتقل لندرس:
3-الحلول المتبعة في نظامنا القانوني:
إن مسألة تطبيق التشريع من حيث الزمان مسألة معقدة وعلى حد كبير من الصعوبة وسنحاول أن نبين بعض الحلول المتبعة في نظامنا القانوني.
في القانون الجزائي:
بالنسبة للقانون الجزائي يجب التفريق بين حالتين1:
أ. أن يتضمن التشريع الجديد إحداث عقوبة لفعل لم يكن يعاقب عليه التشريع السابق أو تشديد العقوبة التي كان يحددها ذلك التشريع لأحد الأفعال.
ب. أن يتضمن التشريع الجديد إلغاء العقوبة التي كان يقضي بها التشريع السابق بالنسبة لفعل من الأفعال أو تخفيفها.
في أصول المحاكمات المدنية والتجارية:
نصت المادتان الأولى والثانية من قانون أصول المحاكمات على أحكام تنازع قوانين الأصول من حيث الزمان ومنها نستنتج أن قوانين الأصول تطبق فوراً " على ما لم يكن قد فصل فيه من الدعاوى أو تم من الإجراءات قبل تاريخ العمل بها ". فلو صدر تشريع جديد يجعل أمر النظر في نوع معين من الدعاوى من اختصاص محكمة جديدة غير المحكمة التي كانت تعرض عليها هذه القضايا.
فإن التشريع الجديد يطبق فوراً وتحال القضايا من المحكمة السابقة للمحكمة الجديدة.
ويستثنى من هذه القاعدة2:
أ- التشريعات المعدلة للاختصاص لا تطبق إذا كان تاريخ العمل بها يبدأ بعد تاريخ ختام المرافعة في الدعوى.
ب- التشريعات المعدلة للمواعيد لا تطبق إذا كان الميعاد قد بدأ قبل تاريخ العمل بها بل يطبق التشريع القديم الذي بدأ في ظله.
مثال:
لو صدر حكم عن المحكمة البدائية وكانت مدة الاستئناف فيه (15) يوم ثم صدر تشريع جديد يجعل مدة الاستئناف (10) أيام, فإن مدة الاستئناف تظل (15) يوم وفقاً للتشريع القديم وذلك خلافاً فيما لو صدر الحكم بعد صدور التشريع الجديد فعندها تصبح مدة الاستئناف (10) أيام وفقاً للتشريع الجديد.
في القانون المدني:
نص القانون المدني على كيفية تطبيق التشريع من حيث الزمان بالنسبة لثلاث حالات وهي:
أ- الأهلية:
نصت المادة السابعة من القانون المدني على:
" النصوص المتعلقة بالأهلية تسري على جميع الأشخاص الذين تنطبق عليهم الشروط المقررة في هذه النصوص, وإذا عاد شخص توافرت فيه الأهلية بحسب نصوص قديمة, ناقص الأهلية بحسب نصوص جديدة فإن ذلك لا يؤثر في تصرفاته السابقة ".
فلو أن شخصاً بلغ في ظل تشريع قديم سن الأهلية الكاملة (18) سنة ثم صدر تشريع جديد يحدد سن الأهلية الكاملة بـ (21) عام فإن التشريع الجديد يطبق فورياً ويعود هذا الشخص ناقص الأهلية حتى يتم سن (21) عاماً.
أما بالنسبة للتصرفات التي تصدر عن هذا الشخص (كالهبة مثلاً) فهي صحيحة في ظل التشريع القديم لأنها صدرت عن شخص كامل الأهلية, أما لو صدرت عنه بعد صدور التشريع الجديد فهي باطلة لصدورها عن شخص ناقص الأهلية.
ب- التقادم:
يجب التفريق بالنسبة للتقادم بين نوعين من الحالات1:
الحالة الأولى:
أن يقرر النص الجديد مدة للتقادم أطول من المدة التي يقررها النص القديم.
الحالة الثانية:
أن تكون مدة التقادم التي يقررها النص الجديد أقصر من المدة التي يقررها النص القديم.
ففي الحالة الأولى:
لنفرض أن مدة التقادم بالنسبة لحق ما كانت بحسب تشريع قديم (15) سنة ثم صدر تشريع جديد يجعل المدة (20) سنة, فلو أن تقادماً بدأ في ظل تشريع قديم وكانت قد انقضت منه (14) عام حين صدور التشريع الجديد فإن هذا التشريع يطبق فوراً ويجب عندها لاكتمال هذا التقادم أن يبلغ السنين العشرين التي ينص عليها التشريع الجديد, أما في حال أن التقادم أكمل (15) سنة قبل صدور التشريع الجديد فإن هذا التقادم يعتبر مكتملاً ويطبق عليه التشريع القديم.
أما في الحالة الثانية:
لنفرض أن مدة التقادم بحسب تشريع قديم (15) سنة ثم أصبحت بحسب تشريع جديد (5) سنوات فلو أن تقادماً بدأ في ظل التشريع القديم واستمر مدة (3) سنوات ثم صدر التشريع الجديد فإن التشريع الجديد هو الذي يطبق منذ صدوره شريطة أن تبدأ مدة التقادم اعتباراً من صدور التشريع الجديد لا من بدء التقادم السابق أي تطبق مدة السنوات الخمس إضافة لمدة الثلاث سنوات التي مرت من التقادم السابق.
أما إذا كانت المدة الباقية من التقادم السابق أقل من المدة التي يقررها التشريع الجديد فإن التقادم يكتمل بانتهاء هذه المدة الباقية ولا حاجة لتطبيق مدة التقادم الجديد.
فلو أتم التقادم السابق فرضاً (13) سنة فإنه لا تطبق عليه مدة (5) سنوات وإنما يكتفى بإتمام السنتين المتبقيتين.
مثال:
كانت مدة التقادم ضمن تشريع قديم (17) سنة وصدر تشريع جديد حددها بمدة (6) سنوات وكان التقادم قد استمر مدة (10) سنوات في ظل التشريع القديم يعتبر التقادم مكتملاً.
ج- الأدلة التي تعد مسبقاً:
نصت المادة العاشرة من القانون المدني على ما يلي:
" تسري في شأن الأدلة التي تعد مقدماً النصوص المعمول بها في الوقت الذي أعد فيه الدليل, أو في الوقت الذي كان ينبغي فيه إعداده ".
فلو أن شخصين تعاقدا على مبلغ 100 ليرة سورية وكان يجوز إثبات التعاقد بشهادة الشهود ثم صدر بعد ذلك تشريع لا يجيز إثبات التعاقد بشهادة الشهود إلا على ما لا يتجاوز 50 ل.س فاذا تجاوز العقد هذا المبلغ فيجب إثباته بسند خطي, فإنه من الممكن إثبات العقد السابق بشهادة الشهود بالرغم من أن التشريع الجديد لا يجيز ذلك, لأنه في ذلك الوقت الذي تم فيه العقد لم يكن هنالك حاجة لإعداد دليل خطي.
العقود:
يطبق بالنسبة للعقود دوماً التشريع الذي جرت في ظله سواء فيما يتعلق بشروط انعقادها أو صحتها أو فيما يتعلق بآثارها.
على أن التشريع الجديد يطبق على الغالب بالنسبة للآثار التي تنجم بعد نفاذه عن العقود السابقة إذا كان هذا التشريع من النظام العام1.
فالتشريع الجديد لا يستطيع أن يعدل من شروط انعقاد أو صحة العقود السابقة لصدوره ونفاذه.
وكذلك لا يطبق التشريع الجديد على الآثار التي سبق أن ترتبت على العقود قبل نفاذه ولا الآثار التي ستترتب عليها بعد ذلك, بل يطبق بالنسبة لهذه الآثار التشريع القديم الذي أجريت العقود في ظله.
ثانيا -تطبيق التشريع من حيث المكان
مسألة تطبيق التشريع من حيث المكان تفترض وجود تنازع بين تشريعات مختلفة صادرة عن دول متعددة فيكون من الواجب انتقاء أحد هذه التشريعات لتطبيقه على القضايا التي يراد الحكم فيها.
$ولقد ظهر - مبدآن متناقضان لبيان كيفية تطبيق التشريعات ومدى شمولها من حيث المكان والأشخاص هما:
مبدأ إقليمية القوانين.
ومبدأ شخصية القوانين.
مبدأ إقليمية القوانين:
تعتبر الدولة بحسب مبدأ إقليمية القوانين, صاحبة السلطان المطلق والسيادة التامة في حدود إقليمها وبذلك تكون جميع التشريعات الصادرة عن الدولة تطبق ضمن حدود الإقليم على الأشخاص الذين يقيمون فيه.
ويقوم هذا المبدأ على فكرتين1:
1 ـ تطبق تشريعات الدولة ضمن حدود إقليمها على جميع من يقيمون فيه سواء أكانوا مواطنين أو أجانب.
2 ـ لا تطبق هذه التشريعات ضمن حدود أقاليم الدول الأخرى بالنسبة لمواطني الدولة التي صدرت عنها, بل يخضع هؤلاء المواطنون لتشريعات الدول صاحبة السيادة على الأقاليم التي يقيمون فيها.
مبدأ شخصية القوانين:
$ويقوم هذا المبدأ على فكرتين تناقض تماماً الفكرتين اللتين يقوم عليهما المبدأ السابق وهما2:
1 ـ تطبق تشريعات الدولة على جميع المواطنين الذين ينتسبون إليها, سواء أكانوا يقيمون ضمن حدود إقليمها أم خارج هذا الإقليم.
2 ـ لا تطبق هذه التشريعات على الأجانب الذين يقيمون ضمن إقليم الدولة الصادرة عنها, بل يخضع هؤلاء لتشريعاتهم الوطنية.
مبررات كل من المبدأين:
إن مبدأ إقليمية القوانين ينسجم إلى حد كبير مع فكرة سيادة الدولة وسلطانها ضمن حدود إقليمها.
إلا أن مبدأ إقليمية القوانين لا يشجع كثيراً على نمو العلاقات بين أفراد الدول المختلفة لأن الأجنبي تدفعه تجارته أو مهنته للعيش في بلد غريب قد يكون حريصاً على ألا يخضع لتشريعات هذا البلد كلها.
وتبدو أهمية مبدأ شخصية القوانين بصورة خاصة بالنسبة لأمور الأحوال الشخصية من زواج أو طلاق.... إذ أن أغلب الناس حريصون بالنسبة لهذه الأمور على أن تطبق عليهم تشريعاتهم الوطنية لأنها أقرب إلى طبائعهم وعاداتهم وتقاليدهم.
تطبيق التشريع من حيث المكان بحسب نظامنا القانوني:
إن أغلب النظم في عصرنا الحاضر ومن بينها النظام المطبق في بلادنا تأخذ بالمبدأين معاً, فهي تطبق كل منهما بحسب نوع العلاقات التي يراد تطبيق التشريع عليها.
ولكننا نستطيع القول بأن مبدأ إقليمية القوانين هو الغالب بالنسبة لنظامنا القانوني.
الأمور التي يطبق بالنسبة إليها المبدآن معاً:
تدخل في هذه الزمرة في الواقع, الأمور الجزائية حيث يطبق بالنسبة إليها مبدأ إقليمية القوانين, كما يطبق مبدأ شخصية القوانين.
وذلك لأن التشريعات السورية تطبق بالنسبة لجميع الجرائم التي ترتكب على إقليمها سواء ارتكبها سوري أو أجنبي مبدأ (إقليمية القوانين) وتطبق بالنسبة للجرائم التي يرتكبها المواطنون السوريون خارج الإقليم (الأرض السورية) مبدأ (شخصية القوانين).
والسبب في ذلك هو حرص الدولة على معاقبة كل من يرتكب جريمة على أرضها تهدد سلامتها وأمنها, وتحرص على معاقبة المجرمين من أبنائها وفقاً لقواعدها ولو ارتكبوا جرائمهم خارج أرضها لأنها لا ترضى لهم اقتراف الجرائم.
الأمور التي تطبق بالنسبة إليها مبدأ إقليمية القوانين:
ومن أهم هذه الأمور:
1 - الأمور المتعلقة بالضابطة (البوليس) كتنظيم المرور ومراقبة الأسواق والمحلات...
2- القواعد المتعلقة بالأشياء من عقارات أو أموال منقولة وبما يترتب عليها من حقوق عينية.
3- القواعد المتعلقة بالالتزامات غير التعاقدية.
4- القواعد المتعلقة بالاختصاص القضائي وإجراءات المحاكمة.
5- القواعد المتعلقة بالنظام العام والآداب العامة.
الأمور التي تطبق بالنسبة إليها مبدأ شخصية القوانين:
1- الحالة المدنية للأشخاص وأهليتهم (المادة 12).
2- الشروط الموضوعية لصحة الزواج (المادة 13) وآثار الزواج (المادة 14).
3- الطلاق (المادة 14).
4- الالتزام بالنفقة فيما بين الأقارب (المادة 16).
5- المسائل الموضوعية الخاصة بالولاية والوصاية والقوامة وغيرها من النظم التي تحمي المحجورين والغائبين (المادة 17).
6- الميراث والوصية وسائر التصرفات المضافة إلى ما بعد الموت (المادة 18).
تطبيق التشريع من حيث المكان بالنسبة للعقود1:
بالنسبة للعقود وحسب المادة 20 من القانون المدني يطبق التشريع الذي يختاره المتعاقدان, فإذا لم يتفقا على تشريع معين يطبق التشريع النافذ في موطنهما المشترك, فإذا لم يكن لهما موطن مشترك يطبق التشريع في الدولة التي تم فيها العقد.
أما العقود التي تتعلق بعقار ما فيطبق عليها تشريع موقع هذا العقار.
الفرع الخامس
إلغاء التشريع
أولاً:تعريف الإلغاء
إلغاء التشريع يعني زواله وإنهاء العمل به, فكما أن المشرع يستطيع أن يسن ما يشاء من التشريعات حين تدعو الضرورة فإنه يستطيع إلغاء التشريعات التي يرى أنها لم تعد ملائمة2.
والتشريع إما أن يلغى دون أن يعقبه تشريع جديد يحل محله في التطبيق, وذلك كأغلب التشريعات التي تصدر خلال الظروف الاستثنائية ـ كظروف الحرب ـ والتي تلغى بانتهاء هذه الظروف.
وإما أن يستبدل بالتشريع الملغى تشريع جديد يحل محله في التطبيق.
والإلغاء إما أن يكون عاماً بحيث يشمل جميع أحكام التشريع السابق, أو جزئياً بحيث يقتصر على بعض هذه الأحكام دون بعضها الآخر.
ثانياً:السلطة التي تملك حق إلغاء التشريع
لإلغاء نص تشريعي يجب أن يكون النص الجديد الذي يتضمن هذا الإلغاء صادراً عن السلطة نفسها التي أصدرت النص السابق أو عن سلطة أعلى منها.
فهنالك تسلسل بين أنواع النصوص التي تتضمن القواعد القانونية وتسلسل بين السلطات التي تصدر عنها هذه النصوص.
وعلمنا أن الدستور الصادر عن السلطة التأسيسية هو أعلى هذه النصوص, ثم يليه التشريع الصادر عن السلطة التشريعية ثم المراسيم والقرارات الصادرة عن السلطة التنفيذية.
فكل نص من هذه النصوص يلغى بنص مماثل أو بنص أعلى منه ولكنه لا يمكن أن يلغى بنص أقل منه1.
مثال:
فالنص التشريعي يمكن أن يلغى بنص تشريعي آخر أو بنص دستوري ولكنه لا يلغى بقرار إداري.
وبحسب الرأي الراجح لايعتبر النص التشريعي ملغى بسبب عدم الاستعمال, فعدم الاستعمال إنما يعني في الواقع وجود عرف مخالف لهذا النص, والعرف المخالف للنص التشريعي لا يؤدي لإلغائه.
وبحسب المادة الثانية من القانون المدني:
" لا يجوز إلغاء نص تشريعي إلا بتشريع لاحق... ".
فالنص التشريعي يمكن الاحتجاج به وطلب تطبيقه ما دام المشرع لم يعمد إلى إلغائه.
ثالثاً:أنواع الإلغاء2
نصت المادة الثانية من القانون المدني على ما يلي:
" لا يجوز إلغاء نص تشريعي إلا بتشريع لاحق ينص صراحة على الإلغاء, أو يشتمل على نص يتعارض مع النص التشريعي القديم, أو ينظم من جديد الموضوع الذي سبق أن قرر قواعده ذلك التشريع ".
1- الإلغاء الصريح:
ويكون هنالك إلغاء صريح حين يتضمن التشريع الجديد نصاً يقضي بإلغاء التشريع السابق أو بإلغاء بعض مواده.
وهذا الإلغاء هو أبسط أنواع الإلغاء.
2-الإلغاء الضمني:
ويقع الإلغاء الضمني في إحدى الحالتين التاليتين:
أ ـ أن يشمل التشريع اللاحق على نص يتعارض مع نص التشريع القديم.
ب ـ أن ينظم التشريع اللاحق من جديد الموضوع الذي سبق أن قرر قواعده التشريع القديم.
الحالة الأولى:
إذا تعذر تطبيق النصين في آن واحد والعمل بهما كليهما, فيعتبر أن النص اللاحق قد ألغى ضمناً النص القديم.
أما إذا أمكن التوفيق بين النصين فلا يعتبر أن النص اللاحق قد ألغى السابق وإنما يطبق كل منهما بالنسبة للحالات التي تناولها في أحكامه.
الحالة الثانية:
يعتبر التشريع اللاحق في هذه الحالة قد حل محل التشريع القديم وألغاه وإن لم ينص صراحة على هذا الإلغاء.
ومن أمثلة هذا النوع من الإلغاء حالة الدستور السوري الذي صدر عام 1950 فهو بالرغم من أنه لم ينص صراحة على إلغاء الدستور السابق له فانه يعتبر قد ألغاه ضمناً حتى بالنسبة لما يتضمنه من أحكام لا تتعارض مع أحكامه.
ويلاحظ في أغلب الأحيان أن التشريع اللاحق الذي يصدر لينظم من جديد الموضوع يتضمن عادة نصاً صريحاً بإلغاء التشريع القديم.
الفصل الثاني
المصادر غير التشريعية
تحدثنا في الفصل السابق عن التشريع وهو المصدر الأول من المصادر الرسمية,ونخصص $هذا الفصل لدراسة بقية المصادر سواء منها المصادر الرسمية وهي الشريعة الإسلامية $والعرف ومبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة, أو المصدران التفسيريان وهما الاجتهاد القضائي والفقه.
وعلى هذا فإن الفصل الحالي يتضمن الفروع التالية:
$الفرع الأول: الشريعة الإسلامية
$الفرع الثاني: العرف
$الفرع الثالث: مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة.
الفرع الرابع: الاجتهاد القضائي والفقه
الفرع الأول
الشريعة الإسلامية
أثر الدين كمصدر للقواعد القانونية:
يعرف الدين بأنه: (وحي من عند الله ينزل على نبي من أنبياءه لإرشاد الناس في معاشهم وفي معادهم).
أو: (كل ما يستمد من وحي القوة غير المنظورة وينسب إليها).
وتحدد الأديان للإنسان ثلاث أنواع من الواجبات وهي:
1 ـ واجبه نحو ربه.
2 ـ واجبه نحو نفسه.
3 ـ واجبه نحو مجتمعه.
أثر الدين المسيحي:
نستطيع القول أن المسيحية لم تحاول حين نشأتها تنظيم العلاقات الاجتماعية بين الناس وإيجاد نظام قانوني لهم ولكنها اكتفت بدعوتهم للتمسك بالمثل العليا وحثهم على الفضيلة والسبب في $ذلك يعود كون الذين أنزل عليهم الدين المسيحي كانت لهم قواعد قانونية يتبعونها وهي مستمدة من الديانة اليهودية أو من الشريعة الرومانية ولقد حرصت الكنيسة منذ اشتداد نفوذها $على تنظيم الكثير من العلاقات القانونية بين الناس لذلك يوجد قواعد قانونية تتضمنها الديانة المسيحية ولكن هذه القواعد لم تعرفها المسيحية منذ نشأتها الأولى وإنما هي من وضع رجال الكنيسة ولهذا يطلق عليها القانون الكنسي1.
أثر الدين الإسلامي:
لم يقتصر الإسلام على الدعوة إلى عبادة الله وطاعته وإنما جاء ناظماً لأمور الدنيا والآخرة معاً, وحاول إقامة نظام قانوني واجتماعي شامل يتبعه الناس في معاملتهم وأمورهم2.
ويختلف الإسلام عن المسيحية بأن حركة التشريع فيه رافقت الدولة الإسلامية منذ نشوئها وليس عمل الصحابة والفقهاء سوى امتداد لهذا الحركة, في حين تعتبر القواعد القانونية المسيحية من عمل رجال وفقهاء الكنيسة.
لمحة موجزة عن التطور التاريخي للشريعة:
يقسم هذا التطور إلى عدة مراحل:
1 ـ عصر الرسول (صلعم):
$تولى الرسول (صلعم) جميع أمور الدولة الإسلامية التي أنشأها من دينية أو دنيوية وكانت تعود إليه مهمة التشريع والقضاء وبيان القواعد القانونية التي يجب على الناس إتباعها.
والقواعد القانونية الإسلامية في هذا العصر كان لها مصدران وهما القرآن والسنة.
2- عصر التوسع والازدهار:
وهو يمتد حتى القرن الخامس للهجرة ونشطت فيه الحركة الفقهية وانصرف العلماء والفقهاء إلى استنباط الأحكام الشرعية وتدوينها وأهم خصائص هذا العصر:
جمع القرآن جمعاً صحيحاً وحاول الكثيرين من الفقهاء جمع السنة واعتبر القرآن والسنة المصدرين الرئيسين للشريعة الإسلامية.
لجأ الفقهاء بالإضافة إلى هذين المصدرين إلى مصدرين آخرين هما الإجماع والقياس وذلك $لظهور علاقات اجتماعية جديدة أوجدتها الفتوحات الإسلامية.
وظهرت في هذا العصر مذاهب فقهية ومنها المذاهب الأربعة المعروفة: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، أما القضاء فكان يتولاه كبار الفقهاء ويجرونه وفقاً لمذاهبهم.
3- عصر الركود والجمود:
في هذا العصر اشتد التقيد بالمذاهب والتعصب لها وضعفت الحركة الفقهية والفكرية وتوقف الاجتهاد وصار الفقهاء يكتفون بدراسة المذاهب السابقة وشرحها.
4- عصر الحكم العثماني:
$يعتبر امتداداً للعصر السابق ولكن بدت فيه ظاهرتان تجعلان من الضروري ذكره
وهما:
أ ـ محاولة تقنين الفقه الإسلامي على الأسلوب الحديث وذلك لأن الأحكام الفقهية لم تكن موضوعة بشكل تشريعات ذات مواد متسلسلة إنما كانت منثورة في الكتب الفقهية وكان لا بد للقاضي الذي يريد أن يرجع إلى هذه الكتب ويستخلص الأحكام منها أن يواجه رجوعاً صعباً وبحثاً عسيراً فيها وذلك لكثرة الآراء المتضاربة فيها.
وأضخم عمل قام في هذا الشأن في عهد الدولة العثمانية هو مجلة الأحكام العدلية التي تضمنت الأحكام والقواعد القانونية المتعلقة بأمور المعاملات الدينية وفقاً للمذهب الحنفي والتي كانت تعتبر بمثابة قانون مدني للدولة العثمانية.
ب ـ محاولة وضع تشريعات حديثة مستمدة من التشريعات الأجنبية ويعتبر هذا الاتجاه نقطة تحول بارزة في تاريخ الشريعة الإسلامية.
$وقد قامت هذه المحاولات بسبب تطور المدنية.
وتعقد أساليب الحياة من جهة وازدياد العلاقات والصلات مع البلاد الأجنبية من جهة ثانية
أثر الشريعة الإسلامية كمصدر للقواعد القانونية في نظامنا الحالي:
ينحصر أثر الشريعة الإسلامية حالياً كمصدر للقانون الوضعي في الجمهورية العربية السورية في الناحيتين التاليتين:
أ ـ الشريعة الإسلامية هي وحدها المطبقة بالنسبة للمسلمين في الأمور والأحوال الشخصية من زواج وطلاق ونسب... الخ.
كما أنها تطبق بالنسبة لغير المسلمين في بعض الأمور كالإرث مثلاً. ويصعب الاستعاضة عن الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية بأحكام مستمدة من تشريعات أجنبية لأن هذه القضايا تعتبر ذات صلة بعادات الأمة وتقاليدها ومعتقداتها الدينية.
$ب ـ يعتبر القانون المدني السوري الشريعة الإسلامية بمثابة مصدر ثاني من مصادر القانون بعد نصوص التشريع, وذلك يعني أن الشريعة الإسلامية لم تعد المصدر الرئيسي للقواعد القانونية في بلادنا, ولكنها تعتبر كمصدر مكمل أو متمم للتشريع ويرجع إليها بمختلف مذاهبها لا إلى مذهب واحد منها.
$تعتبر الشريعة الإسلامية من المصادر التاريخية للقانون المدني حيث استمد هذا القانون الكثير من أحكامه منها ومعظم أحكامه الأخرى لا تتعارض مع مبادئها وقواعدها.
الفرع الثاني
العرف
مكانة العرف بالنسبة لبقية المصادر:
يعتبر القانون المدني السوري العرف بمثابة مصدر ثالث من مصادر القانون بعد التشريع والشريعة الإسلامية.
أما القانون المدني المصري فقد قدم العرف على مبادئ الشريعة الإسلامية معتبراً إياه المصدر الثاني.
وكذلك فإن العرف يأتي بالنسبة لأغلب الشرائع بعد التشريع مباشرة في المكانة والمنزلة والأهمية.
إن العرف يعتبر متأخراً في المرتبة عن التشريع بالنسبة لأغلب الشرائع حالياً, ففي الدول المتمدنة هناك هيئات ومجالس مختصة تعود إليها مهمة التشريع وسن القواعد القانونية التي تصدر بشكل تشريعات والتي تعتبر المصدر الأول في القانون.
يعتبر العرف أشد قدماً من التشريع من الوجهة القانونية.
مزايا العرف ومساؤه:
أهم ميزة يتمتع بها العرف هي أنه بسبب نشأته الخاصة عن طريق التعامل بين الناس فيعتبر منبثقاً عن المجتمع نفسه وهو يبدو بالتالي أشد المصادر ملائمة لرغبات المجتمع وحاجته وأكثرها تمشياً معه في سيره وتطوره. كما أن الخضوع للعرف يعتبر أكثر سهولة من الخضوع إلى غيره من المصادر1.
لأن العرف لا يفرض على الناس فرضاً من قبل هيئات خارجة عنهم وإنما هم الذين يخلقونه بأنفسهم ويتبعونه بمحض إرادتهم (فالتشريع وإن يكن يعتبر صادر عن الأمة فهو من الوجهة العملية يبدو للأفراد وكأنه مفروض عليهم من قبل الهيئات التي تصدره خلافاً للعرف الذي يعتبر صادر عن الأفراد أنفسهم).
وأن للعرف مساوئ عديدة تعاكس ما يتمتع به التشريع من مزايا وأهمها2:
1 ـ بطؤه في الانتشار وصعوبة تغييره فالعرف يتطلب فترة من الزمن ريثما يستقر ويثبت.
ومتى ثبت يصعب انتزاعه واستبدال غيره به مما يعيق تطور المجتمع.
2 ـ صعوبة معرفته وإثباته وتحديد تاريخه فالعرف لا يوجد نصوص مكتوبة يمكن الرجوع إليها للتأكد من قواعده ومعرفة تاريخ بدء العمل بها أو زواله. كما يصعب بصورة خاصة تحديد تاريخ صحيح لموعد بدء العمل بهذه القواعد أو انتهاؤه.
3 ـ اختلاف أعراف الدولة الواحدة فالعرف لا يصدر عن هيئة واحدة تضع قواعده وإنما ينشأ عن تعامل الناس وهذا التعامل يختلف باختلاف الفئات التي يصدر عنها أو المناطق التي يطبق فيها مما يؤدي إلى اختلاف القواعد القانونية وتعددها في الدولة.
وبالرغم من هذه المساوئ التي تضعف من قيمة العرف وتدعو لتقديم التشريع عليه فلا تزال للعرف أهمية كبرى بين مصادر القانون لأن التشريع لا يستطيع أن يحوي جميع القواعد القانونية اللازمة ومن المصلحة أيضاً ترك بعض الأمور للعرف لينظمها ويوجد القواعد الملائمة لها.
تعريف العرف وعناصره:
العرف: هو عادة يشعر الناس بأنها ملزمة لهم من الوجهة القانونية.
يبدو للعرف من التعريف عنصرين: مادي ومعنوي.
أما العنصر المادي فهو وجود عادة أو تعامل بين الناس على وجه مخصوص.
أما العنصر المعنوي فهو شعور الناس بأن هذه العادة أو هذا التعامل ملزم لهم من الوجهة القانونية.
أولاً:العنصر المادي
لكي ينشأ العنصر المادي في العرف يجب أن تتوافر في العادة الشروط التالية:
1 ـ يجب أن تكون هذه العادة عامة أي تطبقها فئة كبيرة من الناس وليس ضرورياً أن تكون شاملة لجميع المواطنين وإنما يكفي أن تطبقها فئة منهم.
2 ـ يجب أن تكون العادة قديمة مستقرة ليمكن التأكد من أن الناس قد درجوا عليها وأنها قد استقرت بينهم وليست أمراً عارضاً.
3 ـ يجب أن تكون العادة ثابتة مستقرة بحيث تتبع بصورة مستقرة لا متقطعة ويتأكد تعامل الناس بها وخضوعهم لها.
ونضيف الشرط التالي:
4 ـ أن تكون العادة غير مخالفة للنظام العام والآداب العامة.
وهذه الشروط عبارة عن أمور موضوعية يقدرها القاضي ليرى أن الأمر يستحق أن يعتبر عادة أم لا, وتقدير القاضي في هذا المجال مطلق ولا مجال للرقابة عليه إذ ليس هناك حدود معينة (للقدم والاستقرار مثلاً) عليه أن يتقيد بها.
ثانياً:العنصر المعنوي
لا بد لكي تعتبر العادة عرفاً بالمعنى الصحيح من أن يتوافر فيها عنصر معنوي وهو شعور الناس بأنها ملزمة لهم من الوجهة القانونية, وبهذا تختلف العادة عن العرف فالعرف هو عبارة عن عادة يشعر الناس بأنها ملزمة لهم من الوجهة القانونية.
أما إذا خلت العادة من العنصر المعنوي فإنها تكون مجرد عادة لا عرفاً.
ومن أمثلة العادات التي لم تبلغ مرحلة العرف.
عادة تقديم الهدايا في الأفراح.
والعادة كثيراً ما تنقلب إلى العرف عندما يتوافر لها العنصر المعنوي. كعادة دفع الإكرامية في المطاعم أو الفنادق العامة, فهي تعتبر في كثير من البلاد بمثابة عرف لشعور الناس بأنهم ملزمين بذلك.
إن التمييز بين العادة والعرف أمر دقيق يصعب تحديده.
ـ ومن العسير جداً معرفة مرحلة انقلاب العادة إلى قاعدة عرفية ولكن فكرة التمييز بين العادة والعرف تبنى على فكرة أن العرف يعتبر أحد مصادر القواعد القانونية بينما لا تعتبر العادة كذلك.
أثر العرف بالنسبة لمختلف فروع القانون:
فبالنسبة لبعض فروع القانون كالقانون الجزائي مثلاً لا مجال لتطبيق العرف أبداً, بل التشريع هو وحده واجب التطبيق إذ لا جريمة ولا عقوبة بدون نص تشريعي1.
وبالنسبة للقانون الدولي العام فهنالك مجال كبير لتطبيق العرف, إذ أن الأعراف الدولية تعتبر من أهم مصادر القانون الدولي العام.
أما بالنسبة للقانون الخاص, فإن أثر العرف قوي أيضاً, وتبدو أهميته خاصة في القانون التجاري أكثر منها في القانون المدني لأن القانون التجاري يتطلب شيئاً من المرونة وهو يترك ما ينشأ من أموره إلى ما ينشأ بين التجار من أعراف.
مستند القوة الإلزامية للعرف:
ما الذي يعطي العرف قوته الإلزامية ويدعو إلى اعتباره مصدراً من مصادر القانون ؟
لقد اختلفت الآراء حول هذا الموضوع ونجمل أهمها فيما يلي:
الرأي الأول:
العرف يستمد قوته الإلزامية من نفسه باعتباره صادراً عن الأمة مباشرة لأن الأمة هي صاحبة الحق الأصلي في التشريع.
ونشوء العرف واستقراره هو دليل على رضا الأفراد بهذا العرف وهذا الرضا هو أساس قوته الإلزامية.
الرأي الثاني:
إن العرف يستمد قوته من إرادة المشرع الصريحة أو الضمنية, لأن المشرع هو صاحب الحق الوحيد بالتشريع نيابة عن الأمة وقد حصر هذا الحق به فلا يجوز للأمة أن تمارسه بنفسها إلا برضاه.
ووجه الاختلاف بين الرأيين هو أن الأمة بحسب الرأي الأول تنشئ ما تشاء من القواعد القانونية عن طريق الأعراف لأنها صاحبة الحق الأصلي في التشريع.
أما أصحاب الرأي الثاني فيعتبرون أن الأمة قد تخلت عن هذا الحق للهيئات المختصة التي تمارسه باسمها ولا يجوز لها أن تعود لممارسته بنفسها, بل ينحصر حق إقرار القواعد القانونية اللازمة بالمشرع نفسه ولا تعتبر القواعد العرفية بمثابة قواعد قانونية إلا إذا أقرها المشرع.
دور القضاء بالنسبة للعرف:
القواعد العرفية عبارة عن قواعد تنشأ عن العادات والتعامل وهذه القواعد تظل مبهمة وغير محددة تماماً إلى أن تتبناها المحاكم وتأخذ بها وتطبقها.
وحسب بعض الفقهاء فإن تطبيق القضاء للأعراف هو الذي يسبغ عليها صفتها الإلزامية ويعتبر مستنداً لها. فالقواعد العرفية بحسب هذا الرأي لا تعتبر قواعد قانونية بالمعنى الصحيح إلا بعد تطبيق المحاكم لها وتبنيها إياها لأنها منذ ذلك الحين فقط تعتبر قواعد ملزمة. والرأي الأكثر صواباً هو أن القواعد العرفية تعتبر قواعد قانونية ملزمة قبل أن تطبقها المحاكم.
صلة العرف بالتشريع:
وتقوم هذه الصلة على حالتين1:
أ- توافق العرف مع التشريع:
يبدو هذا التوافق بين العرف والتشريع في حالتين وهما:
الحالة التي يستمد فيها التشريع قواعده من العرف والحالة التي يكمل العرف فيها أحكام التشريع.
الحالة الأولى:
إن الكثير من القواعد التشريعية مستمدة في الواقع من العرف, فالمشرع حين يعمد إلى سن تشريعاته يحرص في أغلب الأحيان على أن يتبنى الأعراف السائدة التي أثبت التطبيق صلاحها فتنقلب القواعد التي تتضمنها هذه الأعراف من عرفية إلى تشريعية ويستمر الناس على إتباعها لأنهم ألفوها من جهة ولأن التشريع قد تبناها من جهة ثانية ويكون التوافق بذلك تاماً بين العرف والتشريع.
الحالة الثانية:
إن التشريع لا يستطيع أن يتضمن جميع الأحكام التي يحتاج إليها الناس في أمورهم ومعاملاتهم, بل إن الكثير من المسائل التفصيلية قد يترك أمر تنظيمها للعرف الذي يكمل التشريع في هذه الحالة ويسد النقص فيه.
والتشريع نفسه يعترف للعرف بهذه السلطة ويعتبر أن القواعد العرفية تقوم مقام القواعد التشريعية حين فقدانها.
والتشريع حين يحيل إلى العرف كأنما هو يتبنى قواعده ويقرها وبذلك نجد أن التوافق تام بينهما في هذه الحالة لأن تطبيق العرف هنا ما هو في الواقع إلا عبارة عن تطبيق للتشريع نفسه الذي يحيل عليه.
ب-تعارض العرف مع التشريع:
قد ينشأ عرف مخالف لقاعدة من القواعد التي نص عليها التشريع فما الذي يجب الأخذ به في هذه الحالة: القاعدة التشريعية أم العرف ؟
في الحالة التي يقضي فيها التشريع نفسه بترجيح العرف المخالف لحكم القاعدة التي يتبناها على هذا الحكم.
فلا شك أن العرف هو الذي يتبع استناداً إلى نص التشريع نفسه.
مثال:
ورد في المادة (432) من القانون المدني: " نفقات تسلم المبيع على المشتري ما لم يوجد عرف أو اتفاق يقضي بغير ذلك ".
فالقاعدة تقضي بتحمل المشتري نفقات تسلم المبيع ولكن لو وجد عرف سائد يقضي بتحمل البائع والمشتري نفقات تسلم المبيع فيتبع حكم العرف وبهمل حكم القاعدة الأصلية.
أما لو كان العرف يخالف قاعدة تشريعية دون أن ينص التشريع نفسه على ترجيحه, فهنا يجدر التفريق بين حالتين:
الحالة الأولى:
أن تكون القاعدة التشريعية التي يخالفها العرف من القواعد الآمرة التي تتعلق بالنظام العام. وفي هذه الحالة يكون الإجماع منعقداً بين الفقهاء على ضرورة تطبيق القاعدة وإهمال العرف لأن القواعد التي تتعلق بالنظام العام تؤثر على المجتمع تأثيراً مباشراً ولا يجوز الحد منها عن طريق الأعراف أو غيرها.
الحالة الثانية:
$أن تكون القاعدة التشريعية التي يخالفها العرف من القواعد التكميلية أو المفسرة وجب عندئذ القاعدة الأخذ، من حيث المبدأ، بالعرف وإهمال القاعدة التشريعية, وفي هذه الحالة يجب التفريق فيما إذا كانت مخالفة العرف للقاعدة التشريعية واقعة في الأمور التجارية أو الأمور المدنية.
ففي الأمور التجارية: إذا خالف العرف القاعدة التشريعية التكميلية أو المفسرة استناداً إلى نص المادة الرابعة من قانون التجارة السوري التي تنص: " على القاضي عند تحديد آثار العمل التجاري أن يطبق العرف المتوطد إلا إذا ظهر أن المتعاقدين قصدوا مخالفة أحكام العرف أو كان العرف متعارضاً مع النصوص التشريعية الإلزامية ".
ونستنتج بمفهوم المخالفة من ذلك إذا لم يكن العرف متعارضاً مع النصوص التشريعية الإلزامية, وإنما كان متعارضاً مع النصوص التشريعية التكميلية أو المفسرة, فإن من الواجب تطبيقه.
أما في الأمور المدنية: هناك رأيان
الرأي الأول:
وفيه يرجح العرف المخالف للقاعدة التشريعية التكميلية أو المفسرة على هذه القاعدة. وذلك لأن القاعدة المفسرة إنما تطبق لأنه يفترض أن المتعاقدين قد أراداها ولكن ما دام قد وجد العرف المخالف فمن الأصح أن نعتبر أن إرادتهما قد انصرفت إليه وعندئذ يطبق العرف لأنه أصدق تعبيراً عن إرادة المتعاقدين.
الرأي الثاني:
وفيه ترجح القاعدة التشريعية التكميلية أو المفسرة على العرف الذي يخالفها وحجة أصحاب هذا الرأي أن نص التشريع مقدم على العرف, لأن العرف لا يجوز تطبيقه إلا في حالة عدم وجود نص تشريعي.
أما إذا وجد نص تشريعي وعرف مخالف فإن النص التشريعي هو الذي يطبق أولاً.
ويضيف أصحاب هذا الرأي حجة أخرى وهي أنه إذا جاز لنا أن نهمل القاعدة التشريعية ونطبق العرف المخالف لها فإن هذا يعتبر إلغاء للقاعدة التشريعية بالعرف المخالف وهو يناقض نص المادة الثانية من القانون المدني: " لا يجوز إلغاء نص تشريعي إلا بتشريع لاحق ".
مثال:
نصت المادة (535) من القانون المدني أن على المؤجر: " أن يجري الأعمال اللازمة للأسطح من تجصيص أو بياض وأن يقوم بنزح الآبار والمراحيض ومصارف المياه ".
وهذه القاعدة ليست من النظام العام بل هي تكميلية أو مفسرة.
ولنفرض وجود عرف يقضي بأن تقع نفقات تجصيص وبياض الأسطح على عاتق المستأجر لا المؤجر.
بحسب الرأي الأول: يطبق العرف إذ يفترض أن المتعاقدين قد أرادا تبنيه عندما تعاقدا.
وبحسب الرأي الثاني: يجب تطبيق القاعدة التشريعية لا العرف إذ لا مجال لتطبيق العرف مع وجود نص تشريعي حول الموضوع, لأن ذلك يعتبر نوع من إلغاء التشريع بالعرف المخالف.
الفرع الثالث
مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة
مفهوم القانون الطبيعي وقواعد العدالة:
رأينا أن مدرسة القانون الطبيعي تقول بوجود مبادئ وقواعد قانونية مثالية ثابتة تفرضها طبيعة الأشياء ويكتشفها المنطق والعقل السليم وهي التي يجب أن تبنى عليها القواعد القانونية الوضعية وأن تستمد منها أحكامها.
وهذه القواعد سواء أكانت ثابتة كما تراها نظرية القانون الطبيعي الأصلية أم متغيرة كما تراها نظرية القانون الطبيعي ذي المضمون المتغير, هي تلك التي أراد المشرع أن يحيل القاضي إليها حين نص في المادة الأولى من القانون المدني على اعتبارها كمصدر أخير من مصادر القانون يلجأ إليه القاضي للحكم بموجبه عند عدم كفاية المصادر الأخرى1.
ويرى بعض الفقهاء أن هنالك نوعين من القانون الطبيعي:
القانون الطبيعي المبدئي: ويشمل مجموعة قليلة من المبادئ الأساسية العامة.
والقانون الطبيعي الثانوي: ويشمل القواعد التفصيلية التي يفرعها العقل على تلك المبادئ لتحقيق العدالة وهذه المبادئ التي تشكل القانون الطبيعي الثانوي يسميها القانون المدني قواعد العدالة.
أثر مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة بالنسبة للمشرع وبالنسبة للقاضي:
إن أثر مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة لا يتناول فقط المشرع حين وضعه للقواعد التشريعية, بل يشمل أيضاً القاضي الذي يستطيع أن يستند عليها مباشرة وأن يقضي بموجبها عند فقدان المصادر الأخرى.
فمبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة يمكن أن يستفاد منها في مجالين: مجال التشريع ومجال القضاء.
أما في مجال التشريع: فمهمتها أن ترشد المشرع إلى القواعد العادلة التي يتوجب عليه أن يتبناها في تشريعاته.
وأما في مجال القضاء: فمهمتها أن تلهم القاضي الحلول الملائمة التي يتوجب عليه أن يطبقها في أحكامه عند عدم وجود حلول أخرى يعتمد عليها.
ولا شك في أن السماح للقاضي بأن يستند في أحكامه إلى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة وأن يقضي بموجبها من شأنه أن يخوله سلطة كبيرة في الاجتهاد
والحكم.
ولكن القاضي لا يستطيع أن يلجأ لهذه المبادئ إلا حين استنفاذه البحث في المصادر الأخرى.
تطبيق القضاء في بلادنا لمبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة:
لقد أصبحت هذه القواعد تعتبر بمثابة قواعد تشريعية بعد أن كانت عبارة عن مجرد تطبيقات قضائية لمبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة.
وهذا يدلنا على أن تطبيق القضاء لهذه المبادئ والقواعد قد يؤثر أحياناً على المشرع نفسه إذ يؤدي به إلى تبنيها والأخذ بها في تشريعاته.
الفرع الرابع
الاجتهاد القضائي والفقه
إلى جانب المصادر التي ذكرناها سابقاً يوجد هنالك مصدران آخران يعتبران حالياً بالنسبة $لأغلب النظم القانونية بمثابة مصدرين تفسيريين وهما: الاجتهاد القضائي والفقه.
أولاً:الاجتهاد القضائي
الاجتهاد بصورة عامة هو إعمال الرأي أو بذل الجهد العقلي للتعرف على الحكم, فإذا كان هذا الاجتهاد يمارس من قبل الفقهاء فهو اجتهاد فقهي, أما إذا كان يمارس من قبل القضاة فهو اجتهاد قضائي.
وكان للاجتهاد القضائي في بعض الشرائع القديمة وبصورة خاصة في الشريعة الرومانية, الأثر الكبير في إيجاد الكثير من القواعد القانونية, كما أن الاجتهاد القضائي لا يزال يتمتع حتى الآن بأهمية بالغة في الشريعة الإنكليزية كمصدر رسمي للقواعد القانونية, حيث تعتبر الأحكام القضائية فيها بمثابة قواعد واجبة التطبيق في القضايا المماثلة.
إلا أن أغلب النظم في العصر الحاضر ومن بينها نظامنا القانوني لا يعتبر الاجتهاد القضائي من المصادر الرسمية للقانون, وإنما هي عبارة عن تطبيق عملي للقواعد القانونية الموجودة وليس لها أية صفة إلزامية إلا بالنسبة للقضايا التي تفصل فيها1.
سبب اعتبار الاجتهاد القضائي من المصادر التفسيرية:
إن اعتبار الاجتهاد القضائي من المصادر التفسيرية هو من نتائج مبدأ الفصل بين السلطات الذي اعتبره رجال الثورة الفرنسية وبصورة خاصة الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية من المبادئ الرئيسية التي يقوم عليها نظامهم الجديد.
ولا شك في أن عدم السماح للقضاة بإصدار قواعد قانونية عامة من شأنه أن يؤدي إلى شيء من الطمأنينة والاستقرار في الحياة القانونية, إذ يكون الناس على ثقة بنتائج أعمالهم ومعرفة بالقواعد التي تطبق عليهم دون أن يكون هنالك مجال لمجابهتهم بقواعد لا يعلمونها يترك أمر تقديرها إلى القضاء.
أهمية الاجتهاد القضائي من الوجهة العملية:
ليس من الممكن بحال من الأحوال أن يقتصر القاضي في عمله على تطبيق القواعد القانونية تطبيقاً آلياً بل لا بد له من أن يلعب دوراً إيجابياً هاماً في إنماء القانون وتطويره.
فالاجتهاد القضائي هو الذي يفسر التشريع ويحدد معناه وهو يؤدي من خلال تفسيره لنصوص التشريع إلى التوسع في تطبيقه بل وإلى تعديل معناه الأصلي أحياناً بحيث يصبح أكثر ملائمة لظروف البيئة وتطور المجتمع.
ويتمتع هذا الاجتهاد القضائي من الوجهة العملية بقوة إلزامية لا تكاد تقل شأناً وأثراً عن تلك القوة التي تتمتع بها المصادر الرسمية للقانون, على الرغم من أنه لا يعتبر ملزماً من الوجهة النظرية إلا بالنسبة للقضايا التي يفصل فيها.
ويعود السبب في هذه القوة الإلزامية من الوجهة العملية إلى عاملين رئيسيين:
أولهما: حرص المحاكم على أن تلتزم في القضايا المماثلة نفس الاجتهاد, وأن تتجنب تعديل هذا الاجتهاد بصورة مستمرة لئلا توصم بالتردد وعدم الاستقرار بل وبالتحيز في بعض الأحيان.
ثانيهما: وجود تسلسل بين أنواع المحاكم ووجود محكمة النقض بصورة خاصة التي تتولى توحيد الاجتهاد في البلد الواحد مما يدفع سائر المحاكم على مختلف أنواعها إلى أن تتقيد بما يصدر عن محكمة النقض هذه من اجتهادات وأن تتوافق معها في أحكامها لئلا تكون هذه الأحكام عرضة للنقض والرد.
ثانياً:الفقـــــــه
يختلف الفقه عن الاجتهاد القضائي في أنه لا يصدر عن هيئات رسمية هي المحاكم, بل هو لا يعدو أن يكون مجرد آراء شخصية تصدر عن رجال القانون.
وإن للفقه أثر كبير لأن المشرع والقاضي كليهما يسترشدان في أغلب الأحيان بآراء الفقهاء ورجال القانون ويحاولان تبنيها سواء فيما يضعه الأول من قواعد تشريعية أو ما يصدره الثاني من أحكام واجتهادات1.
القسم الثاني
الحق
إن دراسة الحق تتناول بصورة رئيسية ركنيه الأساسيين وهما: الأطراف من جهة، والمحل من جهة ثانية.
على أنه لا بد لنا، قبل دراسة هذين الركنين الأساسيين بصورة مفصلة من أن نستهل هذه الدراسة ببحث تمهيدي يتناول الحق نفسه من حيث تعريفه و نسبيته وأقسامه وأركانه.
$لذا، فإن دراستنا للحق ستكون على النحو التالي
تمهيد: تعريف الحق و نسبيته، وأقسامه، وأركانه
الباب الأول: أطراف الحق، أو الأشخاص.
الباب الثاني: محل الحق، أو الأشياء.
تمهيد
تعريف الحق و نسبيته، وأقسامه، وأركانه
أولاً: تعريف الحق
لقد وجد القانون ليكون سبيلاً لتحقيق التوازن الاجتماعي بتحديده الظروف والشروط التي تكون فيها مصلحة الفرد أولى بالرعاية من مصالح غيره من الأفراد الآخرين ولمنحه بالتالي السلطة أو القدرة التي تمكنه من تحقيق مصلحته المشروعة وتحول دون تعدي الآخرين عليها.
والحق: هو هذه السلطة أو القدرة التي يمنحها القانون لشخص من الأشخاص تحقيقاً لمصلحة $مشروعة يعترف له بها ويحميها1. فالمستأجر هو صاحب حق في الانتفاع بالمأجور.
$وقد عرف بعض الفقهاء من أنصار المذهب الفردي - بأنه:
" سلطة أو قدرة إرادية يتسلط بها الشخص على أعمال الغير بموافقة السلطات العامة ومساعدتها ".
وعرفه بعض الفقهاء الآخرين بأنه:
" مصلحة يحميها القانون ".
ولكن التعريف الأول انتقد من عدة وجوه حيث:
لا يمكن أن يمنح الحق بموجبه إلا للشخص الذي تتوافر فيه الإرادة في حين أن الأشخاص جميعاً حتى الذين تنعدم لديهم الإرادة والتفكير كالصغير غير المميز والمجنون.
يمكن أن يكتسبوا الحقوق ويتمتعوا بما تتضمنه من سلطات وإن كان عديمو الإرادة بحيث لا يمارسون هذه السلطات بأنفسهم وإنما يتولى غيرهم ممن تتوافر لهم الإرادة ممارستها باسمهم ولحسابهم.
وبينما التعريف الثاني قد انتقد أيضاً من حيث أنه لا يبين مفهوم الحق وكنهه وإنما يقتصر على بيان غايته فقط لأن المصلحة ليست هي الحق نفسه وإنما هي الغاية التي يهدف إلى تحقيقها صاحب الحق, أما حقه نفسه فيتمثل في السلطة الممنوحة له لتمكينه من تحقيق هذه المصلحة المشروعة التي أقرتها له القواعد القانونية.
ثانياً: نسبية الحق أو نظرية التعسف في استعمال الحق
عدم مسؤولية الشخص مبدئياً عن استعماله لحقه:
رأينا أن الحق عبارة عن سلطة يمنحها القانون للشخص تحقيقاً لمصلحة مشروعة يعترف له بها ويحميها, وهذه السلطة تنظمها قواعد القانون وتحدد مضمونها ومداها.
وصاحب الحق يستطيع أن يستعمل هذه السلطة الممنوحة إليه بالشكل الذي يروق له, دون أن يكون مسؤولاً عما ينجم عنها من ضرر للآخرين طالما أنه لا يتعدى حدودها المرسومة ولا يتجاوز نطاقها المشروع.
ومما لا شك فيه أن استعمال الحق, إذا كان يحقق مصلحة صاحبه, فهو قد يتعارض في أغلب الأحيان مع مصالح الأشخاص الآخرين ويؤدي إلى إلحاق الضرر بهم.
وليس من المعقول أن يسأل صاحب الحق عن هذا الضرر الذي يلحق بغيره جراء استعماله لحقه.
مثال: فصاحب الأرض الذي يستعمل حقه في البناء عليها قد يؤدي إلى الإضرار بأصحاب الأبنية المجاورة بهذا البناء الذي يحدثه على أرضه.
وعلى هذا يقال في عالم القانون أن: " الجواز الشرعي ينافي الضمان ". ومعنى ذلك أن الذي يقوم بما هو جائز له من الوجهة الشرعية أو القانونية لا يكون ضامناً للأضرار التي تنجم للآخرين عن هذا العمل الذي يقوم به إذ لا يعقل أن يمنح الشخص السلطة أو الحق وأن يباح له استعماله ثم يحاسب في نفس الوقت على هذا الاستعمال.
وجوب عدم التعسف في استعمال الحق:
بالإضافة إلى الحدود والقيود التي يرسمها القانون بالنسبة لكل حق من الحقوق, فإن هنالك قيداً عاماً تخضع له هذه الحقوق جميعها ويتوجب على أصحابها مراعاته واحترامه.
فلا يكفي إذن أن يستعمل الشخص حقه ضمن حدوده المرسومة لتنتفي عنه المسؤولية, وإنما يجب أن يكون هذا الاستعمال نفسه مشروعاً, أما لو تعسف الشخص في استعمال حقه ولو كان ذلك دون تجاوز منه أو خروج عن حدود هذا الحق, فإن تعسفه هذا يكون سبباً لمسؤوليته عن الأضرار التي تنجم عنه للغير لأن مجرد التعسف يعتبر نوع من الخطأ وخروجاً عن القيد العام الذي تخضع له الحقوق جميعاً وهو قيد الاستعمال المشروع1.
مثال:
إن مالك الأرض يستطيع بمقتضى حقه في الملكية أن يقيم ما يشاء من الأبنية على الأرض التي يملكها دون أن ينازعه أحد في ذلك ودون أن يكون مسؤولاً عما يصيب الغير من ضرر ولكن لو حاول هذا المالك استغلال حقه لا لتحقيق المصلحة التي منحت من أجله وإنما بقصد إلحاق الضرر بالغير فأقام على أرضه جداراً لا ينفعه وإنما يحجب النور والهواء عن جاره فهو بذلك يكون قد تعسف باستعمال حقه.
تطور نظرية التعسف ومناقشتها:
$نظرية التعسف في استعمال الحق حديثة العهد نسبياً فهي لم تبرز بشكل نظرية كاملة واضحة ولم تأخذ بها التشريعات ويطبقها القضاء كمبدأ عام2 إلا منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وإن كان لهذه النظرية بعض الآراء المتفرقة والمعطيات القضائية في القانون الروماني والشريعة الإسلامية التي تعتمد على هذا المفهوم دون أن تنشأ من ذلك نظرية كاملة واضحة يتفق عليها ويأخذ بها في جميع الأحوال.
وحول هذه النظرية قد تنازع الفقه والقضاء وظهر بصورة عامة اتجاهان متعاكسان.
الاتجاه الأول:
وهو يرفض الأخذ بفكرة التعسف في استعمال الحق, ويرى عدم مؤاخذة الشخص الذي يستعمل حقه عن الأضرار التي يسببها للغير بأي حال من الأحوال حتى ولو كان استعماله لهذا الحق يتضمن معنى الإساءة والتعسف لأن صاحب الحق الذي يمارس السلطة التي يخوله إياها حقه لا يمكن أن يعتبر كمن يتصرف دون حق أو كمن يرتكب عمل غير مشروع.
وتعتبر النظم القانونية التي تغلب عليها النزعة الفردية هي الأميل للأخذ بهذا الاتجاه.
الاتجاه الثاني:
وهو الاتجاه الذي تغلب عليه النزعة الاجتماعية فلا يرى أن ينظر إلى الحقوق هذه النظرة $التقديسية التي تنظرها - المذاهب الفردية: وإنما هو يؤمن بضرورة تقييدها ومراقبة استعمالها لأن هذه الحقوق لم تمنح لأصحابها إلا لتمكينهم من تحقيق مصالحهم المشروعة. لا لتتخذ معولاً للهدم والإساءة وسبيلاً إلى الإضرار والإيذاء.
ولا يكفي بحسب هذا الاتجاه أن يكون الشخص قد استعمل حقه لينجو من المسؤولية وإنما يجب أن يكون استعماله لهذا الحق مشروعاً وأن يخلو من الإساءة والتعسف لأن من يسيء أو يتعسف في استعمال حقه هو كمن يعمل دون حق, مخطئ ومسؤول.
موقف قانوننا المدني من نظرية التعسف:
أخذ القانون المدني السوري بنظرية التعسف في استعمال الحق ونظم أحكامها في الباب التمهيدي له1.
وقد أفرد في القانون المدني السوري المادتان 5 و6 لتنظيم أحكام التعسف في استعمال الحق.
فورد في نص المادة الخامسة ما يلي:
" من استعمل حقه استعمالاً مشروعاً لا يكون مسؤولاً عما ينشأ عن ذلك من ضرر ".
بينما عددت المادة السادسة من القانون المدني الحالات التي يكون استعمال الحق فيها غير مشروع أو مشوباً بالتعسف فنصت على ما يلي:
" يكون استعمال الحق غير مشروع في الأحوال التالية:
أ. إذا لم يقصد به سوى الإضرار بالغير.
ب. إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها قليلة الأهمية, بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها.
ج. إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها غير مشروعة".
حالات التعسف التي نص عليها القانون المدني:
لقد نص القانون المدني على ثلاث حالات يعتبر فيها صاحب الحق متعسفاً باستعمال حقه2:
3. قصد الإضرار بالغير:
وهذه الحالة هي أبرز حالات التعسف في استعمال الحق وفيها يستعمل الشخص حقه لا لتحقيق مصلحته ولكن ليلحق الضرر بالغير ويسيء إليه.
مثال (1):
الشخص الذي يقيم جداراً عالياً في أرضه لا يعود عليه بأية فائدة ولكن لمجرد حجب النور والهواء عن جاره إذ يكون هذا الشخص مسؤولاً عن الأضرار التي تصيب جاره بسبب تعسفه في استعمال حقه والذي يستنتج من وجود قصد الإضرار لديه مع عدم وجود مصلحة له في هذا الاستعمال.
ويعتبر التعسف حاصلاً إذا كان قصد الإضرار هو العامل الرئيسي أو الأصلي الذي دفع صاحب الحق إلى استعمال حقه وكان عامل المنفعة ثانوياً بالنسبة إليه.
مثال (2):
كمن يقيم في أرضه برجاً للحمام إلى جانب حظيرة للمواشي تعود إلى جاره بقصد الإضرار بهذا الجار والناتج عن تساقط ريش الحمام في علف مواشيه حيث يعتبر صاحب البرج متعسفاً في استعمال حقه ما دام قصد الإضرار هو العامل الرئيسي الذي دفعه إلى إقامة البرج بقرب الحظيرة, وبالرغم من المنفعة الثانوية التي تحققها له إقامة هذا البرج وتربية الحمام فيه.
3. التفاوت الكبير بين المصلحة والضرر:
وفي هذه الحالة إذا كان استعمال الحق يؤدي إلى تحقيق مصلحة قليلة الأهمية لصاحبه ويسبب في نفس الوقت ضرراً للغير لا يتناسب البتة مع هذه المصلحة الناجمة عنه.
فإن هذا الحق يكون مشوباً بالتعسف ويستوجب مسؤولية صاحب الحق ولو لم يثبت لديه قصد الإضرار أو الإيذاء.
فالتعسف هنا يستخلص من مجرد التفاوت الكبير بين المصلحة والضرر ودون النظر إلى النية والقصد.
ويعتبر هذا التفاوت الكبير بين المصلحة والضرر قرينة أو دليل على وجود قصد الإضرار لدى صاحب الحق.
لأن من يستعمل حقه ويسبب للغير ضرراً بالغاً مع ضآلة المصلحة التي تعود عليه إما أن يكون عابثاً مستهتراً أو يكون متعمداً إحداث الضرر الذي أصاب الغير بسبب استعماله حقه.
ويعود ذلك إلى القاضي الذي يتوجب عليه أن يوازن بين المصلحة والضرر في كل حالة من الحالات.
3. تحقيق مصلحة غير مشروعة:
وفي هذه الحالة يعتبر التعسف قائماً لا بقصد الإضرار بالغير لدى صاحب الحق أو بسبب التفاوت الكبير بين المصلحة التي يجنيها من استعمال حقه والضرر الذي يصيب الغير من جراء ذلك ولكن بسبب استعماله لحقه ابتغاء تحقيق مصلحة غير مشروعة.
ويستنتج من المذكرة الإيضاحية للقانون المدني أن المصلحة تعتبر غير مشروعة " إذا كانت تخالف حكماً من أحكام القانون أو تتعارض مع النظام العام والآداب ".
مثال ذلك:
صاحب الأرض المجاورة لإحدى المطارات الذي يقيم الأعمدة العالية على أرضه أو يحيطها بالأسلاك الشائكة لعرقلة هبوط الطائرات وإرغام أصحاب المطار بالتالي على شراء أرضه بأسعار مرتفعة, وهذه المصلحة تعتبر من المصالح غير المشروعة التي تدل على وجود التعسف.
ثالثاً: أقسام الحق
تعداد أقسام الحق1:
1 ـ الحقوق العامة والحقوق الخاصة:
فالحقوق العامة هي السلطات التي تقررها قواعد القانون العام للدولة أو الأفراد.
والحقوق الخاصة: هي السلطات التي تقررها لهم قواعد القانون الخاص.
ويدخل في زمرة الحقوق العامة نوعان هامان من الحقوق يطلق عليهما اسم الحقوق السياسية وحقوق الشخصية.
أما الحقوق السياسية فهي الحقوق التي تمنح للشخص باعتباره عضواً في الدولة لتمكنه من الإسهام في حكم بلاده وإدارته كحق الانتخاب والترشح مثلاً أو حق تولي الوظائف العامة.
وأما حقوق الشخصية فهي عبارة عن حقوق تتصل بالشخصية الإنسانية وتعتبر ضرورية لحماية الفرد في ذاته ومقومات وجوده وتمكينه من العيش بصورة حرة كريمة وذلك كحق الإنسان في الحياة والحرية1.
ويطلق على هذه الحقوق أيضاً اسم حقوق الإنسان باعتبار أن الطبيعة نفسها تفرض منحها للإنسان لمجرد كونه إنساناً.
2 ـ حقوق الأسرة والحقوق المالية:
كسلطة الأب على ابنه في تربيته أو كسلطة الزوج تجاه زوجته والزوجة تجاه زوجها فيما يتمتعان من حقوق عائلية2.
أما الحقوق المالية فهي سلطات تمنحها قواعد القانون الخاص لأصحابها تمكيناً لهم من تحقيق مصالح تعود إليهم يمكن تقويمها بالمال. كحق المالك والدائن والبائع.
وهذه الحقوق تدخل في ذمة الشخص المالية ويجوز التعامل فيها والحجز عليها بعكس الحقوق السياسية وحقوق الشخصية.
3 ـ الحقوق العينية والحقوق الشخصية (والحقوق الأدبية والمعنوية):
تقسم الحقوق المالية إلى قسمين رئيسيين هما الحقوق العينية والحقوق الشخصية:
1 ـ الحق العيني:
يعرف الحق العيني بأنه سلطة مباشرة لشخص على شيء معين بالذات يستطيع هذا الشخص ممارستها دون واسطة3.
ونلاحظ أن السلطة التي يتمتع بها صاحب الحق العيني هي سلطة مباشرة على الشيء الذي يتعلق به هذا الحق.
فصاحب حق الملكية له سلطة مباشرة على الشيء الذي يملكه وهو يستطيع أن يمارس هذه السلطة باستعمال الشيء أو استغلاله أو التصرف فيه دون وساطة أي شخص آخر.
وتقسم الحقوق العينية إلى قسمين: حقوق عينية أصلية وحقوق عينية تبعية:
أما الحقوق العينية الأصلية:
فهي التي يكون لها وجود مستقل بحيث لا ترتبط أو تتعلق بأي حق آخر وأهمها: حق الملكية وحق الانتفاع وحق الارتفاق.
وحق الملكية هو أهم أنواع الحقوق العينية لأن صاحبه يتمتع بسلطة استعمال الشيء واستغلاله والتصرف فيه بشتى أنواع التصرف وهذه المكنات الثلاث لا تجتمع سوى بحق الملكية وحده, أما حق الانتفاع فتقتصر سلطة صاحبه على الاستعمال والاستغلال دون التصرف, وحق الارتفاق ليس لصاحبه سوى سلطة محدودة في استعمال الشيء بحسب ما يقتضيه نوع حقه كحق المرور في أرض الغير.
وأما الحقوق العينية التبعية:
فهي التي لا يمكن أن توجد بصورة مستقلة وإنما تتبع حقاً آخراً ترتبط به وتكون ضامنة له.
ومن أهم أنواع الحقوق العينية التبعية حق الرهن وهو حق عيني لأن لصاحب حق الرهن سلطة مباشرة على المال المرهون وهو تبعي لأنه لا يمكن أن يوجد بصورة مستقلة إذ لا يمكن أن ينشأ حق الرهن إلا إذا كان هنالك دين يراد إيجاد ضمان للوفاء به.
2- الحق الشخصي:
يعرف الحق الشخصي بأنه سلطة مقررة لشخص تجاه آخر تخول الأول وهو صاحب الحق الشخصي أو الدائن أو الملتزم له أن يجبر الثاني وهو المكلف أو المدين على أن يقوم له بعمل أو يمتنع لأجله عن عمل1.
فللبائع مثلاً حق شخصي على المشتري فيما يتعلق بدفع الثمن وللمشتري حق شخصي على البائع فيما يتعلق بتسليم المبيع.
وللمتضرر من فعل غير مشروع حق شخصي على مرتكب الفعل بالتعويض عليه.
فإن على المشتري والبائع ومرتكب الفعل الغير مشروع التزاماً بالقيام بعمل وهو أداء الثمن بالنسبة للمشتري وتسليم المبيع بالنسبة للبائع ودفع التعويض بالنسبة لمرتكب الفعل غير المشروع.
المقارنة بين الحق العيني والحق الشخصي:
يمكننا التفريق بين الحق العيني والحق الشخصي من ثلاثة وجوه1:
أ- من حيث الأطراف:
يختلف الحق العيني عن الحق الشخصي من حيث أن الحق العيني لا يوجد فيه سوى طرف واحد موجب وهو صاحب الحق بينما لا بد من وجود طرفين بالنسبة للحق الشخصي أحدهما موجب وهو صاحب الحق أو الدائن والآخر سالب وهو المكلف أو المدين.
ولقد حاول بعض الفقهاء أن يزيلوا هذا الفارق بين الحق العيني والحق الشخصي معتبرين أن الحق العيني يوجد فيه كالحق الشخصي طرفان: موجب وسالب, وأما الطرف الموجب فهو صاحب الحق, وأما الطرف السالب فيتمثل في الناس كافة التي يقع عليهم واجب احترام الحق العيني والامتناع عن كل ما من شأنه عرقلة استعماله من قبل صاحبه, فالناس جميعاً بحسب أصحاب هذا الرأي يمكن اعتبارهم الطرف السالب بالحق العيني.
ويمكن الرد على هذا الرأي بأن التزام الناس بالامتناع عن عرقلة ممارسة الحق العيني لا يشابه التزام المدين أو المكلف في الحق الشخصي, فالتزام المدين أو المكلف بالحق الشخصي هو التزام بالامتناع عن عمل هو نفسه موضوع هذا الحق, أما التزام الناس بعدم عرقلة ممارسة الحق العيني فليس هو موضوع هذا الحق, وإنما هو من قبيل الواجب السلبي العام.
وإذا اعتبرنا أن أطراف الحق العيني هم صاحب الحق العيني من جهة والناس كافة من جهة ثانية, فإن أطراف الحق الشخصي هم صاحب الحق الشخصي من جهة, والناس كافة من جهة أخرى والملتزم أو المدين المكلف تجاه صاحب الحق الشخصي من جهة ثالثة.
ب- من حيث المضمون:
ويتبين اختلاف الحق العيني عن الحق الشخصي من حيث المضمون من التعريف الذي أوردناه لكل منهما فقد رأينا أن الحق العيني عبارة عن سلطة مباشرة لشخص على شيء معين بالذات, أما الحق الشخصي فعبارة عن سلطة مقدرة لشخص تجاه آخر موضوعها القيام بعمل أو الامتناع عن عمل.
وأن الحق الشخصي قد يزول ويحل محله حق عيني وذلك حين يكون الالتزام المقابل لهذا الحق الشخصي يتعلق بإعطاء شيء ويقوم المدين أو الملتزم بإعطاء ما التزم به وعندها تنتهي العلاقة بين الدائن والمدين وتحل محلها علاقة جديدة بين الدائن والشيء الذي تم إعطاؤه فيصبح الدائن مالكاً لهذا الشيء.
كما أنه من الممكن أن يزول الحق العيني ويحل محله حق شخصي كالمالك الذي أتلف له شخص آخر الشيء الذي يملكه, إذ تزول ملكية المالك عن الشيء بعد تلفه وزواله وينشأ له بدلاً عن ذلك حق شخصي تجاه المتلف بالتعويض عليه.
وقد يمكن أن ينشأ أحياناً حول شيء واحد حق عيني وحق شخصي معاً, فالشخص الذي غصب منه شيء يملكه له حق عيني على هذا الشيء لأنه يظل مالكاً له بعد اغتصابه منه, وله في نفس الوقت حق شخصي على الغاصب يخوله إجباره على القيام بعمل وهو إعادة الشيء المغصوب إليه.
ت- من حيث النتائج والآثار:
الحق العيني يخول صاحبه امتيازين هامين لا يخولهما الحق الشخصي وهما: حق التتبع وحق الأولوية أو الرجحان.
فحق التتبع:
من مقتضاه أن يستطيع صاحب الحق العيني تتبع الشيء الذي يقع عليه حقه واللحاق به لاسترداده من أي يد وقع فيها وذلك نتيجة لسلطته المباشرة عليه.
وحق الأولوية والرجحان:
معناه أن صاحب الحق العيني يستطيع أن يتقدم على غيره للحصول على حقه وهو يرجح على سائر الدائنين العاديين.
وتبدو هذه الأولوية بصورة خاصة في الحقوق العينية التبعية, فالدائن الذي استحصل على رهن من مدينه يكون له حق عيني تبعي على المال المرهون ولهذا يرجح على سائر الدائنين الآخرين في استيفاء دينه من هذا المال لأن له عليه سلطة مباشرة.
الحق الأدبي أو المعنوي:
يعرف الحق الأدبي أو المعنوي بأنه سلطة مخولة لشخص على نتاجه الفكري أو الأدبي أو الفني لتمكينه من الاحتفاظ بنسبة هذا النتاج إلى نفسه واحتكار المنفعة المالية التي تنتج عن استغلاله.
وهذا الحق في الواقع كحق الملكية إلا أنه لا يقع على شيء مادي بل على شيء معنوي, فالمؤلف مثلاً له حق الملكية الأدبية أو المعنوية بالنسبة للكتاب الذي يؤلفه.
وهذه الملكية لا تقع على عين الكتاب أو الآلة المخترعة وإنما هي تقع على الأفكار التي يتضمنها هذا الكتاب والابتكار الذي أدى لهذا الاختراع.
ومن خصائص هذا الحق أن له طابعاً مالياً ومعنوياً فهو من جهة يخول صاحبه استثمار نتاجه الفكري واستغلاله والتصرف فيه وجني الأرباح التي تنتج عنه, ومن جهة ثانية يخوله نسبة هذا النتاج إليه وعدم الاعتداء عليه أو انتحاله من قبل غيره حفظاً لسمعته أو شهرته الأدبية أو العلمية أو الفكرية.
رابعاً:أركان الحـــــــق: تعداد أركان الحق
يرى بعض الفقهاء أن للحق ركنين أساسيين وهما:الأطراف من جهة والمحل من جهة ثانية.
ويضيف البعض الآخر أركاناً ثلاثة أخرى وهي1:المضمون والسبب والمؤيد أو الجزاء.
الأطراف: أطراف الحق هم الأشخاص سواء أكانوا أشخاصاً اعتباريين أو طبيعيين لأن الأشخاص هم أصحاب الحقوق وأربابها وهم الذين تقع الواجبات على عاتقهم وأطراف الحقوق على نوعين:
أطراف إيجابيون وهم أصحاب هذه الحقوق, وأطراف سلبيون وهم الأشخاص الذين تقع عليهم الالتزامات المقابلة لهذه الحقوق.
المحل: وهو الشيء المادي أو المعنوي الذي يتعلق به هذا الحق سواء مباشرة كما في الحقوق العينية, أو بصورة غير مباشرة كما في الحقوق الشخصية.
المضمون: مضمون الحق هو السلطة التي يخولها هذا الحق لصاحبه وهذه السلطة تختلف من حق إلى آخر إلا أننا نستطيع أن نجملها في الحقوق العينية الأصلية بأنها سلطة استعمال الشيء واستغلاله والتصرف به.
السبب: سبب الحق أو مصدره هو الواقعة القانونية التي تولد عنها هذا الحق وأدت إلى نشوئه.
فسبب حق الوارث في تملك الإرث مثلاً هو وفاة المورث الذي تربطه به قرابة معينة يحددها القانون.
المؤيد أو الجزاء: هو الحماية التي يسبغها القانون على الحقوق لتمكين أصحابها من التمتع بها وممارستها ومنع الغير من الاعتداء عليها.
الباب الأول
الأشخاص
الأشخاص هم أطراف الحق، سواء أكانوا يمثلون الطرف الموجب فيه أم الطرف السالب. فكل من يصلح لأن يكون صاحب حق أو مكلفاً بالتزام يعتبر شخص من الوجهة القانونية.
والشخص على نوعين: طبيعي واعتباري
أما الشخص الطبيعي فهو الإنسان نفسه، وأما الشخص الاعتباري أو المعنوي فهو ينشأ عن تكتل مجموعة من الأشخاص أو رصد مجموعة من الأموال لغرض معين وضمن شروط معينة، فتكون لهذه المجموعة من الأشخاص أو الأموال شخصية مستقلة عن الأشخاص الذين يؤلفونها أو يديرونها وهي تدخل بهذه الصفة – بصفتها شخصية مستقلة –كطرف موجب أو سالب من أطراف الحق.
ودراستنا في هذا الباب تتناول هذين النوعين من الأشخاص معاً، وهي بالتالي تقسم إلى فصلين
الفصل الأول: الشخص الطبيعي
الفصل الثاني:الشخص الاعتباري أو المعنوي
الفصل الأول
الشخص الطبيعي
إذا كان الشخص الطبيعي هو الإنسان أو الكائن البشري، فإن دراسة الشخص الطبيعي إنما هي في الواقع دراسة لهذا الإنسان نفسه في حياته، وفي الخصائص التي تتصل بشخصيته وتحدد معالمها1.
و خصائص الشخصية تشمل الاسم الذي يعرف الإنسان به ويؤدي إلى تمييزه عن غيره، وحالة الشخص التي تبين مركزه في أسرته من حيث القرابة ومركزه في الدولة التي ينتسب إليها من حيث الجنسية، والأهلية التي تبين قابليته لاكتساب الحقوق والالتزام بالواجبات كما تحدد قدرته على ممارسة التصرفات القانونية بنفسه، والذمة المالية التي تمثل ثروته $ومقدرته المالية وتضم جميع حقوقه والتزاماته التي يمكن تقويمها بالمال، والموطن الذي $يرتبط به عادة ويتحدد بواسطته مكان وجوده من الوجهة القانونية.
وعلى هذا فإن دراسة الشخص الطبيعي تشمل الفروع التالية:
الفرع الأول: وجود الشخص الطبيعي
الفرع الثاني: الاسم
الفرع الثالث: حالة الشخص
الفرع الرابع: الأهلية.
الفرع الخامس: الذمة المالية
الفرع السادس: الموطن
الفرع الأول
وجود الشخص الطبيعي:
ارتباط الشخصية بالصفة الإنسانية:
الإنسان لمجرد كونه إنساناً, يعتبر شخصاً طبيعياً من الوجهة القانونية ويكون بذلك صالحاً لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات والشخصية الطبيعية لا تكون إلا للإنسان وحده.
وعلى هذا فالحيوان والجماد لا يتمتعان بالشخصية القانونية لا الطبيعية ولا الاعتبارية.
ولكن الإنسان لا يتمتع بالشخصية القانونية إلا خلال فترة حياته ووجوده ووجود الإنسان إنما يتحدد بواقعتين هامتين هما: الولادة من جهة, والوفاة من جهة ثانية.
بدء الشخصية1:
الولادة:
إن شخصية الإنسان تبدأ من الوجهة القانونية بالولادة أي من نفس اللحظة التي ينفصل فيها عن أمه ويصبح ذا وجود مستقل.
إلا أن مجرد الولادة لا يكفي, بل لا بد من أن يولد الإنسان حياً ولو كان سيموت بعض لحظات.
أما إذا ولد ميتاً فإنه لا يكتسب في هذه الحالة الشخصية القانونية.
ولكن متى يعتبر الإنسان قد ولد حياً؟
لقد ورد في قانوننا المدني وفي المادة 31 منه أن شخصية الإنسان تبدأ (بتمام ولادته حياً).
وتتأكد الحياة في المولود بالأعراض التي تدل عليها كالبكاء والشهيق ونحو ذلك وإذا لم تثبت هذه الأعراض فإنه من الممكن الرجوع إلى الخبرة الطبية في هذا الشأن.
بينما تشترط بعض القوانين كالقانون الفرنسي شرطين لاكتساب المولود الشخصية القانونية وهما:
1 ـ أن يولد حياً من جهة.
2 ـ وأن يكون قابلاً للحياة من جهة ثانية.
فإذا ولد حياً وكانت وفاته محتومة لنقص في أعضائه وتكوينه فلا يكتسب بذلك الشخصية القانونية.
حالة الجنين:
الجنين يعتبر جزءاً متصلاً بأمه ولا يتمتع بشخصية مستقلة ولهذا لا يكون أهلاً من حيث المبدأ لاكتساب الحقوق أو تحمل الالتزامات إلا أن الجنين سينفصل عن أمه ذات يوم ليصبح شخصاً مستقلاً من الوجهة القانونية.
ولذلك وبحسب الشريعة الإسلامية وقانون الأحوال الشخصية يعترف للجنين بأربعة حقوق $إحداها عائلي وهو النسب, والثلاثة الأخرى مالية وهي: الإرث والوصية والوقف.
فللجنين الحق في أن يُنسب إلى أبيه كما أن له الحق في الإرث الذي يؤول إليه والوصية التي يوصى له بها والوقف الذي يوقف عليه.
ويفترض الجنين ذكراً حين تكون له مصلحة في ذلك, ففي الإرث الشرعي مثلاً حيث للذكر مثل حظ الأنثيين يحتفظ له بنصيب الذكر, فإذا ظهر ذكراً بعد الولادة أعطي النصيب الذي حفظ له, وإذا ظهر أنثى أعيد توزيع التركة على هذا الأساس ووزع الفرق على مستحقيه.
أما إذا مات الجنين قبل الولادة ولم يكتسب الشخصية القانونية اعتبر كأنه لم يكن موجوداً ولم يكون له أي حق في ملكية تلك الأموال.
وهنالك فائدة من معرفة إذا كان المولود قد اكتسب الشخصية أم لا.
فلو ولد الإنسان حياً واكتسب الشخصية بحسب قانوننا المدني ثم مات بعد لحظات, فإن الأموال التي حفظت له في مرحلة الحمل تكون قد آلت إليه وأصبحت ملكاً له بصورة نهائية وهي توزع بالتالي على ورثته.
أما إذا لم يكتسب المولود الشخصية, فإنه لا يكتسب شيئاً من أمواله:
انتهاء الشخصية:
الوفاة:
تنتهي الشخصية عادة بالوفاة التي تضع حداً لحياة الإنسان ووجوده, وقد عرفنا في بعض الأنظمة السابقة أسباباً أخرى لزوال الشخصية غير الوفاة كالرق مثلاً, أو عقوبة الموت المدني, إلا أن هذه الأسباب لم تعد قائمة في عصرنا الحاضر, وكما أن من الضروري تحديد زمن الولادة لمعرفة تاريخ بدء الشخصية للإنسان فكذلك من الضروري تحديد زمن الوفاة لمعرفة تاريخ زوال شخصيته وليمكن بالتالي حصر ورثته الذين سيخلفونه في تركته وأمواله1.
$لكن في بعض الحالات يموت عدد من الأشخاص معاً دون -تحديد زمن وفاة كل منهم كما في حالات الكوارث الطبيعية فاعتبرت الشريعة الإسلامية أنه إذا تعذر تحديد من مات أولاً ومعرفة ترتيب الوفاة بينهم فيجعلون كأنهم ماتوا جميعاً في وقت واحد ولا يرث أحد منهم الآخر.
حالة المفقود:
تعريف المفقود:
المفقود هو الشخص الذي غاب وانقطعت أخباره ولا يعرف أحياً هو أم ميتاً.
والمفقود يختلف بهذا المعنى عن الغائب ذلك أن الغائب هو الشخص الذي غاب عن موطنه ولكن حياته محققة ولا يقوم الشك حولها1.
فكل مفقود يعتبر غائباً ولكن لا يعتبر كل غائب مفقوداً إلا إذا انقطعت أخباره وقام الشك حول حياته أو موته.
وقد نصت المادة 202 من قانون الأحوال الشخصية على أن الإنسان يعتبر مفقوداً في حالتين:
1 ـ إذا كان لا تعرف حياته أو مماته.
2 ـ إذا كانت حياته محققة ولكن لا يعرف له مكان.
وبينما نصت المادة 203 من القانون المذكور على أن الغائب هو الشخص (الذي منعته ظروف قاهرة من الرجوع إلى مقامه أو إدارة شؤونه بنفسه أو إقامة وكيل عنه مدة أكثر من سنة وتعطلت بذلك مصالحه أو مصالح غيره).
أحكام المفقود:
يظل مصير المفقود مجهولاً والشك قائماً حول حياته أو مماته إلى أن يعود هذا المفقود إلى الظهور ثانية أو يثبت موته بدليل قاطع.
وعلى هذا فإن النظم والتشريعات القانونية تحدد سناً معينة للمفقود, فإذا لم يعد قبلها يسمح باعتباره ميتاً ولو لم يقم الدليل على موته, وتختلف هذه السن باختلاف التشريعات والنظم وبحسب قانون الأحوال الشخصية لدينا هذه السن هي سن الثمانين.
ولا بد لنا للتعمق في هذا الموضوع من دراسة أحكام المفقود.
أولاً: حالة الشك حول حياة المفقود أو مماته:
تمتد هذه الحالة منذ غياب المفقود وانقطاع أخباره إلى أن يظهر ثانية للوجود أو يثبت موته أو يحكم باعتباره في عداد الأموات.
$الأحكام التي تنظم الوضع القانوني للمفقود في هذه الحالة:
أ ـ إن الآثار والنتائج القانونية التي تترتب على انتهاء حياة الإنسان وزوال شخصيته ـ كانحلال زواجه مثلاً أو تصفية تركته وتوريث أمواله ـ لا يقع منها شيء بالنسبة للمفقود باعتبار أن وفاته لم تتحقق بعد.
وهذا الحكم بالرغم من انسجامه مع المنطق القانوني يبدو على جانب من القسوة وخاصة بالنسبة لزوجة المفقود التي قد لا يعود زوجها إلى الظهور أبداً فتضطر إلى انتظار بلوغه سن الثمانين وتتمكن من الزواج بغيره.
ولكن قانون الأحوال الشخصية قد راعى هذا الأمر فأجاز للزوجة التي غاب عنها زوجها بدون عذر مقبول أن تطلب إلى القاضي بعد سنة من غياب الزوج الحكم بالتفريق بينها وبينه, ولو كان له مال تستطيع الإنفاق منه.
ويحق للزوجة طلب التفريق لعلة الغياب فقط, أما إذا طلبت التفريق لسبب آخر اعتبر الزواج مستمراً حتى عودة المفقود أو الحكم بوفاته.
ب. وأما بالنسبة للآثار والنتائج القانونية التي يشترط لحدوثها وجود الشخص الذي تترتب لمصلحته على قيد الحياة ـ كحقه في الإرث من غيره أو الوصية ـ فإنها تترتب بالنسبة للمفقود ولكن معلقة على شرط التحقق من حياته, فالمفقود لا يحرم من الحقوق التي تؤول إليه خلال هذه الفترة لعدم ثبوت موته, كما أنه لا يكتسبها بصورة نهائية لأن حياته غير محققة, بل تحفظ له هذه الحقوق بصورة مؤقتة.
وتدار أموال المفقود وشؤونه خلال فترة غيابه إذا كان قد عين وكيلاً عنه وفي حال عدم تعيينه وكيلاً تعين له المحكمة وكيلاً يدعى بالوكيل القضائي.
ثانياً: حالة الحكم بوفاة المفقود:
إذا عاد الشخص إلى الظهور حياً بعد فقده فإن حالة الفقدان تنتهي بالنسبة إليه ويزول الشك الذي كان قائماً حول مصيره ويعود بالتالي إلى استلام أمواله وممارسة حقوقه.
وكذلك تنتهي حالة الفقدان فيما إذا ثبتت وفاة المفقود بالدليل القاطع إذ يتحدد مصيره بتاريخ حدوثها وتصفى حقوقه وعلاقاته وأمواله تبعاً لذلك, فأمواله التي اكتسبها قبل فقده توزع على من كان يستحقها وقت وفاته وإن الأموال التي آلت إليه بعد فقده تصبح ملكيتها له وتدخل في تركته مع أمواله المكتسبة, وأما الأموال التي آلت إليه بعد وفاته فإنها لا تعتبر ملكه وترد لمن يستحقها حين آلت إليه
والحكم بالوفاة يؤدي إلى زوال شخصية المفقود وتصفية علاقاته وحقوقه فينقضي زواجه وتوزع تركته وأمواله على ورثته.
وحين صدور الحكم بالوفاة, هل تعتبر الوفاة واقعة بتاريخ هذا الحكم أم بتاريخ غياب المفقود وانقطاع أخباره؟
إذا اعتبرنا الوفاة واقعة بتاريخ الفقدان فإن تركة المفقود يجب أن توزع في هذه الحالة على من كان يستحقها بذلك التاريخ, كما أن الأموال التي آلت إليه من غيره وأوقفت على ذمته خلال فقده لا تدخل في التركة وإنما ترد إلى من كان يستحقها حين آلت إلى المفقود, أما إذا اعتبرنا أن تاريخ الحكم هو تاريخ الوفاة فإن تركة المفقود توزع على ورثته الموجودين بتاريخ الحكم, كما أن الأموال التي أوقفت على ذمته خلال فقده تعتبر ملكاً خالصاً له وتدخل بالتالي في تركته.
ولقد اختار المسلمون حلاً وسطاً بين هاتين الحالتين:
فقرروا أن الحكم بالوفاة يؤدي إلى اعتبار المفقود ميتاً منذ تاريخ فقده بالنسبة لبعض الأمور, ومنذ تاريخ الحكم بالنسبة لأمور أخرى, ففيما ينفعه ويضر غيره كاستحقاقه الإرث أو الوصية مثلاً يعتبر المفقود ميتاً منذ تاريخ الفقد, أما فيما يضره وينفع غيره, كاستحقاق غيره الإرث منه, فيعتبر ميتاً بتاريخ الحكم.
$وبالنسبة للأموال التي آلت إلى المفقود بعد فقده والتي أوقفت على ذمته ريثما تتحقق حياته, لا يكتسب المفقود منها شيئاً لأنه يعتبر ميتاً حين آلت إليه ولا تدخل هذه الأموال بالتالي في تركته بل ترد إلى من كان يستحقها لو تأكدت من الأصل وفاة المفقود.
أما الأموال التي كان المفقود قد اكتسبها قبل فقده, فإنها توزع على من يستحق الإرث منه بتاريخ الحكم لا بتاريخ الفقد, لأن المفقود يعتبر حياً بالنسبة إليها خلال فقده ولا يعتبر ميتاً إلا بتاريخ الحكم.
$ثالثاً: حالة عودة المفقود إلى الظهور أحياناً بعد الحكم بوفاته:
إذا عاد المفقود إلى الظهور ثانية بعد فقده والحكم بوفاته, فينهار الافتراض الذي بني عليه الحكم وتتأكد حياة المفقود من جديد.
وفي هذه الحالة تعاد إلى المفقود حقوقه وأمواله, كما لو ظهر حياً قبل الحكم بالوفاة
ونختلف هنا بين حالتين:
$إن المفقود الذي يعود إلى الظهور قبل الحكم بوفاته لا تكون حقوقه قد صفيت بعد, ولا تكون أمواله قد وزعت على غيره, بل تبقى هذه الحقوق والأموال محفوظة له انتظاراً للبت في مصيره, فيستعيدها كاملة دون نقصان.
أما المفقود الذي يظهر بعد الحكم بوفاته, فإنه يجد أن حقوقه وأمواله قد تمت تصفيتها ووزعت على من يستحقها نتيجة لصدور الحكم بالوفاة, وربما تصرف الذين آلت إليهم أموال المفقود بهذه الأموال كلها أو بعضها, أو ربما هلكت لديهم أو استهلكت من قبلهم فلا يستطيع المفقود استعادتها كاملة بل يكون له الحق فقط في استرداد ما بقي منها في يد من آلت إليهم.
إثبات الشخصية:
إن إثبات وجود الشخصية أو انتهائها أمر بالغ الأهمية, لما يترتب على ذلك من نتائج وآثار من الوجهة القانونية1.
واثبات وجود الشخصية القانونية للإنسان يكون بإثبات واقعة الولادة, كما أن إثبات انتهاء شخصيته يتم بإثبات واقعة الوفاة.
ولقد كان الإثبات يقوم منذ القديم على أحكام الشريعة الإسلامية التي تكتفي بالشهادة وحدها.
$أما في العهد العثماني فلقد انتشرت موجة من التنظيمات الإدارية التي تناولت قضايا الأحوال المدنية.
ثم صدرت تشريعات متعاقبة تتضمن إنشاء سجلات للأحوال المدنية وتبين كيفية تنظيمها وأصول الإثبات بواسطتها ونصت هذه التشريعات على ضرورة التبليغ عن الولادة والوفاة وتسجيلهما وبالنسبة للوفاة لا يسمح بدفن المتوفى إلا بعد استكمال إجراءات التبليغ القانونية والحصول على إذن بالدفن.
وتظل سجلات الأحوال المدنية معتبرة إلى أن يثبت عكسها أو بطلانها أو تزويرها بحكم قضائي.
وقد تبنى قانوننا المدني هذه الطريقة في المادة 32 منه ولكن نظراً لكثرة عدد المكتومين في $بلادنا وعدم دقة هذه السجلات فقد أجاز في الفقرة الثانية من المادة المذكورة, الإثبات بأي طريقة أخرى, إذا تعذر الحصول على دليل من سجلات الأحوال المدنية أو تبين عدم صحة ما أدرج فيها.
الفرع الثاني
الاسم
لكل شخص اسم يعرف به ويتميز بواسطته عن غيره ويتألف اسم الشخص عادة من اسمه العائلي أو لقبه ومن اسمه الشخصي أو الصغير ويمكن أن يضيف الشخص لهذين الاسمين اسماً مستعاراً له.
الاسم العائلي أو اللقب:
تعريفه وفائدته:
الاسم العائلي أو اللقب هو اسم العائلة التي ينتسب إليها الشخص وينحدر منها وهو اسم مشترك يحمله جميع أفراد العائلة الواحدة.
ولم يكن الاسم العائلي أو اللقب منتشراً بين العرب في عصورهم الماضية, بل كان الشخص يعرف باسمه واسم أبيه وربما أضيف إلى ذلك اسم القبيلة أحياناً.
وإن أول من اهتم بالاسم العائلي وعمد إلى استعماله هم الرومان.
واستعمال الاسم العائلي أو اللقب يساعد على تمييز الأشخاص بعضهم عن بعض تمييزاً يتصف بالكثير من الدقة والوضوح, وهذا ما دعا قانوننا المدني إلى الأخذ بالاسم العائلي أو اللقب وفرض استعماله بالإضافة للاسم الشخصي.
اكتسابه:
نصت المادة 40 من القانون المدني على أنه: " يكون لكل شخص اسم ولقب, ولقب الشخص يلحق أولاده ".
والأولاد الذين تعنيهم المادة المذكورة هم الأولاد الشرعيون فقط, أما الأولاد الطبيعيون أو غير الشرعيون فلا يعترف لهم بأية حقوق تجاه آبائهم الذين ولدوا منهم وليس لهم بالتالي اكتساب ألقابهم.
والابن الشرعي يكتسب حكماً لقب أبيه بمجرد ولادته, وهذا اللقب ليس منحة يمنحها الأب لابنه بحيث يستطيع إذا شاء أن يحجبها عنه لان اللقب حق مباشر للابن, وأما اللقيط الذي لا يعرف أبواه فيمنح لقباً منتحلاً يطلقه عليه أمين السجل المدني إلى أن تثبت بنوته الشرعية, سواء بإقرار الأب أو بحكم قضائي.
وبينما النظام الفرنسي لا يشترط البنوة الشرعية لاكتساب اللقب بل يعتمد إلى جانبها البنوة الطبيعية, فالبنوة الطبيعية تنشأ عنها بعض الآثار القانونية لمصلحة الابن غير الشرعي الذي لم يقترف ذنباً يؤاخذ عليه, ومن هذه الآثار حقه في اكتساب لقب من تثبت بنوته إليه أولاً من أبويه.
ويأخذ النظام الفرنسي بطريقتين إضافيتين في اكتساب اللقب لا مجال للأخذ بهما في نظامنا القانوني وهما: التبني من جهة والزواج من جهة ثانية.
ففي التبني يكتسب المتبنى لقب الشخص الذي تبناه إضافة إلى لقبه الأصلي أحياناً أو بدلاً عنه, أما في بلادنا فإن التبني لا ينتج أي أثر من الوجهة القانونية بل يحتفظ هذا المتبنى بلقبه الأصلي وحده.
وأما في الزواج فقد جرت العادة في فرنسا على أن تحمل الزوجة لقب زوجها إضافة إلى لقبها الأصلي وهي عادة تأيدت بالقانون المدني الفرنسي الذي ضمن للزوجة استعمال هذا اللقب إضافة للقبها الأصلي.
وقد كان مشروع القانون المدني المصري أن يأخذ هذا الأمر إلا أن هذا النص قد حذف من القانون حين مناقشته من قبل المجالس التشريعية المختصة, باعتبار أن العرف في بلادنا لم يستقر على إلحاق لقب الزوج بزوجته بصورة إلزامية.
ومع ذلك قد نجد بعض النساء يستعملن ألقاب أزواجهن بالإضافة إلى ألقابهن الأصلية.
طبيعته القانونية:
اختلف الفقهاء في تحديد طبيعة الاسم العائلي أو اللقب ونوع حق الشخص فيه1.
النظرية الأولى:
تستمد هذه النظرية جذورها من اجتهادات القضاء الفرنسي العادي التي تميل إلى اعتبار وجود حق للشخص على لقبه وهو حق الملكية.
وينتج عن هذا أن الشخص يستطيع أن يطالب بمنع الغير من الاعتداء على لقبه وانتحاله لنفسه دون أن يكون مضطراً لإثبات الضرر الذي يلحق به من جراء ذلك أو المصلحة التي تعود عليه من دعواه, لأن مجرد الاعتداء على لقبه هو اعتداء على حق الملكية العائد إليه بحيث يجب منعه وإزالته.
وقد انتقدت هذه النظرية من عدة وجوه:
فمن حيث المفهوم: نجد أن ملكية الأشياء تثبت للشخص إما على وجه الاستقلال أو على وجه الشيوع, أما بالنسبة للقب فلا يمكن أن يعتبر حق الشخص فيه من قبيل الملكية المستقلة, لأن هذا الشخص لا يملكه وحده وإنما يشاركه فيه جميع أفراد عائلته الذين يحملون نفس اللقب ويتمتعون به بل وجميع أفراد العائلات الأخرى التي تتشابه ألقابها مع لقب عائلته.
ولا يمكن اعتبار الحق في اللقب من الملكية الشائعة, لأن الملكية الشائعة يكون عدد المالكين فيها محصوراً ويتمتع كل منهم بنصيب من الشيء المملوك يتناسب مع حصته منه, بالإضافة إلى أن كل واحد ممن يحملون هذا اللقب يتمتع به كاملاً لا بنسبة حصته منه بينما لا سبيل إلى حصر الذين يحق له اكتساب اللقب والتمتع به.
أما من حيث الاكتساب: لا يمكن اعتبار اكتساب اللقب أول مرة نوعاً من التملك بالاستيلاء أو الحيازة, لأن اللقب إنما يستمد ويكوّن من حروف اللغة ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه سبق غيره إلى الاستيلاء على هذه الحروف التي يتكون منها لقبه أو إلى حيازتها كما أن انتقال اللقب العائلي إلى الأبناء لا يمكن أن يعتبر نوعاً من الإرث الذي تنتقل به الملكية لأن الإرث $لا يقع إلا بعد وفاة المورث بينما يكتسب الأبناء لقب أبيهم بمجرد ولادتهم.
وأما من حيث الخصائص: هناك اختلاف بين خصائص الحق في اللقب وخصائص حق الملكية ويبرز هذا الاختلاف في قابلية التعامل أو عدمها بالنسبة لكل منهما فمن أهم خصائص اللقب أنه غير قابل للتعامل لانتفاء الصفة المالية عنه بينما يعتبر حق الملكية في طليعة الحقوق المالية.
النظرية الثانية:
وقد نادى بها خصوم نظرية الملكية وهي ترى أن اللقب أو الاسم بصورة عامة العائلي والشخصي ليس ملكاً لصاحبه ولاحقاً من حقوقه وإنما هو عبارة عن طريقة إدارية تأخذ بها الدولة لتسهيل تمييز الناس بعضهم عن بعض وتعريف كل منهم أو هو بمثابة مؤسسة أمن تساعد على حسن سير المجتمع بإقامة تنظيم إداري فيه يتيح تمييز كل فرد من أفراده تمييزاً واضحاً.
واللقب في هذه النظرية أشبه ما يكون بلوحة إدارية أو رقم مميز يعطى للشخص دون أن يكون لهذا الشخص عليه من حقوق أكثر مما يكون للجندي على رقمه العسكري, أي لا يكون للشخص أي حق على لقبه أياً كان نوع هذا الحق.
ولا يستطيع بالتالي أن يطالب بمنع الغير من الاعتداء عليه وانتحاله لنفسه إلا إذا أثبت وجود الضرر الذي يلحق به من جراء ذلك وفقاً لقواعد المسؤولية التقصيرية.
وقد انتقدت هذه النظرية بسبب مغالاتها في تجريد الشخص من كل رابطة قانونية تربطه بلقبه, فالشخص لا ينظر إلى لقبه على أنه مجرد رقم يحمله ليميزه وإنما هو جزء من كيانه الشخصي وأن له مصلحة بالتمسك به والدفاع عنه.
النظرية الثالثة:
$دفعت الانتقادات التي وجهت إلى النظريتين السابقتين الفقهاء للبحث عن نظرية جديدة تتمثل باعترافهم بوجود حق للشخص على لقبه غير أنهم لا يرون الأخذ بما ذهبت إليه النظرية الأولى من اعتبار هذا الحق من قبيل حق الملكية.
والرأي الراجح بين الفقهاء حالياً هو اعتبار حق الشخص في لقبه من الحقوق الملازمة لشخصيته الإنسانية التي تدعى بحقوق الشخصية وهناك رأي آخر يميل إلى اعتبار الحق في اللقب من الحقوق التي تتصل بحالة الشخص المدنية في زمرة حقوقه العائلية ومما لا شك فيه أن اللقب ذو طبيعة مزدوجة.
فهو واجب من جهة لأن الشخص ملزم بحمله ولا يستطيع التخلي عنه ما لم يعمد إلى تصحيحه أو تغييره وفقاً للأصول القانونية وإذا كان هذا الشخص يستطيع أن يتخذ لنفسه اسماً مستعاراً يشتهر به بين الناس فإن ذلك لا يعفيه من استعمال لقبه الحقيقي في علاقاته الرسمية.
وهو حق من جهة ثانية, لأن للشخص مصلحة مشروعة في حمله واستعماله والتمتع بكافة السلطات التي يخوله إياها ولأن القانون يعترف له بهذه المصلحة ويحميها من كل اعتداء.
حماية اللقب:
لقد قررت المادة 52 من القانون المدني المبدأ العام المتضمن حماية الحقوق الملازمة لشخصية الإنسان من كل اعتداء إذ نصت على أن: " لكل من وقع عليه اعتداء غير مشروع في حق من الحقوق الملازمة لشخصيته أن يطلب وقف هذا الاعتداء مع التعويض عما يكون قد لحقه من ضرر ".
ثم جاءت المادة 53 من القانون نفسه بتطبيق خاص لهذا المبدأ فيما يتعلق بالاسم واللقب فنصت على أن: " لكل من نازعه الغير في استعمال اسمه أو لقبه أو كليهما بلا مبرر,, من انتحل الغير اسمه أو لقبه أو كليهما دون حق, أن يطلب وقف هذا الاعتداء مع التعويض عما يكون قد لحقه من ضرر ".
وقد نصت المادة 53 من القانون المدني على صورتين مختلفتين للاعتداء على اللقب وهما:
$المنازعة في اللقب: أي اعتراض الغير بلا مبرر على حمل اللقب من قبل صاحبه.
$الانتحال: أي حمل الغير لهذا اللقب دون حق.
وفي هاتين الحالتين معاً لا حاجة لإثبات وقوع الضرر وإنما يكتفى بثبوت حق صاحب اللقب $في لقبه, لتسمع دعواه ويحكم بوقف الاعتداء الواقع عليه. وبالإضافة إلى طلب وقف الاعتداء يستطيع صاحب اللقب أيضاً أن يطالب بالتعويض عما أصابه من ضرر من جراء هذا الاعتداء ولا بد له في هذه الحالة من إثبات الضرر الذي أصابه ليمكن الحكم له بالتعويض, فإثبات الضرر شرط لطلب التعويض.
خصائصه1:
عدم قابلية اللقب للتعامل:
وتقتضي منع صاحبه من التنازل عنه للغير أو التصرف فيه, سواء أكان هذا التصرف بعوض كالبيع مثلاً أو بدون عوض كالهبة أو الوصية على أن الشخص قد يستعمل لقبه أحياناً بمثابة اسم تجاري له يطلقه على محله.
عدم خضوع اللقب للتقادم: ومن مقتضاه عدم سقوط حق صاحبه فيه مهما مر من زمن على توقفه عن حمله واستعماله كما أن من مقتضاه أيضاً عدم إمكان اكتسابه بمجرد حمله فترة معينة من الزمن ممن لا حق له أصلاً فيه.
أما الاسم التجاري الذي يتخذ عنواناً للمتجر ويؤلف عنصراً من عناصره المالية فهو يخضع للتقادم بصفته حقاً مالياً.
$عدم قابلية اللقب للتغيير: وهذا نتيجة لما يتخلل طبيعته من مفهوم الواجب بالإضافة إلى مفهوم الحق على أن ذلك لا يعني استحالة تغيير اللقب إطلاقاً وإنما يقصد به فقط أن الشخص لا يستطيع أن يغير لقبه على مشيئته وهواه بل هو يخضع في ذلك لبعض القيود والشروط.
تصحيحه وتفسيره: هناك فارق بين تصحيح اللقب وتغييره, فالتصحيح يكون في حالة وجود خطأ في سجل الأحوال المدنية يتعلق باللقب.
أما التغيير فيكون في حالة رغبة الشخص في الاستعاضة عن لقبه الأصلي.
وأما التصحيح فيجري بحسب الأحوال المدنية بحكم قضائي تصدره محكمة الصلح المختصة بعد أن تتثبت من خطأ القيد.
وأما التغيير فقد نصت المادة 41 من قانوننا المدني على أنه: " ينظم بتشريع خاص كيفية اكتساب الألقاب وتغييرها ". إلا أن هذا التشريع لم يصدر بعد في بلادنا.
الاسم الشخصي أو الصغير:
الاسم العائلي أو اللقب لا يكفي لتمييز الشخص تمييزاً صحيحاً بل لا بد من أن يحمل الشخص بالإضافة إليه اسماً خاصاً به يميزه عن سواه ممن يحملون نفس لقبه من أفراد عائلته وهو ما يسمى بالاسم الشخصي أو الصغير.
الاسم المستعار:
يتخذ بعض الأشخاص أحياناً أسماء مستعارة يطلقونها على أنفسهم ويستعملونها في مجالات نشاطهم وعملهم فيشتهرون بين الناس بهذه الأسماء التي قد تطغى في كثير من الأحيان على أسمائهم الحقيقية حتى لا يكادون يعرفون إلا بها والاسم المستعار ليس له أية صفة رسمية وهو لا يمكن أن يحل في علاقات صاحبه مع الدولة ودوائرها محل اسمه الحقيقي على أن الشخص قد يستعمل هذا الاسم في علاقاته مع الأشخاص الآخرين, ومثل هذا الاستعمال جائز طالما أنه لا يهدف إلى التضليل والاحتيال, كما أن الصكوك التي يوقعها صاحبه باسمه المستعار تعتبر صحيحة ومنتجة لجميع آثارها القانونية بالنسبة إليه كالصكوك التي يوقعها باسمه الأصلي1.
ويعتبر الاسم المستعار خاصاً بصاحبه فلا يلحق أولاده كاللقب.
الفرع الثالث
حالة الشخص
$يوجد الشخص في المجتمع مرتبطا بأسرته من جهة وبالدولة التي ينتمي إليها من جهة ثانية، $وصلات الشخص بأسرته عن طريق القرابة التي تربطه بأفرادها هي التي تحدد بما يسمى $بالحالة المدنية لهذا الشخص كما أن صلاته بالدولة التي ينتمي إليها ويحمل جنسيتها هي التي تحدد ما يدعى بالحالة السياسية للشخص.
الأسرة والقرابة:
أنواع القرابة: إن رابطة القرابة بين الأشخاص إما أن تكون رابطة الزوجية أو النسب أو المصاهرة1.
$1- رابطة الزوجية: هي التي تجمع بين الزوجين وتعين مركز كل منهما بالنسبة للآخر وتحدد حقوقهما وواجبا تهما المتبادلة.
2- رابطة النسب: وهي الرابطة التي تنشأ بين كل من يجمعهم أصل مشترك سواء أكانت صلتهم عبارة عن قرابة مباشرة أو غير مباشرة (قرابة حواشي).
فالقرابة المباشرة: بحسب المادة /37/ من القانون المدني السوري هي ((الصلة ما بين الأصول والفروع)) أي هي قرابة الآباء والأمهات والأجداد والجدات مهما علوا بالأبناء والبنات والأحفاد والحفيدات مهما نزلوا لأنهم ينحدرون بعضهم عن بعض بخط مستقيم فقرابة $الشخص بجده هي قرابة مباشرة لاجتماعهما بعمود نسب واحد يربط الشخص وأبيه وجده.
$أما القرابة غير المباشرة: فهي بحسب المادة المذكورة (( الرابطة بين أشخاص يجمعهم أصل مشترك دون أن يكون أحدهم فرعاً للآخر))
كالقرابة بين الأخوة والأخوات أو بين كل منهم وذرية الآخر وبين ذرية كل منهم وذرية الآخر ذكوراً كانوا أم إناثاً.
وتدعى هذه القرابة قرابة غير مباشرة لأن الأقارب لا ينحدرون بعضهم عن بعض على خط مستقيم وإنما يوزعون على عمودين مستقلين للنسب يلتقيان معاً عند الأصل المشترك كقرابة ابن الأخ بعمته مثلاُ.
وقرابة النسب سواء أكانت مباشرة أو غير مباشرة إنما تكون على نوعين هما:
القرابة العصبية أو قرابة العصبات: وهي التي تكون عن طريق الأب كقرابة الشخص لجده لأبيه أو لعمه.
القرابة الرحمية: فهي التي تكون عن طريق الأم كقرابة الشخص لجده لأمه أو لخاله.
رابطة المصاهرة: هي الرابطة التي تنشأ بين كل من الزوجين وأقارب الزوج الآخر وحسب القانون المدني يعتبر أقارب أحد الزوجين (( في نفس القرابة والدرجة بالنسبة للزوج الأخر))
درجات القرابة:
نصت المادة /38/ من القانون المدني على انه (( يراعى في حساب درجة القرابة المباشرة اعتبار كل فرع درجة عند الصعود للأصل بخروج هذا الأصل وعند حساب درجة الحواشي $تعد الحواشي صعوداً من الفرع إلى الأصل المشترك ثم نزولا منه إلى الفرع الأخر، وكل فرع فيما عدا الأصل المشترك، يعتبر درجة))
لمعرفة درجة القرابة المباشرة التي تربط بين شخصين ينحدر أحداهما من الآخر يصعد من الفرع إلى الأصل ويعطى كل فرع درجة عند الصعود ولا يعطى الأصل أية درجة فالقرابة التي تربط الابن بابيه هي قرابة مباشرة من الدرجة الأولى1.
لدينا المثال التالي للتوضيح:
ما هي درجة قرابة الحفيد بجده؟
هي قرابة مباشرة ومن الدرجة الثانية
أما تحديد درجة القرابة غير المباشرة أو (قرابة الحواشي):
فتكون بالصعود من أحد الشخصين إلى الأصل المشترك ثم النزول من الأصل المشترك إلى الشخص الآخر مع إعطاء كل فرع صعوداً أو نزولاً درجة واحدة دون إعطاء الأصل المشترك أية درجة فقرابة الأخ بأخيه هي قرابة غير مباشرة من الدرجة الثانية.
مثال:
ما هي درجة القرابة التي تربط بين الشخص وبين أبن خالته؟
هي قرابة غير مباشرة من الدرجة الرابعة.
أما درجة قرابة المصاهرة التي تكون بين أحد الزوجين وأفراد أسرة الزوج الآخر فهي بحسب م /39/: نفس الدرجة التي تكون عليها قرابة الزوج الآخر بأفراد أسرته فإذا كانت قرابة الزوج بأبيه مثلاً هي قرابة مباشرة من الدرجة الأولى فان قرابة الزوج بوالد زوجته هي قرابة مصاهرة من الدرجة الأولى أيضاً.
مثال:
ما هي درجة قرابة زوجة الشخص بابن عم زوجها ؟
قرابة مصاهرة من الدرجة الرابعة
مثال:
إن قرابة الزوجة بابن خالة زوجها قرابة مصاهرة من الدرجة الرابعة
آثار القرابة:
من الآثار التي تنشأ عن رابطة الزوجية: حق الزوج في طاعة زوجته له وحق الزوجة في $نفقة زوجها عليها، وحق كل منهما في أن يرث الأخر وعدم جواز شهادة أحد الزوجين للآخر.
من الآثار التي تترتب على رابطة النسب:
1- حق الابن في حمل لقب أبيه واسمه العائلي وحق الولاية للأب أو الجد على الابن أو الحفيد وأفضلية الأقرباء في الوصاية على من كان قاصراً.
2- تحريم الزواج بين الأصول والفروع أياً كانت درجة قرابتهم.
3- تحريم الزواج بين الإخوة والأخوات وبين كل منهم وذرية الآخر وحق الأقرباء في الإرث من بعضهم.
4- منع القاضي من النظر في الدعاوى التي يكون له مع احد الخصوم فيها قرابة حتى الدرجة الرابعة وعدم جواز شهادة الأصول للفروع أو الفروع للأصول في القضايا المدنية.
وأما الآثار المترتبة على رابطة المصاهرة: فهي محدودة جداً وأهمها تحريم زواج الزوجة $بابن زوجها أو زواج الزوج بأم زوجته وأما الحق في الإرث ونحو ذلك من الآثار الهامة التي تتصل بالقرابة فلا يترتب شيء منها على قرابة المصاهرة.
الجنسية:
تحديد الجنسية واكتسابها:
تعرف الجنسية بأنها(( الرابطة التي تقوم بين الشخص ودولة معينة وتجعله تابعاً لها)).
ولابد لكل شخص من أن تكون له جنسية محددة كما لا تكون للشخص إلا جنسية واحدة إلا انه من الممكن وجود أشخاص لا يحملون أية جنسية وكذلك قد يحمل بعض الأشخاص استثناء أكثر من جنسية. وتكتسب الجنسية إما بصورة أصلية بحكم الولادة أو بصورة استثنائية بطريق التجنس.
واكتساب الجنسية1 بحكم الولادة يخضع إلى أحد المبدأين التاليين:
1- مبدأ الدم: يكتسب الشخص جنسية دولة معينة لولادته من أب يحمل جنسية هذه الدولة.
2- مبدأ الأرض يعتبر من رعايا الدولة ويحمل جنسيتها كل من يولد على أرضها دون النظر إلى جنسية أبيه وقد نصت المادة /35/ من القانون المدني على أن (( الجنسية السورية ينظمها قانون خاص ))حيث نظمها المرسوم التشريعي رقم 276 الصادر بتاريخ 24/11/1969.
وتدل أحكامه على أن مبدأ الدم هو الأصل الغالب في اكتساب الجنسية حيث ينص على أنه يعتبر عربيا ًسوريا ًحكماً (( من ولد في القطر أو خارجه من والد عربي سوري)).
والمرسوم التشريعي السابق يفسح المجال لتطبيق مبدأ الأرض في اكتساب الجنسية في بعض الحالات الاستثنائية.
أما اكتساب الجنسية بطريق التجنس فيخضع لبعض الشروط المذكورة في المرسوم السابق
زوال الجنسية:
$تزول الجنسية عن صاحبها إما بفقدانه إياها، أي التخلي عنها بإرادته وفق شروط معينة، أو تجريده منها واهم حالات فقدان الجنسية هي حالة تجنس المواطن بجنسيه أجنبية وكذلك في حالة رغبة المرأة السورية التي تتزوج بأجنبي في التخلي عن جنسيتها الأصلية لاكتساب جنسية زوجها.
أما التجريد من الجنسية فيكون إما بحكم قضائي أو بمرسوم بناء على اقتراح معلل من وزير الداخلية وذلك في بعض الحالات مثل:
1- دخول المواطن باختياره في الخدمة العسكرية لدى دولة أجنبية دون ترخيص سابق يصدر عن وزير الدفاع.
2- مغادرة الأراضي السورية بصورة غير مشروعة إلى بلد هو في حالة حرب مع القطر.
آثار الجنسية:
تظهر أهم هذه الآثار في نطاق القانون العام:
عدم قبول غير المواطن للاشتراك في الحكم أو العمل السياسي سواء عن طريق الانتخاب أو التصويت أو الترشيح أو التمثيل وعدم السماح له بتولي الوظائف العامة في الدولة، وعدم تكليفه بالخدمة العسكرية الإلزامية وخضوعه لشروط إقامة معينة.
على أن بعض آثار الجنسية تنعكس أيضاً على حياة الشخص المدنية ومن ذلك تقييد حرية $الأجانب في تملك العقارات والتصرف فيها وتقييد حريتهم في إقامة الشركات واستثمارها وفي مزاولة أعمالهم.
الفرع الرابع
الأهليـــــــة
تعتبر الأهلية من أهم خصائص الشخصية حيث يتوقف عليها تحديد فعالية الشخص من حيث قدرته على اكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات من جهة وعلى ممارسة الأعمال والتصرفات المتعلقة بهذه الحقوق والالتزامات على وجه يعتد به من الوجهة القانونية من جهة ثانية وأحكام الأهلية قد نظمها بصورة رئيسية قانون الأحوال الشخصية وهي مستمدة إلى حد كبير من مبادئ الشريعة الإسلامية.
نوعا الأهليـة:
تقسم الأهلية إلى نوعين1: أهلية الوجوب أو تمتع وأهلية الأداء أو ممارسة.
1- أهلية الوجوب: تعرف بأنها صلاحية الشخص لثبوت الحق له أو عليه أو صلاحيته لاكتساب الحقوق والتمتع بها والالتزام بالواجبات وتحملها وتقوم أهلية الوجوب على عنصرين هما:
أ- صلاحية الشخص أو قدرته على التمتع بالحقوق أي صلاحيته لأن يكون صاحب حق كصاحب حق الملكية.
ب- صلاحية اشخص أو قدرته على الالتزام بالواجبات أي صلاحيته لأن يكون مكلفاً بالتزام.
وتثبت أهلية الوجوب للإنسان لمجرد كونه إنساناً دون أن يتوقف اعتبارها على أي أمر آخر فهي تبدأ ناقصة محدودة بالنسبة للجنين ثم تتم لدى الشخص بعنصريها منذ ولادته وتلازمه طول حياته.
وهنا يمكن أن نطرح السؤال التالي لماذا تعد أهلية الوجوب لدى الجنين ناقصة ؟
لأن الجنين لا يمكنه تحمل أي التزام تجاه غيره ولكنه يحتفظ ببعض الحقوق التي منحها القانون له.
أهلية الأداء: تعرف أهلية الأداء بأنها: صلاحية الشخص لممارسة الأعمال والتصرفات القانونية بنفسه على وجه يعتد به قانوناً.
وهذه الأهلية لا تثبت كاملة بالنسبة لجميع الأشخاص بل تكون بالنسبة لبعضهم معدومة أو ناقصة.
والسبب في هذا أن صلاحية الشخص لإجراء الأعمال والتصرفات ذات النتائج القانونية ومباشرتها بنفسه لا تتعلق بصفته الإنسانية وحدها بل يتوجب لثبوتها أن يكون هذا الشخص على قدر كاف من العقل والإدراك يسمح له بمعرفة نتائج أعماله والتبصر فيها وبهذا تختلف أهلية الوجوب عن أهلية الأداء فالأولى لا يشترط لتمامها وجود العقل أو الإدراك لدى الإنسان بل هي تتم لديه بمجرد ولادته ولا يؤثر فيها أي عارض من العوارض وأما أهلية الأداء فيتوقف اكتمالها على اكتمال العقل وهي تختلف قوة وضعفاً تبعاً له وعلى ذلك قد لا يتمتع الإنسان في بعض الحالات بأهلية الأداء بينما تكون له أهلية وجوب كاملة.
مراحل تطور الأهلية1:
1- طور الحمل: في هذه المرحلة يكون الإنسان جنينا في بطن أمه لم يخرج إلى عالم الوجود ومن العبث أن نبحث عن أهلية الأداء بالنسبة إليه أما بالنسبة لأهلية الوجوب فمن المفروض مبدئياً إلا يكون لها وجود بالنسبة للجنين لان الأهلية بعنصريها تعتبر صفة من صفات الشخصية والجنين لا يتمتع بالشخصية القانونية ولكن يؤخذ بعين الاعتبار أن الجنين سيولد في يوم ما وتصبح له شخصيته لذلك يعترف له منذ كونه جنيناً ببعض الحقوق الضرورية ويعتبر للجنين أهلية وجوب بالقدر الذي يستلزمه الحفاظ على مصالحه الضرورية والحقوق الضرورية التي يعتبر الجنين أهلاً لاكتسابها أربعة وهي: النسب والإرث والوصية والوقف ويحفظ نصيب الجنين من الوصية والإرث والوقف لحين ولادته حياً.
2- طور عدم التمييز:
وهو يبدأ منذ الولادة ويمتد حتى سن السابعة، وبالولادة تكتمل أهلية الوجوب لدى الإنسان ويصبح صالحاً لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات وتظل أهلية الوجوب كاملة في مختلف أطوار الحياة.
وأما أهلية الأداء فتكون معدومة لدى الطفل غير المميز لأن هذه الأهلية تبنى على العقل والإدراك والطفل غير المميز يفترض فيه انعدام العقل والإدراك في المعاملات والأمور القانونية و على هذا فجميع ما يباشره الطفل غير المميز بنفسه من الأعمال والتصرفات القانونية أياً كان نوعها لا عبرة له لأنه ليس أهلاً لإجرائه وقد نصت م /111/ على أنه:
$ (( ليس للصغير غير المميز حق التصرف في ماله، وتكون جميع تصرفاته باطلة)) ولكن الأعمال والتصرفات المتعلقة بحقوقه والتزاماته يستطيع ممارستها عنه ولحسابه نائب شرعي من ولي أو وصي.
3. طور التمييز:
وهو يمتد من سن السابعة حتى الثامنة عشر.
وفي هذا الطور يعتبر الإنسان في مرحلة وسط بين الإدراك التام من جهة وعدم الإدراك المطلق من جهة ثانية ويراعى بالنسبة لأهلية الصغير المميز هذان الاعتباران معاً: والقدر الذي يتمتع به الصغير من الإدراك يدعو ألا تحجب عنه كل ثقة وأن يسمح له مبدئياً بإجراء الأعمال والتصرفات ليستطيع اكتساب الخبرة إلا أن عدم اكتمال إدراكه ووعيه يدعو إلى ألا يسمح له بإجراء هذه التصرفات بصورة كاملة ومطلقة ولهذا يعتبر أن للإنسان في طور التمييز أهلية أداء ناقصة
وتقسم التصرفات القانونية إلى ثلاثة أقسام1:
تصرفات ضارة ضرراً محضاً:
وهي التي تعود على صاحبها بضرر أكيد دون أن تكسبه نفعاً لقائه وذلك كتبرع الإنسان بهبة لغيره.
تصرفات نافعة نفعاً محضاً:
وهي التي تعود على صاحبها بنفع أكيد دون مقابل يخسره.
وذلك كقبول الإنسان للهبة التي يتبرع له بها.
تصرفات دائرة بين النفع والضرر:
وهي التي يحتمل أن تجلب لصاحبها الربح كما يحتمل أن تجلب له الخسارة دون أن يدل نوعها بصورة أكيدة على نتائجها وذلك كالبيع أو الإجارة.......
ويمكن أن تقسم التصرفات الدائرة بين النفع والضرر إلى قسمين منها ما يرمي إلى المحافظة على المال وصيانته واستثماره أو الانتفاع به دون استهلاكه والتخلي عنه وهذه التصرفات $تدعى بأعمال الإدارة ومنها ما يؤدي إلى التصرف بالمال على وجه يجاوز حدود استثماره العادي وقد يعرض صاحبه بالتالي إلى ضرر يفوق الضرر الذي تعرضه إليه أعمال الإدارة ويسمى هذا النوع من التصرفات بأعمال التصرف.
أما حدود الأهلية للصغير المميز بالنسبة لهذه الأنواع من التصرفات فهي:
1- بالنسبة للتصرفات الضارة ضرراً محضاً:
لا يستطيع الصغير المميز إجرائها بحال من الأحوال وإذا صدرت عنه تعتبر باطلة ولا يترتب عليها أي أثر أي أن أهليته بالنسبة لهذه التصرفات معدومة كأهلية الصغير غير المميز.
2- بالنسبة للتصرفات النافعة نفعاً محضاً:
يحق للصغير المميز إجراؤها مطلقا وتعتبر صحيحة ونافذة متى صدرت عنه دون التوقف على أي أمر آخر أي أن أهليته بالنسبة لهذه التصرفات كاملة كأهلية الكبير الراشد.
3- بالنسبة للتصرفات الدائرة بين النفع والضرر:
يستطيع الصغير المميز إجراءها مبدئياً لأن له حداً من العقل والإدراك إلا أن عدم خبرته في المعاملات القانونية وقلة بصيرته توجبان حمايته مما قد تلحق به هذه التصرفات من ضرر.
ولهذا يحفظ له الحق في أن يعيد بعد بلوغه سن الرشد واكتمال أهليته النظر في تصرفاته هذه وأن يطلب إبطالها إذا شاء ( كما أن لنائبه الشرعي الحق في إجازة هذه التصرفات فتصبح صحيحة بصورة نهائية وغير قابلة للإبطال من قبل الصغير المميز بعد بلوغه سن الرشد، أو إبطالها فتنعدم ولا يعود هنالك مجال لإجازتها من أحد).
فأهلية الصغير المميز بالنسبة لهذه التصرفات تختلف إذن عن أهلية الصغير غير المميز كما تختلف في نفس الوقت عن أهلية الكبير الراشد, فهي تختلف عن أهلية الصغير $غير المميز من حيث أن التصرفات المحتملة للنفع والضرر التي يجريها الصغير المميز تعتبر منعقد لا باطلة بينما تعتبر تصرفات الصغير غير المميز باطلة أصلاً ولا ينتج عنها أي أثر قانوني, وهي تختلف عن أهلية الكبير الراشد من حيث أن هذه التصرفات تكون قابلة للإبطال, سواء من قبل نائبه الشرعي خلال نيابته عنه في فترة نقص أهليته أو من قبل الصغير المميز نفسه بعد بلوغه سن الرشد بينما لا يحق لأحد أن يطلب لنفس السبب إبطال التصرفات التي يجريها الشخص بعد رشده واكتمال أهليته.
ويزول حق الصغير المميز في طلب إبطال تصرفاته المحتملة للنفع والضرر بعد سنة من بلوغه سن الرشد حرصاً على استقرار المعاملات القانونية كما أنه يستطيع منذ بلوغه سن الرشد إجازة تصرفاته القابلة للإبطال وتثبيتها.
وإذا كانت أهلية الأداء لدى الصغير المميز ناقصة بالنسبة للتصرفات المحتملة للنفع والضرر بحيث تكون هذه التصرفات رغم انعقادها قابلة للإبطال, فإن هنالك نوعين من الحالات تعتبر فيها أهلية الأداء كاملة لديه بالنسبة لطائفة من هذه التصرفات:
فقط منحت المادة /169/ من قانون الأحوال الشخصية للصغير المميز الذي بلغ الثالثة عشر من عمره الحق في أن يتولى إدارة ماله الذي كسبه من عمله الخاص وتكون تصرفاته في هذا الشأن كتصرفات الكبير الراشد غير قابلة للإبطال على أن الصغير في هذه الحالة لا يكون ضامنا لديونه التي نشأت عن هذه الإدارة إلا بقدر ذلك المال الذي كسبه من عمله الخاص.
ومنحت المادتان /113/ من قانوننا المدني والمادة 164 من قانون الأحوال الشخصية للصغير المميز الذي بلغ الخامسة عشرة من عمره الحق في إدارة أمواله أيا ً كان منشأها.
متى أذن له بذلك من قبل القاضي. وكذلك يستطيع أيضاً مزاولة التجارة وهي من أعمال التصرف لا الإدارة شريطة أن يحوز على موافقة القاضي بالسماح له بمزاولتها.
على أن أهلية الصغيرين المذكورين لا تكون كاملة إلا بالنسبة للتصرفات التي يحددها لهما القانون وأما أهليتهما بالنسبة للتصرفات المحتملة للنفع والضرر الخارجة عن هذا النطاق فتظل ناقصة بحيث تكون هذه التصرفات قابلة للإبطال كما تظل أهليتهما بالنسبة للتصرفات الضارة ضرراً محضاً معدومة بحيث لا يحق لهما إجراءها بحال من الأحوال.
4- طــــور الرشــــد:
ويبدأ من الثامنة عشرة من العمر ويستمر لبقية الحياة وخلال هذا الطور يستطيع الشخص أن يجري.
1- التصرفات النافعة نفعاً محضاً كما في الطور السابق.
2- التصرفات الدائرة بين النفع والضرر بنوعيها سواء كانت أعمال الإدارة أو أعمال التصرف.
3- يستطيع إجراء التصرفات الضارة ضررا ًمحضاً التي كان يمتنع عليه إجراؤها سابقاً فيهب أو يتبرع فيما يشاء من أمواله.
وجميع ما يجريه من هذه التصرفات لا يكون باطلا ًأبداً لأنه يستند إلى أهليته ولا قابلاً للإبطال.
كما أن التصرفات المحتملة للنفع والضرر التي كان قد أجراها في طور التمييز ولم يبت بها نائبه الشرعي فيقرر إجازتها أو يطالب بإبطالها.
وقد أختار القانون المدني المصري سن (21) لبدء طور الرشد ولعل سن الثامنة عشرة التي اختارها القانون السوري هي الأكثر ملائمة لأنها السن التي يحق فيها للشخص تولي الوظائف العامة في الدولة فمن غير المعقول أن يتولى الوظائف العامة في الدولة أشخاص ناقصين الأهلية.
عوارض الأهلية:
تطرأ على الإنسان بعد اكتمال أهليته بعض العوارض التي تؤثر فيها فتحد منها أو تزيلها وينحصر أثر هذه العوارض في أهلية الأداء دون أهلية الوجوب وسنستعرض فيما يلي هذه العوارض.
1- المجنون والمعتوه:
هو الشخص الذي أصابه خلل في توازنه العقلي وانعدم تمييزه ويختلف أحدهما عن الآخر من حيث أن العته لا يرافقه اضطراب الجنون فهو أشبه ما يكون بنوع من الجنون الهادئ. وحكمهما هو حكم الصغير غير المميز وتنعدم لديهما أهلية الأداء تبعاً لانعدام تمييزهما فلا $يستطيع أي منهما إجراء أي نوع من التصرفات بنفسه وكل ما يجريه منها يعتبر باطلا ولا يعتد به من الوجهة القانونية1.
وتشترط المادة /115/ من القانون المدني لاعتبار تصرفات المجنون والمعتوه باطلة أن يكون التصرف قد صدر بعد صدور قرار بالحجر عليهما وشهره أما إذا صدر التصرف قبل شهر الحجر فلا يكون باطلاً إلا إذا كانت حالة العته أو الجنون شائعة وقت التعاقد أو كان الطرف الآخر على بينة منها.
واعتبرت المادة 200 من قانون الأحوال الشخصية أن المجنون والمعتوه محجوران لذاتهما دون أن يكون هنالك حاجة لصدور قرار بالحجر عليهما وبذلك تعتبر تصرفاتهما باطلة كتصرفات الصغير غير المميز لمجرد حدوث الجنون أو العته لا اعتباراً من شهر قرار الحجر.
2-السفيه والمغفل1:
السفيه بحسب م /200/ من قانون الأحوال الشخصية هو الشخص الذي (( يبذر أمواله ويضيعها في غير مواضعها بإنفاقه ما يعد من مثله تبذيراً)) سواء أكان هذا التبذير في وجوه الخير أو وجوه الشر.
أما المغفل بحسب المادة /200/ السابقة فهو الشخص الذي تغلب عليه الغفلة في أخذه وعطائه ولا يعرف أن يحتاط في معاملاته لبلاهته.
والسفيه والمغفل كلاهما لا يعتبران فاقدي التمييز والوعي كالصغير غير المميز أو المجنون $أو المعتوه وإنما هما يدركان الأمور والمعاملات القانونية ويميزان بينها ولكنهما لا يحسنان التصرف في أمورهما وحكم السفيه والمغفل هو حكم الصغير المميز غير أنه يشترط لاعتبارهما ناقصي الأهلية صدور قرار بالحجر عليهما من قبل القاضي الشرعي أما قبل صدور قرار الحجر وشهره فتكون جميع تصرفاتهما صحيحة وغير قابلة للإبطال إلا إذا كانت هذه التصرفات قد تمت نتيجة استغلال أو تواطؤ وهذا الحكم هو الذي نصت عليه المادة /116/ من القانون المدني وتطبيق حكم الصغير المميز على السفيه والمغفل يقتضي بطلان تصرفاتهما الضارة ضرراً محضاً وصحة تصرفاتهما النافعة نفعاً محضاً وقابلية تصرفاتهما الدائرة بين النفع والضرر للإبطال.
إلا أن للسفيه والمغفل خلافاً للصغير المميز الحق في إجراء الوصية أو الوقف متى أذنت لهما $المحكمة بذلك، هذا وقد أشارت المادة /117/ من القانون المدني إلى اعتبار (أعمال الإدارة الصادرة عن المحجور علية لسفه، المأذون له بتسلم أمواله، صحيحة بالحدود التي رسمها القانون ).
3- المحكوم عليه بعقوبة جنائية:
نصت المادة /50/ من قانون العقوبات أن كل محكوم عليه بالأشغال الشاقة أو الاعتقال يكون في حالة الحجر خلال تنفيذ عقوبته وكل عمل وإدارة وتصرف يقوم به المحكوم عليه ما عدا الأعمال المتعلقة بممارسة حقوقه الملازمة لشخصه يعتبر باطلا ً1.
فالمحكوم عليه بعقوبة جنائية لا يستطيع خلال تنفيذ عقوبته إجراء أي نوع من أنواع التصرفات والأعمال القانونية, وإذا أجرى شيئاً منها تعتبر تصرفاته باطلة ويستثنى من ذلك التصرفات المتعلقة بالحقوق الملازمة لشخص المحكوم عليه كالطلاق مثلاً والإقرار بالبنوة حيث تعتبر صحيحة متى صدرت عنه وتكون أهليته كاملة بالنسبة إليها.
وسبب انعدام الأهلية لدى المحكوم عليه بعقوبة جنائية لا يعود إلى سوء إدارته لأموره أو عدم إدراكه وإنما هو إجراء تأديبي يتفرع عن عقوبته الأصلية.
ولا شك أن هذا الإجراء ينطوي على شيء من القسوة وخاصة من حيث اعتبار المحكوم عليه بعقوبة جنائية في منزلة الصغير غير المميز والمجنون والمعتوه.
الأصم والأبكم والأعمى2:
نصت المادة: /118/ من القانون المدني على ما يلي:
(( إذا كان الشخص أصم أبكم، أو أعمى أصم، أو أعمى أبكم وتعذر عليه بسبب ذلك التعبير $عن إرادته، جاز للمحكمة أن تعين له مساعداً قضائياً يعاونه في التصرفات التي تقتضي مصلحته فيها ذلك. ويكون قابلا ًللإبطال كل تصرف من التصرفات التي تقررت المساعدة القضائية فيها متى صدرت من الشخص الذي تقرر مساعدته قضائياً إذا صدر التصرف بعد شهر قرار المساعدة )).
هذه الحالة ليست من حالات عوارض الأهلية ولهذا يعتبر الإنسان في هذه الحالة ذا أهلية أداء كاملة بحيث يستطيع أن يجري بمحض إرادته ومشيئته كافة التصرفات والأعمال القانونية أياً كان نوعها بما ذلك التصرفات الضارة ضرراً محضاً على أن يساعده في التعبير عن إرادته مساعد قضائي.
والتصرفات التي يجريها المصاب بعاهتين من هذه العاهات الثلاث بغير معاونة المساعد القضائي تكون قابلة للإبطال فيما إذا صدرت بعد شهر قرار المساعدة وكانت داخلة في حدود التصرفات التي تقررت المساعدة القضائية فيها, أما إذا كانت التصرفات قد تمت قبل صدور قرار المساعدة وشهره أو كان لا يشملها هذا القرار فلا مجال لإبطالها لنفس السبب.
النيابة الشرعية:
رأينا أن الإنسان لا يستطيع أبداً في حالة انعدام أهليته أن يتولى بنفسه إدارة شؤونه وأمواله أو إجراء أي نوع من التصرفات والأعمال القانونية المتعلقة بها وهو يستطيع ذلك في حالة نقص أهليته ولكن ضمن حدود وقيود.
والإنسان في جميع هذه الحالات بحاجة إلى أن يتولى شخص آخر كامل الأهلية رعاية مصالحه وشؤونه والإشراف عليها وأن ينوب عنه في إجراء التصرفات والأعمال القانونية أو أن يجيز ما يجريه منها إذا كانت من التصرفات التي تصح إجازتها ويسمى الشخص الذي يعهد إليه بالإشراف على شؤون غيره في هذه الحالات بالنائب الشرعي.
أنواع النيابة الشرعية:
الولاية: تكون الولاية على الصغير القاصر، وهو الذي لم يبلغ سن الرشد سواء أكان مميزا ًأو غير مميز1.
وهي تقسم إلى قسمين:
ولاية على النفس:
وتهدف إلى الإشراف على شؤون القاصر الشخصية وتعليمه وتطبيبه وتأديبه ونحو ذلك.
ولاية على المال:
وتهدف إلى الإشراف على شؤون القاصر المالية كإدارته ممتلكاته وأمواله واستثمارها.
وتعود الولاية على النفس والمال إلى الأب وفي حال عدم وجوده إلى الجد العصبي.
وفي حال عدم وجود الأب أو الجد العصبي تنفصل الولاية على النفس عن الولاية على المال وتنقلب الولاية على المال إلى وصاية وتبقى الولاية على النفس التي تعود حينئذ إلى الأقارب العصبات بأنفسهم بحسب ترتيبهم بالنسبة للإرث من الصغير فمن كان مقدما ًعلى غيره بالإرث كان مقدما ًعليه في الولاية على النفس.
الوصاية: وتكون على القاصر بالنسبة لأموره المالية لا الشخصية ولا تسمى الوصاية بهذا الاسم إلا إذا كانت لا تعود إلى الأب أو الجد العصبي أما إذا عادت إليهما فتسمى بالولاية على المال.
وتعود الوصاية على مال القاصر إلى الشخص الذي يعينه الأب أو الجد قبل وفاتهما على أن تثبت المحكمة بعد الوفاة هذه الوصاية.
وإذا لم يكن هنالك وصي فإن المحكمة الشرعية هي التي تعين الوصي وليس ضرورياً أن يكون الوصي على مال القاصر هو الولي نفسه وإن يكن من الممكن في أغلب الأحيان أن يعين الولي على النفس وصياً في نفس الوقت.
ويجوز بحسب المادة 19 من قانون الأحوال الشخصية تعيين ناظر مع الوصي المختار لمراقبته في شؤون القاصر.
القوامة: وتكون على المجنون والمعتوه والسفيه والمغفل.
الوكالة القضائية: وتكون على المفقود والغائب.
صلاحيات النائب الشرعي:
تختلف حدود هذه الصلاحيات بحسب أنواع التصرفات والأعمال القانونية التي يرغب النائب الشرعي في إجرائها وبحسب ما إذا كان هذا النائب الشرعي ولياً أو وصياً أو قيماً أو وكيلاً قضائياً1.
فالنسبة للتصرفات النافعة نفعاً محضاً يستطيع النائب الشرعي أياً كان إجرائها بينما لا يستطيع أحد من النواب الشرعيين إجراء التصرفات الضارة ضرراً محضاً بحال من الأحوال.
وأما بالنسبة للتصرفات الدائرة بين النفع والضرر فيستطيع النواب الشرعيون جميعاً إجرائها إلا أن بعض هذه التصرفات يحتاج النائب الشرعي لإجرائه إلى إذن من المحكمة.
والتصرفات التي لا يستطيع النائب الشرعي إجراءها بمفرده بل لا بد من أجلها من إذن المحكمة هي أكثر بالنسبة للوصي والقيم والوكيل القضائي منها بالنسبة للولي على المال الذي هو الأب أو الجد العصبي فهما يستطيعان مثلاً أن يجريا مبدئياً ودون الحاجة إلى إذن المحكمة أعمال التصرف بالنسبة لأموال القاصر بينما لا يستطيع الوصي أو القيم أو الوكيل القضائي ذلك إلا بإذن من المحكمة.
وعلى هذا نلاحظ:
أولاً: إن التصرفات النافعة نفعاً محضاً يحق للنائب الشرعي إجراءها ويحق أيضاً لناقص الأهلية أما عديم الأهلية فليس له مثل هذا الحق.
ثانياً: إن التصرفات الضارة ضرراً محضاً لا يحق لأحد إجراءها مطلقاً ويتساوى في ذلك عديم الأهلية وناقصها والنائب الشرعي والمحكمة.
ثالثاً: إن التصرفات الدائرة بين النفع والضرر يحق للنائب الشرعي إجراؤها ولا يحق لعديم الأهلية ذلك.
فبالنسبة لعديم الأهلية إذن يتولى نائبه الشرعي إجراء التصرفات النافعة نفعاً محضاً والتصرفات الدائرة بين النفع والضرر دون أن يستطيع عديم الأهلية إجراء شيء منها.
وأما ناقص الأهلية فيستطيع نائبه إجراء هذه التصرفات عنه كما يستطيع ناقص الأهلية أن يتولى إجراء هذه التصرفات تحت إشراف نائبه الشرعي الذي يكون له الحق في إجازتها أو إبطالها فيما إذا كانت دائرة بين النفع والضرر.
وإذا أجاز النائب الشرعي التصرفات الدائرة بين النفع والضرر التي يكون ناقص الأهلية قد أجراها بنفسه فإن هذه التصرفات تصبح صحيحة.
وأما إذا رفض النائب الشرعي إجازتها فتصبح باطلة ولا يعود لناقص الأهلية بعد اكتمال رشده إبطالها أو إجازتها.
والتصرفات التي يجريها النائب الشرعي إنما تعود آثارها ونتائجها على عديم الأهلية أو ناقصها الذي تجري هذه التصرفات لمصلحته وحسابه وهو وحده الذي يكتسب ما ينشأ عن التصرفات من حقوق ويتحمل ما يترتب عليها من التزامات بينما تنحصر مهمة النائب الشرعي في إجراء هذه التصرفات لحساب من ينوب عنه فقط دون أن يكون له نصيب في نتائجها وآثارها.
$وفي الختام ننوه إلى الملاحظتين الآتيتين:
الملاحظة الأولى:الأصل في الشخص كمال أهليته:
نصت عليه المادة /110/ من القانون المدني على أن: " كل شخص أهل للتعاقد ما لم تسلب أهليته أو يحد منها بحكم القانون".
وهذا يعني أن كمال الأهلية لدى الشخص هو الحالة الطبيعية وأن عدم الأهلية أو نقصانها عبارة عن حالات استثنائية.
كما أنه يعني أن التصرفات التي يجريها الشخص يفترض مبدئيا ًأنها قد صدرت عنه وهو كامل الأهلية وإذا ادعى أحد خلاف ذلك سواء أكان المدعي هو الشخص نفسه الذي أجرى التصرفات أو غيره فإنه يقع عليه عبء إثبات ما يدعيه.
فإذا طالب شخص بإبطال تصرف من تصرفاته الدائرة بين النفع والضرر بحجة أنه كان حين إجرائها ناقص الأهلية وادعى المتعاقد الآخر معه أن هذا التصرف قد أجراه صاحبه وهو كامل الأهلية فيؤخذ مبدئياً بقول من يدعي كمال الأهلية لأن هذا هو الأصل في الشخص.
الملاحظة الثانية: أهلية الشخص من النظام العام:
إن للمجتمع مصلحة أكيدة في تحديد أهلية كل فرد من أفراده ومدى صلاحيته لإجراء التصرفات والأعمال القانونية إضافة لتطبيق أحكام الأهلية بحذافيرها تطبيقاً دقيقاً.
ولهذا تعتبر الأهلية بحسب المادة /50/ من القانون المدني من النظام العام بحيث لا يجوز لأحد التنازل عنها أو التعديل في أحكامها فلا يستطيع كامل الأهلية مثلاُ أن يتفق مع آخر على التنازل عن أهليته واعتبار تصرفاته التي يجريها باطلة أو قابلة للإبطال لأن الشخص لا يملك الحق في أن يتصرف في أهليته كما يشاء.
الفرع الخامس
الذمــة الماليــة
مفهوم الذمة المالية:
تعرف الذمة المالية بأنها "مجموعة الحقوق والالتزامات المالية الحاضرة والمستقبلة التي تعود للشخص"1.
وهي تتألف من عنصرين:
عنصر ايجابي:
ويتضمن الحقوق المالية التي تكون للشخص سواء أكانت هذه الحقوق عينية كملكية الأشياء أو شخصية كالديون التي تترتب لصاحبها لدى غيره من الأشخاص.
عنصر سلبي:
وهو يتضمن الالتزامات المالية التي تترتب على الشخص كالالتزام مثلا بمبلغ من المال أو القيام بعمل.
_ والذمة المالية ليست عبارة عن الرصيد بين عنصري الحقوق والالتزامات وإنما هي عبارة عن مجموعهما معاً, فكأن هذه الحقوق والالتزامات جميعاً تؤلف وحدة قائمة بذاتها أو مجموعة قانونية يطلق عليها اسم الذمة المالية.
كما أن الذمة المالية لا تقتصر على الحقوق والالتزامات المالية العائدة للشخص في وقت من الأوقات فقط بل تتضمن أيضاً الحقوق والالتزامات المقبلة. فهي أشبه بوعاء تنصب فيه الحقوق والالتزامات التي تتغير باستمرار فيزول بعضها ويتغير بعضها لكن دون أن يؤثر ذلك على مفهوم الذمة المالية نفسها.
والذمة المالية لا تشمل سوى جانب من الحقوق والالتزامات التي تعود للشخص وهي الحقوق والالتزامات ذات القيمة المالية فقط, أما الحقوق والالتزامات غير المالية فلا تعتبر من عناصر الذمة المالية.
صلة الذمة المالية بالشخصية وخصائصها:
$ترتبط الذمة المالية بالشخصية ارتباطاً وثيقاً وتعتبر خاصة من خصائصها ومن أهم خصائص الذمة المالية ما يلي1:
أولاً: الذمة المالية لا توجد إلا تبعاً لوجود الشخصية وليس هنالك من ذمة مالية بدون شخص تتعلق به وتعود إليه الحقوق والالتزامات التي تحويها.
وقد ناقش الفقهاء الألمان هذا الموضوع وبينوا أنه قد توجد هنالك مجموعات من الأموال تؤلف ذمماً مالية مستقلة دون أن تعود لشخص من الأشخاص وبالرغم من افتراض وجود $شخصية اعتبارية لهذه المجموعات، كما هو الحال بالنسبة للمؤسسات مثلاً أو الوقف فمن الممكن أحياناً اعتبارها ذات ذمة مالية دون حاجة لمنحها الشخصية القانونية.
ثانياً: كما أنه لا يمكن وجود ذمة مالية دون شخصية قانونية ترتبط بها وتعود إليها فكذلك لا يمكن وجود شخصية قانونية دون ذمة مالية تضم حقوقها والتزاماتها وتمثل الجانب المالي منها.
وفي الواقع لا بد لكل شخص من أن يتمتع حتماً بالذمة المالية ولا يمكن انعدام هذه الذمة لدى أحد من الأشخاص.
فمن الوجهة العملية نلاحظ أن الشخص مهما قلت موارده وتناقصت الحقوق التي يتمتع بها أو الالتزامات التي تترتب عليه لا بد له لاستمرار بقائه ووجوده من أن يكون له أو عليه بعض الحقوق أو الالتزامات.
وأما من الوجهة النظرية: فلو فرضنا خلو الذمة المالية من الحقوق والالتزامات في فترة من الفترات فإنها لا تنعدم بانعدام هذه الحقوق والالتزامات لأن الذمة المالية لا تشمل الحقوق و الالتزامات القائمة فقط بل تشتمل أيضاً الحقوق والالتزامات المقبلة.
ثالثاً:وإذا كان لا بد لكل شخص من ذمة مالية فإن هذه الذمة لا يجوز التنازل عنها بكاملها أو عن جزء شائع منها وإن يكن من الممكن التنازل عن بعض أعيانها ومفرداتها أو عن جميع هذه الأعيان والمفردات دفعة واحدة، حيث يستطيع الشخص أن يتخلى عن جزء من الحقوق والالتزامات التي تحويها ذمته أو عن جميع الحقوق والالتزامات القائمة في وقت من الأوقات دون أن يكون قد تخلى عن ذمته لأنها تبقى قائمة بالرغم من خلوها من محتوياتها ومفرداتها.
ومن هنا يظهر أن الشخص لا يمكن أن يكون له خلال حياته إلا خلف خاص، أما بعد الوفاة فيمكن أن يكون له خلف خاص وخلف عام.
والخلف الخاص: هو الذي يتلقى عن سلفه ملكية شيء معين مادي أو معنوي أو حقاً عينياً على هذا الشيء.
والخلف العام: فهو الذي يخلف السلف في ذمته المالية أو في جزء شائع منها.
ولما كان لا يجوز التنازل عن الذمة المالية أو عن جزء شائع منها أثناء حياة صاحبها فإن $الشخص لا يكون له خلال حياته خلف عام وإنما يكون له خلف خاص كالمشتري الذي يعتبر خلفاً خاصاً للبائع في ملكية الشيء المبيع، أما بعد الوفاة فتتحدد الذمة المالية وتنقلب إلى تركة تؤول إلى مستحقيها من الورثة, والموصى لهم, فالوارث والموصى له بجزء شائع من التركة كالموصى له بربع التركة مثلاً أو ثلثها, يعتبران بمثابة خلف عام للمورث لأنهما يخلفانه في ذمته المالية التي انقلبت إلى تركة أو في أجزاء شائعة منها, أما الموصى له بأعيان معينة من التركة فيعتبر خلفاً خاصاً للمتوفى لأنه لا يخلفه في ذمته المالية أو في جزء شائع منها وإنما هو يخلفه في بعض أعيانها ومفرداتها.
رابعاً: كما أن الشخص لا يمكن أن يكون بدون ذمة مالية أو بذمة مالية ناقصة وكذلك لا يمكن أن تكون له أكثر من ذمة مالية واحدة.
حيث أنه حتى لو تعددت فعاليات الشخص ونشاطه القانوني ومشاريعه فلا يمكن أن يخصص لكل مشروع منها ذمة مالية خاصة به وإنما تكون له ذمة مالية واحدة تنصب فيها جميع حقوقه والتزاماته المالية أياً كان مصدرها.
فائدة الذمة المالية وآثارها:
يستخلص أنصار فكرة الذمة المالية من افتراض وجودها الأثرين التاليين1:
أولاً: إن الديون والالتزامات التي تترتب على الشخص لا تتعلق بقسم معين من أمواله بل هي تتعلق بذمته كلها التي تعتبر ضامنة لوفائها.
أو بعبارة أصح: إن ديون الشخص أو التزاماته المالية التي تؤلف العنصر السلبي من ذمته إنما تكون مضمونة كلها بجميع أمواله التي تشكل العنصر الإيجابي في هذه الذمة. ولما كانت $الذمة المالية تشمل أموال الشخص جميعها, فإن حق الدائن في استيفاء دينه لا يقتصر على مال معين للمدين, وإنما هو يشمل أمواله جميعها أياً كان تاريخ ترتب ذلك الدين أو اكتساب هذه الأموال كما يشاركه في هذا الحق جميع أصحاب الديون الأخرى.
فلو فرضنا أن أموال المدين تنقص عن ديونه، فإن هذه الأموال توزع على الدائنين جميعاً بنسبة ديونهم إلا إذا كان لأحد الدائنين حق عيني تبعي على بعض أموال مدينه كحق الرهن مثلاً, فإن لصاحب الحق العيني التبعي الأفضلية في استيفاء دينه من المال الذي يقع عليه حقه العيني باعتبار أن دينه بالإضافة إلى تعلقه بذمة المدين المالية بصورة عامة قد تعلق أيضاً ببعض مفردات هذه الذمة.
ثانياً: لما كانت الديون والالتزامات التي ترتب على الشخص تتعلق بذمته المالية لا بأعيانها ومفرداتها، فإن الشخص يستطيع أن يتصرف بأمواله كما يشاء دون أن تحد ديونه من حريته في التصرف.
غير أن المدين الذي يملك حرية التصرف بأمواله قد يسيء أحياناً هذا التصرف إما عن تهاون منه أو تواطؤ مع غيره فيؤدي إلى إفقار نفسه والإنقاص من ذمته المالية وهذا يؤثر على حقوق الدائنين المتعلقة بهذه الذمة لذلك يحفظ لهؤلاء الحق في مثل تلك الحالات باتخاذ بعض التدابير التي تكفل لهم المحافظة على حقوقهم وصيانتها.
انقضاء الذمة المالية:
تنقضي الذمة المالية مبدئياً بوفاة صاحبها التي تؤدي إلى انقضاء شخصيته القانونية وبذلك تتحدد نهائياً أموال الشخص وديونه فتخصص هذه الأموال لوفاء ديون المتوفى أولاً ثم يوزع الفائض على الموصى لهم والورثة ويؤول إليهم بشكل تركة.
أما إذا زادت ديون المتوفى على أمواله فتوزع على الدائنين بحسب نسبة ديونهم ولا يتحمل الورثة بحسب الشريعة الإسلامية أياً من تلك الديون.
الفرع السادس
المـــــوطن
تعريف الموطن وأهميته:
يعرف الموطن بأنه ((مكان معين تكون للشخص صلة به تسمح باعتباره موجوداً فيه بصورة دائمة، بحيث يجوز لمن يريد أن يعامله قانونيا ًأو قضائياً أن يوجه إليه الخطاب في ذلك المكان فيعتبر عالماً بذلك الخطاب ولو لم يعلم به بالفعل))1.
أو بتعبير آخر هو: " المقر الذي يكون للشخص في نظر القانون ".
ويقسم الموطن إلى:
موطن عام: يشمل كافة أمور الشخص ومعاملاته القانونية.
وموطن خاص: يقتصر على بعض هذه الأمور والمعاملات
ويعتبر الموطن عنصراً هاماً من عناصر الشخصية إذ أنه يمكن من تحديدها بصورة دقيقة وتعيين مقرها وتبدو فائدة الموطن من الجهة القانونية في نواحي عديدة:
أولاً:إن المحكمة المختصة للنظر في الدعاوى المتعلقة بالمنقولات أو بالحقوق الشخصية هي في الأصل المحكمة التي يقع في دائرتها موطن المدعى عليه وعلى هذا لو أراد الدائن مثلاً أن يرفع الدعوى على مدينه فعليه أن يرفعها أمام محكمة موطن هذا المدين.
ثانياً: إن التبليغات القانونية، كالمذكرات والإنذارات ونحوها تبلغ عادة إلى الشخص الموجهة إليه في موطنه فيعتبر عالماً بها ولو لم تسلم إليه بالذات.
ثالثاً: وإلى جانب ما ذكرنا هنالك فوائد أخرى للموطن مثل أن استيفاء الديون وتأديتها يجريان في الأصل في المكان الذي يكون فيه موطن المدين وقت الوفاء وأن التركات والتفليسات يجري فتحها أمام السلطة المختصة التي يقع في دائرتها موطن المتوفى أو موطن أعمال التاجر المفلس.
تحديد الموطن العادي وتغييره:
اختلفت الشرائع في كيفية تحديد الموطن وفي جواز تعدده أو عدمه:
فالشرائع الانكلوسكسونية:
تعتبر أن لكل شخص موطناً أصلياً وهو الموطن الذي ينتسب إليه بحكم القانون منذ ولادته، ويمكن للشخص الاحتفاظ بهذا الموطن ويمكن له تغييره، وبحسب هذه الشرائع فإن للشخص موطن ينسب له ولا يمكن أن يكون له أكثر من موطن واحد.
أما الشرائع اللاتينية:
فتعتبر أن موطن الشخص هو المكان الذي يوجد فيه مركز أعماله الرئيسي وهي بذلك تفرق بين الموطن من جهة ومحل الإقامة من جهة, كما أنها تعتبر أنه لا يمكن أن يكون للشخص أكثر من موطن واحد ومع ذلك فقد حاول القضاء الاعتراف بتعدد المواطن في بعض الحالات.
وأما الشريعة الألمانية:
فهي أكثر واقعية إذ تعتبر أن موطن الشخص هو المكان الذي يقيم فيه عادة أي هو محل الإقامة نفسه وهي ترى أنه يمكن أن يكون للشخص الواحد عدة مواطن.
وقد تبنى القانون المدني السوري والمصري المبدأ الذي أخذت به كل من الشريعتين والإسلامية والألمانية فنص في المادة 42 أن: ((الموطن هو المكان الذي يقيم فيه الشخص عادة، ويجوز أن يكون للشخص في وقت واحد أكثر من موطن، كما يجوز أن لا يكون له موطن ما)).
ويلاحظ من ذلك أنه لا يكفي أن يقيم الشخص في مكان ما ليعتبر هذا المكان موطناً له بل يجب أن تكون لديه نية الاستيطان أو الإقامة، فالشخص الذي يقضي عطلته في مكان معين لا يعتبر أنه قد اتخذ من هذا المكان موطناً له ما دام لا يبغي فيه سوى الإقامة المؤقتة.
غير أن إقامة الشخص بنية الاستيطان في مكان ما لا يعني أن هذا الشخص عليه أن يقيم في ذلك المكان بصورة مستمرة ودائمة دون أن يغادره أبداً.
أما إذا لم يعد الشخص يقيم فعلاً في المكان الذي كان يقيم فيه أو لم تعد لديه نية الاستيطان فتزول عندها عن هذا المكان صفة الموطن.
وأما إذا انتقل الشخص إلى موطن جديد, ولكن دون أن يترك الإقامة في موطنه السابق فلا يعتبر أنه غير موطنه القديم بل يكون قد اتخذ لنفسه موطناً جديداً إضافة لموطنه القديم.
الموطن القانوني:
للشخص ملء الحرية في أن يختار لنفسه الموطن الذي يريد وأن يغير موطنه متى يريد إلا أن القانون قد يتولى أحياناً وبالنسبة لبعض الأشخاص تحديد مواطن لهم يفرضها عليهم ويلزمهم بها.
وتحديد الموطن القانوني أمر استثنائي لا يجوز أن يتم إلا بنص صريح في القانون وتفرض الشرائع المختلفة المواطن القانونية على الأشخاص استناداً إلى اعتبارات متعددة ومنها بصورة خاصة ارتباط الشخص بمكان معين (كارتباط الموظف بمكان وظيفته) أو ارتباطه بشخص آخر يتولى شؤونه (كارتباط القاصر بنائبه الشرعي) كما أن بعض هذه الشرائع تعتبر أن الموطن القانوني للزوجة هو موطن زوجها والأشخاص الذين فرض عليهم القانون المدني السوري المواطن القانونية هم:
1 ـ الموظفون العامون.
2 ـ الأشخاص الحائزون على كامل الأهلية الذين يشتغلون عند الغير ويقيمون معه.
3 ـ القاصرون ومن في حكمهم.
أولاً: الموطن القانوني بالنسبة للموظفين العامين:
نصت الفقرة الثانية من المادة /43/ من القانون المدني على أن (( موطن الموظفين العامين هو المكان الذي يمارسون فيه وظائفهم)).
ويبنى الموطن في هذه الحالة على ارتباط الموظف بمكان معين هو المكان الذي يمارس فيه وظيفته، ولو لم يكن يقيم فيه بالفعل.
ويلاحظ أن هذا النص لا يشمل إلا الموظفين العامين أي موظفي الدولة فقط أما موظفو الشركات والمؤسسات الخاصة فليس لهم موطن قانوني وإنما لهم موطن عادي يحدد تبعاً لمحل إقامتهم ويمكن الاستغناء عن هذا النص واعتبار أن الموظفين العامين غالباً ما يقيمون في نفس المناطق التي يمارسون فيها وظائفهم.
ثانياً: بالنسبة لكاملي الأهلية الذين يشتغلون عند الغير ويقيمون معه:
نصت الفقرة الثالثة من المادة السابقة على أن (( الأشخاص الحائزون على كامل الأهلية الذين يخدمون أو يشتغلون عند الغير يعتبر موطنهم موطن من يستخدمهم إذا كانوا يقيمون معه في منزل واحد)).
ويبنى الموطن في هذه الحالة على ارتباط المستخدم الحائز على الأهلية الكاملة بشخص آخر هو الشخص الذي يشتغل عنده من جهة وعلى إقامته معه في منزل واحد من جهة ثانية، أما إذا كان هذا المستخدم لا يقيم مع الشخص الذي يشتغل عنده في منزل واحد لا يكون له موطن قانوني عند هذا الشخص وإنما يكون له موطن عادي في المحل الذي يقيم فيه.
ويلاحظ في هذه الحالة أن تحديد الموطن القانوني إنما يتوقف على إقامة المستخدم مع من يعمل معه في منزل واحد فلو لم نفترض وجود موطن قانوني للمستخدم لكان له موطن عادي هو نفس المحل الذي يقيم فيه.
ثالثاً: بالنسبة للقاصرين ومن في حكمهم:
نصت المادة /44/ من القانون المدني على ما يلي:
" 1 ـ موطن القاصر والمحجور عليه والمفقود والغائب هو موطن من ينوب عن هؤلاء قانوناً.
2 ـ ومع ذلك يكون للقاصر الذي بلغ خمس عشرة سنة ومن في حكمه موطن خاص بالنسبة إلى الأعمال والتصرفات التي يعتبره القانون أهلاً لمباشرتها)).
وقد تضمنت الفقرة الثانية من المادة السابقة استثناءً يتعلق بالقاصر الذي بلغ خمس عشرة سنة $ومن في حكمه حيث اعتبرت له موطناً خاصاً بالنسبة للأعمال والتصرفات التي يعتبره القانون أهلاً لمباشرتها.
فقد مر معنا في بحث الأهلية أن القاصر الذي بلغ خمسة عشرة سنة من عمره قد يؤذن له باستلام أمواله أو بعضها وبإجراء بعض التصرفات الدائرة بين النفع والضرر بنفسه دون مساعدة النائب الشرعي.
فيعتبر أن للقاصر في هذه الحالة (ولمن في حكمه كالسفيه والمغفل والقاصر الذي بلغ الثالثة عشرة من عمره) موطناً خاصاً مستقلاً عن موطن نائبه الشرعي فيما يتعلق بهذه الأعمال والتصرفات التي يعتبر أهلاً لمباشرتها بنفسه.
وأما الأعمال والتصرفات التي لا يشملها الإذن الشرعي فيظل لهذا القاصر ومن في حكمه موطن قانوني بالنسبة إليها هو موطن نائبه الشرعي.
موطن الأعمال:
نصت الفقرة الأولى من المادة /43/ من القانون المدني على أنه:
(( يعتبر المكان الذي يباشر فيه الشخص تجارة أو حرفة موطناً بالنسبة إلى إدارة الأعمال المتعلقة بهذه التجارة أو الحرفة)).
ومعنى ذلك أن التجار وأصحاب الحرف لهم بالإضافة إلى موطنهم العادي العام الذي يحدد في محل إقامتهم موطن خاص في المكان الذي يباشرون فيه تجارتهم أو حرفتهم.
فلو فرضنا أن شخصاً يقيم في دمشق مثلاً وله متجر في الزبداني، فيكون لهذا الشخص موطنان، موطن خاص في الزبداني فيما يتعلق بأعمال تجارته فقط، وموطن عام في دمشق $بالنسبة لسائر شؤونه ومعاملاته وبذلك فإن القانون المدني لم يجز فقط تعدد الموطن بل أجاز تجزئته بأن جعل بعض المواطن قاصرة على نوع معين من الأعمال دون غيره.
الموطن المختار:
تعريفه وأهميته:
نصت المادة /45/ من القانون المدني على أنه:
(( يجوز اتخاذ موطن مختار لتنفيذ عمل قانوني معين))
فالموطن المختار عبارة عن موطن خاص يتعلق بعمل معين وهو بهذا يشابه موطن الأعمال الذي يعتبر بدوره من المواطن الخاصة.
وللموطن المختار فائدة كبرى في تسهيل الإجراءات والمعاملات القانونية1.
كما لو تعاقد تاجر من دمشق فرضاً مع تاجر آخر من حلب على صفقة لشراء كمية من القطن, واتفقا في العقد على أن موطن شخص معين في دمشق يعتبر الموطن المختار بالنسبة لهذه الصفقة, فحين يقوم نزاع قانوني بين التاجرين الدمشقي والحلبي حول الصفقة المذكورة لا يكون التاجر الدمشقي مضطراً إلى أن يجري التبليغات القانونية إلى موطن التاجر الآخر في حلب أو أن يرفع عليه دعوى أمام محاكمها, بل يستطيع أن يجري التبليغات إلى الموطن المختار لدى الشخص المعين في دمشق, كما يستطيع أن يرفع الدعوى أمام محاكم دمشق باعتبارها المحاكم التي يقع في دائرتها هذا الموطن المختار.
آثار الموطن المختار:
نصت الفقرة الثالثة من المادة 45 على أن:
" الموطن المختار لتنفيذ عمل قانوني يكون هو الموطن بالنسبة إلى كل ما يتعلق بهذا العمل بما في ذلك إجراءات التنفيذ الجبري, إلا إذا اشترط صراحة قصر هذا الموطن على أعمال دون أخرى ".
فالموطن المختار بالنسبة لعمل يشمل أثره إذن كل ما يتعلق بهذا العمل إلا ما استثني صراحة منه.
$وأهم آثار الموطن المختار وهما: الأثران اللذان لاحظناهما في المثال السابق:
1 ـ إن المحكمة التي يقع في دائرتها الموطن المختار تكون مختصة للنظر في الدعاوى المتعلقة بالعمل الذي اختير لأجله هذا الموطن.
2 ـ إن التبليغات القانونية والقضائية المتعلقة بهذا العمل يمكن أن تجري في الموطن المختار بدلاً من الأصلي.
إثبات الموطن المختار:
نصت الفقرة الثانية من المادة /45/ من القانون المدني على أنه:
((لا يجوز إثبات وجود الموطن المختار إلا بالكتابة)).
الفصل الثاني
الشخص الاعتباري
إذا كان كل إنسان في عصرنا يتمتع بالشخصية القانونية التي تؤهله لأن يكون طرفاً موجباً أو سالباً من أطراف الحق، فإن هذه الشخصية لا تثبت للإنسان وحده. بل هناك إلى جانب الإنسان، كشخص طبيعي، شخص من نوع آخر يطلق عليه اسم الشخص الاعتباري أو المعنوي، وهو ينشأ عن تكتل جماعات من الناس حول هدف معين كالجمعيات الخيرية والشركات أو تخصيص مجموعات من الأموال لغرض محدد كالمؤسسات.
وسنحاول فيما يلي دراسة هذا الشخص الاعتباري الذي يؤلف النوع الثاني من الأشخاص أطراف الحق. فندرس أولاً مفهومه وفائدته وطبيعته القانونية ومقومات وجوده، ثم نعرض بعد ذلك الحقوق والخصائص التي يتمتع بها والتي تسلتزمها شخصيته كما نبين أخيراً أنواعه المختلفة وخاصة ما يتصل بالقانون المدني.
وبذلك يتضمن هذا الفصل الفروع التالية:
الفرع الأول: مفهوم الشخصي الاعتباري وطبيعة وجوده
الفرع الثاني: حقوق وخصائص الشخص الاعتباري
الفرع الثالث: أنواع الشخص الاعتباري
الفرع الأول
مفهوم الشخص الاعتباري وفائدته:
الشخص الاعتباري يسمى شخصاً لأنه في نظر القانون بمثابة الشخص العادي من حيث أنه يستطيع أن يكون طرفاً موجباً أو سالباً من أطراف الحق، ولكنه اعتباري أو معنوي لأن شخصيته ليست حقيقية أو طبيعية كشخصية الإنسان1.
وتظهر فائدة فكرة الشخصية الاعتبارية التي تسبغ على مجموعات الأشخاص والأموال من حيث أنها تحقق لهذه المجموعات كياناً مستقلاً قائماً بذاته وتمكنها من إجراء الأعمال والتصرفات القانونية باسمها مباشرة لا باسم أعضائها أو مؤسسيها. فلو لم تكن الجمعية مثلاً شخصاً اعتبارياً لكان من الواجب أن تجرى التصرفات باسم أعضائها جميعاً وأن ترفع الدعاوى من قبل هؤلاء الأعضاء أو عليهم جميعاً و لاختلطت أموال الجمعية بأموال أعضائها واعتبرت جزءاً من ذممهم المالية يستطيع دائنوهم الشخصيون الحجز عليها واستيفاء ديونهم منها وهذا كله يؤدي إلى تعقيد وتشابك كبيرين في معاملات الجمعية وعلاقاتها القانونية لا سبيل إلى تجنبهما إلا بمنحها الشخصية المستقلة
وفكرة الشخصية الاعتبارية تنطوي على شيء من الخطورة التي جعلت المشرع يقف تجاهها موقف الحذر والشك ويعمل على الحد منها وتضييقها وذلك لأن التكتلات التي تنشأ عن اجتماع عدد من الأشخاص قد تؤدي إلى التأثير في الحياة الاجتماعية بل وفي الحياة السياسية نفسها داخل الدولة.
الطبيعة القانونية للشخص الاعتباري:
نستطيع دراسة هذا الموضوع من خلال الثلاث نظريات التالية:
1 - نظرية الافتراض القانوني:
وتقوم هذه النظرية على الاعتقاد بأن الشخصية الطبيعية التي يتمتع بها الإنسان هي وحدها التي تعتبر حقيقة واقعة, أما الشخصية الاعتبارية فليس لها وجود حقيقي وإنما هي مجرد افتراض قانوني مفيد.
فالشخص الذي يصلح أن يكون طرفاً من أطراف الحق هو الكائن ذو الإرادة وليس هنالك من كائن يتمتع بالإرادة الحقيقية سوى الإنسان.
ويتبع ذلك أن أمر الشخصية الاعتبارية منوط بكامله بإرادة المشرع وحده، فالمشرع هو الذي يوجد الشخصية الاعتبارية ويفترضها وإذا لم يقرر المشرع منح هذه الشخصية لمجموعة من الأشخاص أو الأموال فلا يمكن أن تعتبر هذه المجموعة شخصاً اعتبارياً.
والمشرع يستطيع أن يحدد مدى هذه الشخصية الاعتبارية ونشاطها وحقوقها وأهليتها، وهي لا تتمتع من ذلك مبدئياً إلا بمقدار ما يمنحها إياه هذا المشرع.
كما أن المشرع يستطيع أخيراً أن يسلب هذه الشخصية الاعتبارية بعد منحها وأن يمحوها ويزيلها من الوجود.
وقد وجهت لهذه النظرية عدة انتقادات1:
1- إن الأساس الذي قامت عليه هذه النظرية أساس خاطئ فقد اعتبرت أن الشخص من الوجهة القانونية هو الكائن ذو الإرادة ورفضت بالتالي اعتبار الشخص الاعتباري شخصاً حقيقياً لعدم توافر هذه الإرادة، بينما نجد أن عنصر الإرادة ليس ضرورياً لاكتساب الشخصية، فالمجنون والصغير متمتعان بالشخصية الكاملة بالرغم من انعدام إرادتهما.
2- إن هذه النظرية تبدو غير صحيحة عندما نفسر بها كيف اكتسبت الدولة شخصيتها الاعتبارية، فلا نستطيع أن نقول أن المشرع هو الذي منحها إياها، لأن الدولة تتمتع بهذه الشخصية من قبل أن يوجد المشرع وهذا يناقض ما تراه هذه النظرية.
3- إن هذه النظرية تؤدي إلى منح الدولة سلطات مطلقة للتحكم في أمر الشخص الاعتباري وهذا من شأنه التضييق والحد من انتشار هذا الشخص الاعتباري الذي تزداد أهميته وضرورته بصورة مستمرة في عصرنا الحاضر.
2 - نظرية الشخصية الحقيقية:
إن الشخص الاعتباري بحسب هذه النظرية ليس مجرد وهم وافتراض لا يقوم إلا بإرادة المشرع، وإنما هو حقيقة واقعة تفرض نفسها على المشرع نفسه وتعتبر موجودة من تلقاء ذاتها دون أن تنتظر منه الاعتراف بوجودها وقد سلك أنصار هذه النظرية في تبرير هذه النظرية مذهبين وهما:
1- مذهب الإرادة المشتركة:
ويرى فقهاء هذا المذهب أن تعريف الشخص بحسب المذهب الفردي على أنه الكائن ذو الإرادة لا ينطبق فقط على الإنسان وحده وإنما ينطبق أيضاً على الشخص الاعتباري الذي يتمتع بالإرادة الحقيقية كما يتمتع بها الشخص الطبيعي.
فالشخص الاعتباري له كيان قائم بذاته وإرادة مستقلة هي الإرادة المشتركة لمجموع أعضائه. وهذه الإرادة المشتركة ليست إرادة كل منهم ولا مجموع إرادتهم، وإنما هي إرادة خاصة بالشخص الاعتباري تختلف عن كل إرادة سواها.
2- مذهب المصالح المشتركة:
انطلق أنصار هذا المذهب من تعريف للحق يختلف عن تعريف أصحاب المذهب الفردي, فالحق ليس القدرة الإرادية وإنما هو مصلحة مشروعة يحميها القانون فحيثما توجد مصلحة مشروعة يكون هنالك حق لصاحب هذه المصلحة ويكون صاحب هذه المصلحة نفسه شخصاً من الأشخاص باعتباره صاحب حق أو طرفاً من أطرافه.
غير أن المصالح القائمة في المجتمع ليست كلها مصالح فردية تعود إلى الشخص الطبيعي وإنما هنالك أيضاً مصالح مشتركة يحرص على تحقيقها الشخص الاعتباري وهذه المصالح المشتركة ليست عبارة عن مجموع المصالح الفردية للأشخاص الذين يؤلفون الشخص الاعتباري, وإنما هي مصالح خاصة بهذا الشخص الاعتباري نفسه ومتميزة عن مصالح أفراده بل هي قد تخالف مصالح هؤلاء الأفراد أحياناً وتناقضها.
وما دامت هنالك مصالح مشتركة فيجب أن تكون لمجموعة الأشخاص أو الأموال التي تعود إليها هذه المصالح شخصية مستقلة كشخصية الإنسان التي تقتضيها المصالح الفردية وعلى هذا فإن الشخصية الاعتبارية والشخصية الطبيعية ليس بينهما اختلاف لأن كلاً منهما تبنى على فكرة المصلحة.
والنتيجة الرئيسية التي تسعى هذه النظرية للوصول إليها هي الاعتراف بوجود الشخصية الاعتبارية بمجرد توافر عناصرها دون أن يتوقف ذلك على إرادة المشرع.
3 - نظرية الملكية المشتركة:
لا تستهدف هذه النظرية إيجاد تفسير لطبيعة الشخص الاعتباري وإنما هي تنفي وجود هذا الشخص من أساسه وتعتبره مفهوم غير ضروري يمكن الاستغناء عنه.
فبرأي أصحاب هذه النظرية أن فكرة الشخص الاعتباري قد افتُرضت لكي يمكن أن تسند إلى هذا الشخص الأموال المخصصة لغرض معين.
وقد بين أصحاب هذه النظرية أن فكرة الملكية المشتركة التي يأخذون بها في هذا المجال هي فكرة مختلفة عن الملكية الفردية من جهة وعن الملكية الشائعة من جهة ثانية ففي الملكية الفردية يستطيع المالك أن يتصرف بأمواله وفي الملكية الشائعة يستطيع المالك أيضاً أن يتصرف في حصته الشائعة كما يستطيع أن يطالب بقسمة المال لإنهاء حالة الشيوع والاستعاضة عنها بالملكية الفردية، أما في الملكية المشتركة فليس لأحد من المالكين شيء من ذلك1.
وقد وجهت عدة انتقادات لهذه النظرية أهمها:
أ- أخطأت هذه النظرية حين اقتصرت في نظرها إلى الشخص الاعتباري على ناحيته المالية فقط، ولم تجد فيه إلا مالكاً لمجموعة من الأموال.
ب- لو فرضنا أنه من الممكن الاستعاضة عن فكرة الشخص الاعتباري بفكرة الملكية المشتركة فإن هذه الفكرة الأخيرة نفسها غامضة وغير واقعية, إذ كيف نستطيع أن نخص أو نحدد الأشخاص المالكين ملكية مشتركة للأموال التي تخصص لغرض معين.
ج - إن التخلي عن فكرة الشخص الاعتباري والاستعاضة عنها بفكرة الملكية المشتركة يعني التخلي عن جميع المزايا والفوائد التي تبنى على الاعتراف بوجود هذا الشخص الاعتباري.
مقومات الشخص الاعتباري ووجوده
مقومات الشخص الاعتباري:
لكل شخص اعتباري سواء اعتبرناه حقيقة واقعة أو مجرد افتراض قانوني مقومات لا يتم كيانه ووجوده بدونها وهذه المقومات هي:
أولاً: وجود مجموعة من الأشخاص كما في الجمعيات مثلاُ أو مجموعة من الأموال كما في المؤسسات.
ثانياً: أن يكون لهذه المجموعة من الأشخاص أو الأموال غرض ثابت معين يتكتل حوله أفراد المجموعة أو ترصد الأموال لتحقيقه ويجعل من هذه المجموعة وحدة متماسكة تشكل كياناً قائماً بذاته.
ثالثاً: أن تكون لهذه المجموعة من الأشخاص أو الأموال تنظيم خاص تعين بموجبه الهيئة أو الهيئات التي تمثلها وتعبر عن إرادتها وتعمل باسمها ولحسابها وبدون هذا التنظيم لا تستطيع هذه المجموعة من الأشخاص أو الأموال الدخول في الحياة القانونية وإجراء التصرفات بصورة مستقلة.
نشوء الشخص الاعتباري وزواله:
إن هذا النشوء يتم بعمل إرادي يتبعه إعلان وشهر ويتخلله تدخل من قبل الدولة في كثير من الأحيان1.
1-دور الإرادة في إنشاء الشخص الاعتباري:
بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة تكون الإرادة التي تؤدي إلى إنشائها هي إرادة المشرع.
وأما بالنسبة للأشخاص الاعتبارية الخاصة فالإرادة الفردية هي العنصر الأساسي في إنشائها، وذلك لأن هذه الأشخاص الاعتبارية إما أن تكون عبارة عن مجموعة من الأشخاص يتكتلون حول غرض معين أو تكون مجموعة أموال ترصد لهدف ما.
وقد تسبق نشوء الشخص الاعتباري أحياناً مرحلة تمهيدية أو تأسيسية تستلزم القيام ببعض الإجراءات القانونية المؤدية لتكوين الشخص الاعتباري.
وتظهر ضرورة هذه المرحلة بصورة خاصة في الشركات المساهمة حيث لا بد فيها من طرح الأسهم على الاكتتاب الشعبي وإجراء بعض النفقات الضرورية ويعتبر أن الأموال التي تجمع في هذه الحالة والنفقات التي تبذل تعود للشخص الاعتباري مباشرة الذي هو في دور التكوين وتتم لحسابه.
2 ـ الإعلان والشهر:
يكون الإعلان والشهر بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة بنشر التشريع الذي يقضي بإنشائها في الجريدة الرسمية وفقاً للمبدأ العام في نشر التشريعات، وأما بالنسبة للأشخاص الاعتبارية الخاصة فيكون الشهر عادة بتسجيل هذه الأشخاص في سجلات رسمية خاصة بها بحسب كل نوع منها.
ويختلف مفعول شهر الأشخاص الاعتبارية الخاصة باختلاف النظام القانوني المتبع ومدى أخذه بمبدأ حرية تكوين الشخص الاعتباري أو تقييده لهذه الحرية.
فبالنسبة للأنظمة التي تأخذ بحرية إنشاء الشخص الاعتباري لا يعتبر الشهر شرطاً لنشوء هذا الشخص وإنما هو شرط لإمكان الاحتجاج بشخصيته تجاه الغير فقط.
ـ أما بالنسبة للأنظمة التي تقيد حرية إنشاء الشخص الاعتباري فالشهر هو إحدى الوسائل التي تحقق تدخل الدولة و مراقبتها في هذا المجال وهو شرط أساسي لنشوء هذا الشخص واكتسابه الشخصية القانونية.
3 ـ تدخل الدولة:
إن تدخل الدولة بالنسبة لإنشاء الأشخاص الاعتبارية أمر بديهي لأن هذه الأشخاص لا تنشأ إلا بتشريع يعبر عن موافقة الدولة على إحداثها أو عن موافقة المشرع في هذه الدولة.
زوال الشخص الاعتباري:
بما أن الأشخاص الاعتبارية العامة لا تنشأ إلا بنص تشريعي فهي لا تزول إلا بنص تشريعي مماثل يعبر فيه المشرع عن إرادته في إزالتها وسلبها الشخصية القانونية.
أما الأشخاص الاعتبارية الخاصة فتزول إما بصورة طبيعية أو بصورة اختيارية أو إجبارية.
فالشخص الاعتباري يزول بصورة طبيعية إذا فقد أحد عناصره أو مقوماته الأساسية.
ويزول بصورة اختيارية ( إذا كان مجموعة الأشخاص) باتفاق مجموع أعضاءه على حله أو $باتفاق أغلبية معينة منهم يحددها القانون أو يحددها النظام الأساسي للشخص الاعتباري وفقاً لأحكام القانون.
وهو يزول بصورة إجبارية إما بتشريع أو بقرار إداري بالنسبة لبعض أنواع الأشخاص الاعتبارية كالجمعيات والمؤسسات, أو بحكم قضائي تصدره المحكمة المختصة في الأحوال وبالشروط التي يحددها القانون ومن أهم الحالات التي تدعو إلى حل الشخص الاعتباري خروجه عن أهدافه أو عجزه عن الوفاء بتعهداته أو ممارسته نشاطاً مخالفاً للنظام العام والآداب.
وحين يزول الشخص الاعتباري تصفى ذمته المالية وتعتبر شخصيته بحكم المستمرة ريثما تتم أعمال التصفية.
الفرع الثاني
حقوق وخصائص الشخص الاعتباري
تعداد حقوق وخصائص الشخص الاعتباري1:
نصت المادة / 55/ من القانون المدني:
((1- الشخص الاعتباري يتمتع بجميع الحقوق إلا ما كان منها ملازماً لصفة الإنسان الطبيعية وذلك في الحدود التي قررها القانون:
2- فيكون له:
أ. ذمة مالية مستقلة.
ب. أهلية في الحدود التي يعينها سند إنشائه أو التي يقررها القانون.
جـ - حق التقاضي.
د – موطن مستقل.
3- ويكون له نائب يعبر عن إرادته )).
ففيما عدا الحقوق الملازمة لصفة الإنسان الطبيعية كحقوق الأسرة مثلاً, فإن الشخص الاعتباري يتمتع بكافة الحقوق والخصائص التي يتمتع بها الشخص الطبيعي والتي تستلزمها شخصيته القانونية.
اسم الشخص الاعتباري:
بما أن الشخص الاعتباري يتمتع بشخصية مستقلة وكيان قائم, فلا بد للشخص الاعتباري من اسم يساعد على تعينه وتميزه ويستطيع هذا الشخص الاعتباري بواسطته إجراء الأعمال والتصرفات القانونية2.
ويختلف اسم الشخص الاعتباري عن اسم الشخص العادي من حيث عدم وجود لقب أو اسم عائلي يدخل في تكوينه وهو يستمد غالباً من غايته أو غرضه الذي أنشئ لأجله أو من أسماء مؤسسيه أو غير ذلك من الاعتبارات المختلفة.
ولا يحد من حرية مؤسسي الشخص الاعتباري في اختيارهم لاسمه سوى ضرورة عدم مخالفة هذا الاسم للنظام العام.
ويتمتع الشخص الاعتباري بالحماية القانونية التي يتمتع بها الشخص الطبيعي.
ويمكن تغيير اسم الشخص الاعتباري على أن تغييره يعتبر بمثابة تعديل لنظام الشخص الاعتباري الذي حدد فيه اسمه ويجب أن يتم وفقاً للأصول القانونية التي يمكن أن يجري بها هذا التعديل.
جنسية الشخص الاعتباري:
اختلف الفقهاء حول إمكان تمتع الشخص الاعتباري بالجنسية أو عدم إمكان ذلك، فالبعض يرى أن الجنسية لا تثبت إلا للشخص الطبيعي باعتبار أن هذه الجنسية هي رابطة تربط بين الدولة ورعاياها، والشخص الاعتباري عبارة عن تركيب قانوني وليس فرداً من الأفراد وقد يخضع هذا الشخص الاعتباري لقوانين دولة من الدول دون أن يكتسب جنسيتها.
ويرى بعض الفقهاء أنه ما دام لا بد من وجود رابطة ما تربط بين الشخص الاعتباري ودولة من الدول تجعله خاضعاً لأنظمتها وقوانينها، فليس هنالك ما يمنع من أن نطلق على هذه الرابطة اسم الجنسية.
$وقانوننا المدني لم يشر إلى أي شيء من ذلك بحسب المادة السابقة ولكن قانون التجارة السوري قد اعترف بهذه الجنسية.
فقد نصت المادة /99/ من القانون التجاري على أن: (( جميع الشركات التي تؤسس في سورية تكون جنسيتها سورية رغم كل نص مخالف )).
$ على أن هنالك نص تضمه الفقرة 2 من المادة 12من القانون المدني يقضي بأن:
(( النظام القانوني للأشخاص الاعتبارية الأجنبية، من شركات وجمعيات ومؤسسات وغيرها، يسري عليه قانون الدولة التي اتخذت فيها هذه الأشخاص مركز إدارتها الرئيسي الفعلي، ومع ذلك فإذا باشرت نشاطها الرئيسي في سورية، فإن القانون السوري هو الذي يسري)).
وحاول بعض الفقهاء أن يستخلصوا أن الشخص الاعتباري يكتسب جنسية الدولة التي يتخذ فيها مركز إدارته، بينما رأى غيرهم أن جنسية الشخص الاعتباري تحدد تبعاً للدولة التي يؤسس فيها ولو مارس أعماله ونشاطه واتخذ مركز إدارته خارج هذه الدولة.
الذمة المالية للشخص الاعتباري:
للشخص الاعتباري ذمة مالية مستقلة تتألف من مجموع حقوقه والتزاماته الحاضرة والمستقبلة التي يمكن تقويمها بالمال1.
والذمة المالية من أهم خصائص الشخص الاعتباري ولها فائدة كبيرة من حيث أنها تؤدي إلى الفصل بين أمواله والتزاماته من جهة وأموال أعضائه أو مؤسسيه من جهة ثانية.
فأموال الشخص الاعتباري تعود إلى هذا الشخص الاعتباري نفسه لا إلى أعضائه، وبذلك لا يستطيع دائنو هؤلاء الأعضاء، ما دام الشخص الاعتباري قائماً الحجز على أمواله واستيفاء ديونهم منها ولو تم دفعها إليه من قبل مدينهم أو حتى ولو كان هؤلاء المدينون قد ساهموا بها في رأسماله، ففي الجمعية مثلاً تعتبر الأموال التي تقدم إليها من قبل أعضائها ملكاً لهذه الجمعية نفسها وجزءاً من ذمتها المالية ولا يعود للأعضاء أية علاقة بهذه الأموال التي قدموها كما لا يكون لدائنيهم أية سلطة عليها.
وإن الأموال التي يساهم بها الشركاء في الشركة تعد ملكاً للشركة وجزءاً من ذمتها المالية ولا يكون للشريك سوى حصة في رأسمالها ولكنه لا يملك ما يقابل هذه الحصة من رأس المال خلال وجود الشركة بل تملكه هذه الشركة نفسها, وأما حصة الشريك فتخوله اقتسام أموال الشركة وموجوداتها بما يعادل هذه الحصة بعد حل الشركة وتصفيتها أو انسحابه منها.
وأما بالنسبة لالتزامات الشخص الاعتباري فهي تقع عليه وحده دون أن يشاركه في تحملها أحد إلا في شركات التضامن حيث يعتبر الشركاء المتضامنون مسؤولون بأموالهم الشخصية عن ديون الشركة.
وتترتب على الذمة المالية للشخص الاعتباري نفس الآثار والنتائج التي تنجم عن الذمة المالية للشخص الطبيعي.
موطن الشخص الاعتباري:
موطن الشخص الاعتباري، كجميع الخصائص التي تتصل بشخصيته، فمن الضروري أن يكون له موطن يحدد مكان وجوده من الوجهة القانونية, وتترتب عليه نفس الآثار التي تترتب على الموطن بصورة عامة كتعيين المحاكم المختصة مكانياً للنظر في الدعاوى التي ترفع عليه أو التبليغات الموجهة إليه.
وتعتبر المادة /55/ من القانون المدني أن موطن الشخص الاعتباري بصورة عامة هو: (( المكان الذي يوجد فيه مركز إدارته والشركات التي يكون مركزها الرئيسي في الخارج ولها نشاط في سورية يعتبر مركز إدارتها بالنسبة إلى القانون الداخلي المكان الذي توجد فيه الإدارة المحلية))
ويمكن أن ترفع الدعاوى من الشخص الاعتباري أو عليه بحسب المادة /83/ من قانون أصول المحاكمات (( إلى المحكمة التي يقع في دائرتها فرع الشركة أو الجمعية وذلك في المسائل المتصلة بهذا الفرع)).
وليس هنالك ما يمنع من وجود موطن مختار يتخذه الشخص الاعتباري بإرادته بالنسبة لعمل معين من الأعمال وله نفس الآثار التي تتعلق بالموطن المختار للشخص الطبيعي.
أهلية الشخص الاعتباري:
أهلية الشخص الطبيعي فيما عدا بعض الاستثناءات، مطلقة غير محدودة إذ أنها تخوله اكتساب جميع أنواع الحقوق وممارسة مختلف أنواع التصرفات أما أهلية الشخص الاعتباري فلا تثبت له إلا ضمن الحدود التي يعينها سند إنشائه أو التي يقررها القانون بالإضافة إلى القيود التي تنجم عن طبيعته الخاصة من حيث عدم توافر الصفة الإنسانية فيه1.
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن الشخص الاعتباري لا يتمتع من الأهلية إلا بما يمنحه القانون منها، وأما الفقهاء المعاصرون فيعتبرون أن الأصل لدى الشخص الاعتباري هو وجود الأهلية وأن مهمة القانون ليست تعيين ما يتمتع به منها وإنما تحديد ما لا يتمتع به,
على أن القيود التي تحد من أهلية الشخص الاعتباري هي غير ضئيلة وهذه القيود تصيب أهلية الوجوب لديه كما تصيب أهلية الأداء، لأن عدم أهلية الشخص الاعتباري لاكتساب بعض الحقوق تجعله في نفس الوقت غير أهل لإجراء التصرفات المتعلقة بها.
وتقييد أهلية الشخص الاعتباري تنشأ:
إما بسبب عدم ملائمة هذه الحقوق والتصرفات لطبيعته الخاصة.
أو بسبب منافاة هذه الحقوق والتصرفات للغرض الذي أنشئ هذا الشخص لتحقيقه وتخصص به.
نائب الشخص الاعتباري ودوره في التعبير عن إرادته:
أهلية الأداء التي يتمتع بها الشخص الاعتباري تجعله قادراً على مباشرة الأعمال والتصرفات وإجرائها بنفسه.
غير أنه لا يوجد له وجود مادي محسوس كالشخص الطبيعي فهو لذلك لا يستطيع إجراء هذه الأعمال والتصرفات إلا بواسطة من ينوب عنه أو يمثله من الأشخاص الطبيعيين.
وقد اختلف الفقهاء في تحديد طبيعة نائب الشخص الاعتباري وممثله سواء أكان هيئة من الهيئات أو شخصاً من الأشخاص الطبيعيين.
فبعضهم ذهب إلى أن النائب عن الشخص الاعتباري هو كالنائب الشرعي لعديمي الأهلية وناقصيها من الأشخاص الطبيعيين، بينما يرى بعضهم الآخر أن هذا النائب ليس سوى عضو من أعضاء الشخص الاعتباري أو جهاز من أجهزته, وأن مهمته تقتصر على إظهار إرادة الشخص الاعتباري والتعبير عنها.
وإن الرأي الثاني هو السائد حالياً بحسب المادة /55/ من القانون المدني فنصت على أن للشخص الاعتباري ((نائب يعبر عن إرادته)).
فالأفعال الضارة التي يرتكبها ممثل الشخص الاعتباري باسمه (كانتحال علامة فارقة), تعتبر مرتكبة من قبل هذا الشخص مباشرة ويلتزم الشخص الاعتباري بالتعويض عنها أي أن الشخص الاعتباري يكون مسؤولاً من الوجهة المدنية على أساس أنه هو الذي أرتكب هذا الفعل لا على أساس أن الفعل قد ارتكب من أحد تابعيه.
حق التقاضي بالنسبة للشخص الاعتباري:
يعتبر هذا الحق من أبرز حقوق الشخص الاعتباري إذ هو الذي يمكنه من المثول أمام القضاء كمدع أو مدعى عليه باسمه الشخصي، وبصورة مستقلة عن مؤسسيه أو أعضائه, ولو لم يعترف له بهذا الحق لكان من الواجب أن ترفع الدعاوى المتعلقة به باسم أعضائه جميعاً أو عليهم جميعاً دون أن يكون للشخص الاعتباري كشخص مستقل حق المثول فيها.
ويمثل الشخص الاعتباري في الدعاوى التي ترفع باسمه أو عليه نائبه الذي يعمل لحسابه ويحق له تمثيله من الوجهة القضائية كما يحق للنائب أن يقوم بالإقرار عن الشخص الاعتباري أو حلف اليمين.
الفرع الثالث
أنواع الأشخاص الاعتبارية:
$جاء ذكر ذلك في المادة /54/ من القانون المدني على الشكل التالي:
((الأشخاص الاعتبارية هي:
1- الدولة والمحافظات والبلديات بالشروط التي يحددها القانون، والمؤسسات العامة وغيرها من المنشآت التي يمنحها القانون شخصية اعتبارية.
2- الهيئات والطوائف التي تعترف لها الدولة بشخصية اعتبارية.
3- الأوقاف.
4- الشركات المدنية والتجارية.
5- الجمعيات والمؤسسات المنشأة وفقاً للأحكام التي ستأتي فيما بعد.
6- كل مجموعة من الأشخاص أو الأموال تثبت لها الشخصية الاعتبارية بمقتضى نص القانون))
وإن هذا التعداد حصري وإن الشخصية الاعتبارية لا تثبت إلا للأنواع المذكورة فيه1.
$ويلاحظ: أن الأنواع المذكورة تقسم إلى فئتين: أشخاص اعتبارية عامة وأشخاص اعتبارية خاصة.
الأشخاص الاعتبارية العامة:
هي الدولة والمحافظات والبلديات والمؤسسات العامة التي يرى المشرع أن يعترف لها باستقلال ذاتي وميزانية خاصة يساعدانها على تحقيق أهدافها.
الأشخاص الاعتبارية الخاصة:
هي الهيئات والطوائف التي تعترف لها الدولة بشخصية اعتبارية و الأوقاف والشركات المدنية والتجارية والجمعيات والمؤسسات.
الجمعيات:
كان القانون المدني السوري قد خصص بعض مواده لتنظيم أحكام الجمعيات والمؤسسات، غير أن هذه المواد ألغيت بالمرسوم التشريعي رقم/ 93/ لعام 1958 كما ألغيت أيضاً بعض القوانين الخاصة الأخرى المتعلقة بهذا الموضوع.
تعريف الجمعية:
عرفتها المادة /56/ من القانون المدني بأنها ((جماعة ذات صفة دائمة مكونة من عدة أشخاص طبيعية أو اعتبارية لغرض غير الحصول على ربح مادي)).
$أما قانون الجمعيات فيعرفها بأنها: ((جماعة ذات تنظيم مستمر تتألف من أشخاص طبيعية أو اعتبارية لغرض غير الحصول على ربح مادي)).
ومنه نرى أن مفهوم الجمعية يرتكز على:
1- وجود مجموعة من الأشخاص تتألف منهم الجمعية.
2- أن يكون للجمعية غرض مشروع هو غير الحصول على ربح مادي.
3- أن يكون للجمعية تنظيم مستمر.
نشوء الجمعية وبدء شخصيتها الاعتبارية:
لا بد لنشوء الجمعية بحسب قانون الجمعيات من اتفاق مؤسسيها على إنشائها ووضع نظام مكتوب موقع من قبلهم ومن شهر نظامها بتسجيله لدى الجهات الإدارية المختصة1.
ويجب أن يشتمل نظامها المكتوب على ما يلي:
1- اسم الجمعية والغرض منها ومركز إدارتها على أن يكون هذا المركز في قطرنا.
2- اسم كل من الأعضاء المؤسسين ولقبه وسنه وجنسيته ومهنته وموطنه.
3- موارد الجمعية وكيفية استغلالها والتصرف فيها.
4- الهيئات التي تمثل الجمعية واختصاصات كل منها وتعيين الأعضاء الذين تتكون منهم وطرق عزلهم.
5- حقوق الأعضاء و واجباتهم.
6- طرق المراقبة المالية.
7- كيفية تعديل نظام الجمعية وكيفية إدماجها أو تقسيمها أو تكوين فروع لها.
8- قواعد حل الجمعية والجهة التي تؤول إليها أموالها.
أما الشهر فلم يكن يعتبر بحسب القانون المدني شرطاً لاكتساب الجمعية الشخصية الاعتبارية، ولكن لا يحتج بهذه الشخصية قبل الغير إلا بعد أن يتم شهر نظام الجمعية وأما بحسب قانون الجمعيات فالشهر شرط لاكتساب الجمعية الشخصية الاعتبارية.
ويتم شهر نظام الجمعية بمجرد قيده في السجل وتقوم الجهة المختصة بشهره خلال ستين يوماً من تاريخ طلبه فإذا لم يتم ذلك اعتبر الشهر واقعاً بحكم القانون.
وللجهة الإدارية حق رفض الشهر بقرار تصدره خلال المدة المحددة.
إدارة الجمعية وأعمالها:
يتولى إدارة الجمعية نوعان من الهيئات هما: الهيئة العامة ومجلس الإدارة ؟
وتتألف الهيئات العامة من جميع الأعضاء العاملين الذين وفوا بالتزاماتهم المفروضة عليهم $ومضى على عضويتهم مدة سنة1. وأما مجلس الإدارة فيحدد نظام الجمعية، اختصاصه وطرق تعيين أعضائه وانتهاء عضويتهم.
وقد فرض القانون بعض القيود على أهلية الجمعيات في اكتساب الحقوق وإجراء التصرفات, فنص على أنه ((لا يجوز أن تكون للجمعية حقوق ملكية أو أية حقوق أخرى على عقارات إلا بالقدر الضروري لتحقيق الغرض الذي أنشئت من أجله، كما يحظر على الجمعية أن تحتفظ برصيد نقدي يزيد على ثلاثة أمثال المصروفات السنوية للإدارة إلا بإذن من الجهة الإدارية المختصة )).
وللقضاء حق الرقابة على أعمال الجمعية إذ نص القانون على أن كل قرار من الهيئة العامة أو مجلس الإدارة يصدر مخالفاً للقانون يجوز إبطاله.
كما يحق للجهة الإدارية المختصة في حال الاستعجال وقف العمل بأي قرار يصدر عن مجلس إدارة الجمعية أو هيئتها العامة إذا كان مخالفاً للقانون أو للنظام العام.
زوال الجمعية وتصفية أموالها:
يجوز حل الجمعية اختيارياً أو إجبارياً.
أما الحل الاختياري:
فهو من اختصاص الهيئة العامة ويقرر بأغلبية ثلثي أعضائها ما لم يرد في النظام نص يشترط أغلبية أكثر من ذلك.
أما الحل الإجباري:
فيفرض بقرار مسبب من وزير الشؤون الاجتماعية والعمل ويكون قرار حل الجمعية قطعياً وغير قابل لأي طريق من طرق المراجعة وحل الجمعية يؤدي إلى زوالها
الجمعيات ذات النفع العام:
وهي الجمعية التي تهدف إلى تحقيق مصلحة عامة يصدر مرسوم جمهوري باعتبارها كذلك.
وتختلف الجمعية عن غيرها من ناحيتين:
فهي تستثنى من قيود الأهلية المتعلقة بتملك الأموال والعقارات كما أنه من الممكن أن تمنح بعض امتيازات السلطة العامة كعدم جواز الحجز على أموالها وجواز قيام الجهة الإدارية المختصة بنزع الملكية للمنفعة العامة التي تقوم بها الجمعية.
غير أنها تخضع بالمقابل لرقابة أشد وتدخل أقوى من قبل الدولة في أعمالها وأمورها.
الشــــركات:
وهي (( جماعة من الأشخاص يضمون جهودهم لتحقيق ربح مالي)).
وغرض الربح يميز الشركة عن الجمعية.
وهنالك نوعان من الشركات: مدنية وتجارية وهي تتمتع جميعاً بالشخصية الاعتبارية ما عدا شركات المحاصة لأن كيانها منحصر بين المتعاقدين وبأنها غير معدة لإطلاع الغير عليها.
والشركات التجارية على أنواع:
فهي إما أن تكون شركات تضامن (تعمل تحت عنوان معين لها وتؤلف ما بين شخصين أو عدة أشخاص مسؤولين بصفة شخصية وبوجه التضامن عن ديون الشركة ) أو شركات مساهمة مغفلة (عارية عن العنوان وتؤلف بين عدد من الأشخاص يكتتبون بأسهم أي أسناد قابلة للتداول " أو شركات محدودة المسؤولية (لا يسأل الشريك فيها إلا بمقدار حصته في رأس المال ولا يقسم رأس المال فيها إلى أسهم)
نشوء الشركة وبدء شخصيتها الاعتبارية:
تنشأ الشركة بصورة عامة بعقد مكتوب يتفق فيه على تكوينها، على أن بعض أنواع الشركات لا بد لها من الحصول على ترخيص إداري1.
ويعتبر القانون المدني الكتابة شرطاً أساسياً في عقد الشركة فإذا لم يكن هذا العقد مكتوباً اعتبر باطلاً على أن البطلان في هذه الحالة لا يمكن الاحتجاج به قبل الغير، بمعنى أن الغير يستطيع أن يتمسك ببطلان الشركة التي أنشئت بعقد غير مكتوب ولكن الشركاء لا يستطيعون أن يحتجوا تجاه الغير بذلك.
(وتعتبر الشركة بمجرد تكوينها شخصاً اعتبارياً ولكن لا يحتج بهذه الشخصية على الغير إلا بعد استيفاء إجراءات النشر التي يقررها القانون، ومع ذلك للغير إذا لم تقم الشركة بإجراءات النشر المقررة أن يتمسك بشخصيتها).
إدارة الشركة وأعمالها:
يقوم بإدارة الشركة مديرها وفقاً للأحكام الخاصة بكل نوع من أنواع الشركات.
زوال الشركة وتصفية أموالها:
ويمكن إجمال ذلك بما يلي:
1- انقضاء الميعاد المعين للشركة و انتهاء العمل الذي قامت من أجله.
2- هلاك جميع مال الشركة أو جزء كبير منه.
3- انسحاب أحد الشركاء من الشركة إذا كانت مدتها غير معينة أو أصابته بعارض من عوارض الأهلية أو إعساره أو إفلاسه وذلك بالنسبة لشركات الأشخاص فقط.
4- موت أحد الشركاء بالنسبة لشركات الأشخاص دون شركات الأموال.
5- اتفاق الشركاء على حل الشركة, أما الشركات المساهمة فيقرر حلها من قبل الهيئة العامة وفقاً لشروط القانون.
6- صدور حكم قضائي بحل الشركة.
وانقضاء الشركة يستوجب تصفية أموالها وإيفاء الالتزامات المترتبة عليها ويوزع الباقي على الشركاء.
المــــــؤسسـات
تعريف المؤسسة:
هي: (شخص اعتباري ينشأ بتخصيص مال مدة غير معينة لعمل ذي صفة إنسانية أو دينية أو علمية أو فنية أو رياضية أو لأي عمل آخر من أعمال البر والرعاية الاجتماعية أو النفع العام دون قصد إلى ربح مادي)1.
وتختلف المؤسسة عن الجمعية والشركة في أنها مجموعة أموال لا أشخاص.
نشوء المؤسسة وبدء شخصيتها الاعتبارية:
$نص القانون على أن: (( إنشاء المؤسسة يكون بسند رسمي أو وصية ".
ويعتبر هذا السند دستوراً للمؤسسة ويجب أن يشتمل على البيانات التالية2:
1- اسم المؤسسة ومركزها على أن يكون هذا المركز في الجمهورية العربية السورية.
2- الغرض الذي أنشئت لتحقيقه.
3- بيان دقيق للأموال المخصصة لهذا العمل.
4- تنظيم إدارة المؤسسة بما في ذلك اسم مديرها.
5- البيانات الأخرى التي يصدر بتعيينها قرار من الجهة المختصة.
ولا تكتسب المؤسسة الشخصية الاعتبارية بحسب قانون الجمعيات والمؤسسات الخاصة إلا بعد أن يتم شهرها وفقاً لأحكام هذا القانون.
((ويعتبر إنشاء المؤسسة بالنسبة إلى دائني المنشئ وورثته هبة أو وصية فإذا كانت المؤسسة قد أنشأت إضرارا بحقوقهم جاز لهم مباشرة الدعاوى التي يعتمدها القانون في مثل هذه الحالة بالنسبة للهبات والوصايا)).
أي يجوز لهؤلاء الدائنين أو الورثة إبطال التصرف المنشئ للمؤسسة إذا توافرت لديهم الأسباب القانونية التي تخولهم ذلك.
كما يجوز لمن أنشأ المؤسسة بسند رسمي أن يعدل عنها بسند رسمي آخر على أن يتم هذا العدول قبل شهر المؤسسة.
إدارة المؤسسة وأعمالها:
ليس للمؤسسة أعضاء يشكلون هيئتها العامة أو يقومون بانتخاب مجلس إدارتها وإنما هي عبارة عن مجموعة أموال يعين لها مدير أو أكثر لتولي أمورها وتسيير أعمالها وتمثيلها من الوجهة القانونية.
زوال المؤسسة وتصفية أموالها:
بالرغم من أن القانون يساوي بين الجمعية والمؤسسة من حيث الحل والتصفية فإنه من الواضح أن الحل الاختياري لا يمكن وقوعه بالنسبة للمؤسسة لعدم وجود هيئة عامة لها يعود إليها أمر تقريره.
لهذا فلا يطبق على المؤسسة إلا الحل الإجباري الذي يطبق بالنسبة للجمعية كما أن تصفيتها وتوجيه الفائض عن أموالها بعد التصفية إنما يخضع لنفس الأحكام التي تخضع لها الجمعيات في هذا الشأن.
الأوقـــــاف:
تعريف الوقف:
بحسب الشريعة الإسلامية هو: (حبس العين على حكم ملك الله تعالى والتصدق بالمنفعة) ومعنى ذلك أن الأعيان أو الأموال الموقوفة تخرج عن ملكية الواقف لا إلى مالك جديد وإنما تعتبر كأنها أصبحت على حكم ملك الله تعالى.
أما المستحقون من الوقف فلا يملكون الأموال المرصدة لأجله بل يقتصر حقهم على الاستفادة من منافعها.
والأصل أن الوقف مؤبد أي أن منافعه يجب أن تؤول ابتداء وانتهاء إلى جهة بر لا تنقطع وقد تخصص هذه المنافع ابتداء إلى أشخاص معينين ثم تؤول من بعدهم إلى جهة بر لا تنقطع كما في الأوقاف الذرية التي توقف أولاً على ذرية الواقف ثم تؤول بعد انقراض المستحقين إلى جهة من جهات البر.
ويلاحظ أن المرسوم التشريعي رقم /76/ لعام 1949 قد ألغى الوقف الذري ومنع إنشاءه.
نشوء الوقف وبدء شخصيته الاعتبارية:
ينشأ الوقف بتصرف إرادي يعبر فيه الواقف عن إرادته الحازمة في إنشائه.
ويرى أغلب الفقهاء أن المال الموقوف يجب أن يكون عقاراً أو منقولاً تابعاً للعقار الموقوف أو متعارفاً على وقفه.
أما الشخصية الاعتبارية فلم يعترف بها بشكل واضح لدى جميع المذاهب بل أن فقهاء المذهب الحنفي يرون بأن الوقف لا ذمة له غير أن الأحكام الشرعية التي تطبق على الوقف توحي بوجود شخصية مستقلة له وهذا ما دعا قانوننا المدني للاعتراف صراحة بهذه الشخصية.
إدارة الوقف وأعماله:
يكون للوقف متول أو ناظر يمثله ويدير شؤونه وهو يعين في الأصل بحسب الشروط التي حددها الواقف فإذا لم يوجد من تتوافر فيه هذه الشروط انتقلت النظارة أو التولية إلى مديرية الأوقاف أو عين القاضي المتولي الذي يصلح لهذه المهمة.
زوال الوقف وتصفية أمواله:
بالنسبة للوقف المؤقت الذي أخذ به القانون المصري فإنه ينقضي بانتهاء مدته أو انقراض الموقوف عليهم.
أما الوقف المؤبد فلا يمكن زواله مهما مر عليه من زمن.
كما يمكن أن يزول الوقف بقانون يقضي بحله كما في الأوقاف الذرية.
وحين يزول الوقف تنتهي شخصيته الاعتبارية وتوزع أمواله بعد التصفية على الجهات التي تستحقها وقت الحكم بزواله.
الباب الثاني
الأشــــــياء
رأينا سابقاً أن المحل الذي يقع عليه الحق قد يكون شيئاً أو عملاً, فهو شيء في الحقوق العينية إطلاقاً وكذلك في الحقوق الشخصية التي يكون موضوعها إعطاء شيء حيث يكون الإعطاء هو مضمون الحق الشخصي أو الالتزام المقابل له والشيء هو المحل الذي يتعلق به هذا المضمون.وهو عمل في الحقوق الشخصية التي يكون موضوعها قياماً بعمل – عدا إعطاء شيء- أو امتناعاً عن عمل، حيث يندمج المحل في هذه الحالة بالمضمون فيكون القيام بعمل أو الامتناع عنه هو مضمون الحق الشخصي أو الالتزام، كما يكون أيضاً هو المحل الذي يقعان عليه.
ودراسة محل الحق وهو الركن الثاني من أركانه، يجب أن يتناول في الأصل دراسة الأشياء والأعمال معاًً، غير أن الأعمال لا يمكن حصرها أو تصنيفها، وهي تختلف باختلاف الحقوق الشخصية أو الالتزامات التي تقع عليها، كما أنها تدرس من خلال دراسة هذه الحقوق الشخصية أو الالتزامات نفسها. ولذلك سنقتصر في هذا البحث المخصص لمحل الحق على دراسة الأشياء وحدها دون الأعمال.
ودراسة الأشياء التي سيقتصر عليها بحثنا تتناول، بالإضافة إلى تحديد مفهومها، بيان أقسامها المتعددة وخصائص كل من هذه الأقسام. وعلى هذا فإن الباب الحالي سيتألف من تمهيد وفصل واحد على النحو التالي:
$تمهيد: مفهوم الأشياء والأموال والتمييز بينها
الفصل الأول: تقسيم الأشياء
تمهيد
مفهوم الأشياء والتمييز بينها:
$ تشمل الأشياء: كل ما له وجود مادي محسوس من جهة، عدا الإنسان الذي يعتبر شخصاً لا شيئاً، كما تشمل أيضاً بعض الأمور المعنوية التي لا تدخل تحت الحس المادي ولكن لها وجوداً قائماً بذاته يجعلها محلاً للحقوق الأدبية أو المعنوية التي تقع عليها1.
$أما الأموال: فهي بحسب المفهوم الحديث الحقوق ذات القيمة المالية، سواء أكانت حقوقاً شخصية أو عينية أو معنوية وسواءً أكانت واقعة على الأشياء أو الأعمال1.
وهذا التمييز بين الأشياء والأموال لم يكن معروفاً وإنما كانت الأشياء تعد على أنها نوع من الأموال.
ويرجع هذا الخلط بين الأموال والأشياء إلى عهد القانون الروماني ثم إلى القانون المدني الفرنسي فالمال كان يعرف في بادئ الأمر بأنه كل شيء نافع للإنسان يصح أن يستأثر به دون غيره ويكون محلاً للحقوق.
$وعلى هذا يجوز القول بأن الأموال كانت تعتبر كلها أشياء، و ثم لاحظ رجال القانون أن الأشياء ليست وحدها ذات القيمة المالية وإنما يمكن أن تقع على هذه الأشياء أنواع أخرى من الحقوق كحق الانتفاع.
وعلى هذا ظهر أن تعريف الأموال بأنها الأشياء القابلة للتملك لم يعد كافياً للإحاطة بجميع هذه الأموال فعدل هذا المفهوم بحيث لم تعد الأموال قاصرة على الأشياء القابلة للتملك فقط وإنما أضيفت إليها أيضاً الحقوق الشخصية والعينية ذات القيمة المالية.
وهذا المفهوم الأخير للمال هو الذي أخذ به القانون المدني الفرنسي إذ يستعمل لفظ المال للتعبير عن الأشياء نفسها وعن الحقوق المالية في نفس الوقت.
غير أن هذا المفهوم قد انتقد بعد ذلك انتقاداً شديداً لما يكتنفه من غموض وتشويش.
فهو يؤدي من جهة إلى ضم مفهومين مختلفين في تعريف واحد يجمع كلاً من الحق والشيء الذي هو محل هذا الحق و ركن من أركانه.
لذلك كان لا بد من فصل أحد هذين العنصرين وإخراجه من مفهوم المال فإما أن نخرج من مفهوم المال الحقوق المالية ونبقي الأشياء فقط كما كان الحال في بادئ الأمر أو نخرج $الأشياء ونبقي الحقوق المالية. وقد لوحظ أن الحل الثاني هو الأصح، ولذا أخرجت الأشياء من نطاق الأموال وأصبحت مفهوماً مستقلاً عنها، وبقي مفهوم المال مقتصراً فقط على الحقوق المالية وحدها دون الأشياء.
الفصل الأول
تقسيم الأشياء
تقسم الأشياء إلى أنواع متعددة عدد القانون المدني بعضها أو أشار إليه وأغفل ذكر بعضها الآخر.
تقسيم الأشياء:
لقد نص القانون المدني صراحة على أنواع معينة:
1- الأشياء القابلة للتعامل والأشياء الخارجة عن التعامل.
2- الأشياء المنقولة والأشياء الثابتة.
3- الأشياء الاستهلاكية والأشياء الاستعمالية.
4- الأشياء المثلية والأشياء القيمية.
5- الأشياء المادية والأشياء المعنوية.
وأهم الأنواع التي أغفلها قانوننا المدني هي:
1- الأشياء المعتبرة أصلاً والأشياء المعتبرة ثمرة.
2- الأشياء الأصلية والأشياء التبعية.
3- الأشياء القابلة للقسمة والأشياء غير القابلة للقسمة.
ولما كان تقسيم الأشياء إلى منقولة وثابتة هو أهم هذه التقسيمات و أكثرها آثاراً من الوجهة القانونية، فقد آثرنا أن نفرد لهذا التقسيم بحثاً خاصاً به وأن نستعرض التقسيمات الأخرى، سواء ما ذكره القانون المدني منها أو سكت عنه في بحث آخر
وبالتالي سيحتوي هذا الفصل الفرعين التاليين:
الفرع الأول: تقسيم الأشياء إلى منقولة وثابتة
الفرع الثاني: التقسيمات الأخرى للأشياء
الفرع الأول
تقسيم الأشياء إلى منقولة وثابتة
نصت المادة /84/ من القانون المدني على أن (كل شيء مستقر بحيزه ثابت فيه لا يمكن نقله منه دون تلف فهو عقار وكل ما عدا ذلك من شيء فهو منقول)1.
الأشياء الثابتة أو العقارات:
هنالك نوعان من العقارات نص عليهما قانوننا المدني:
أولاً: العقارات بطبيعتها:
وهو الذي عرفته المادة /84/ بأنه: "كل شيء مستقر بحيزه ثابت فيه لا يمكن نقله منه دون تلف".
وتشمل العقارات بطبيعتها الأراضي وما يتصل بها من نباتات وأبنية وما تتضمنه من مناجم ومقالع2.
فالأراضي: هي العقارات الأساسية التي تتوافر فيها صفة الثبات والاستقرار والتي تقوم في باطنها أو على سطحها بقية العقارات بطبيعتها.
والنباتات: أياً كان نوعها ومهما كانت قيمتها تعتبر عقارات بطبيعتها إذا كانت متأصلة بالأرض وكانت جذورها ممتدة فيها أما إذا كانت هذه النباتات لا تتصل بالأرض مباشرة وإنما هي موضوعة في أوعية أو صناديق فلا تعتبر من العقارات بل تعتبر أشياء منقولة.
والأبنية: ينطبق عليها أيضاً ما ينطبق على النباتات فهي تعتبر من العقارات بطبيعتها ما دامت متأصلة في الأرض سواء أقيمت على سطح الأرض كالدور والمخازن والمعامل أو في باطن الأرض كالآبار والأنفاق وسواء أكانت دائمة أو مؤقتة.
أما الإنشاءات الخفيفة التي لا تتصل بالأرض اتصالاً متيناً ولا تقوم على دعائم ثابتة كالخيام أو الأكواخ التي تقام في الساحات العامة فلا تعتبر من العقارات.
والمقالع والمناجم: تعتبر أيضاً عقارات بطبيعتها.
فالمقالع: هي المكامن الطبيعية التي توجد فيها مواد البناء ومواد تحسين الزراعة ومناجم الفحم النباتي.
أما المناجم: فهي المكامن الطبيعية المحتوية على المواد المنجمية.
وتعتبر المقالع ملكاً لصاحب الأرض التي توجد فيها أما المناجم فلا تعود ملكيتها لصاحب الأرض وإنما تعتبر من أملاك الدولة العامة.
وقد صنف القانون المدني السوري العقارات إلى خمس أصناف وهي كما عددتها المادة 86 منه1:
1-العقارات الملك:
وهي العقارات القابلة للملكية المطلقة والكائنة داخل مناطق الأماكن المبنية المحددة إدارياً.
ولا يشترط أن تكون العقارات مبنية فعلاً لتعتبر ملكاً بل يكفي دخولها داخل مناطق الأماكن المخصصة للبناء, على أن من الضروري أن تكون هذه المناطق المخصصة للبناء قد حددت بقرار إداري.
2-العقارات الأميرية:
وهي العقارات التي تكون رقبتها للدولة ويجوز أن يجري عليها حق التصرف.
فالعقارات الأميرية هي العقارات التي تكون ملكية رقبتها للدولة وهي من حيث المبدأ العقارات التي لا تدخل ضمن المناطق المبنية المحددة إدارياً وإن حق التصرف فيها قريب من حق الملكية وقد نصت المادة /772/ على أن:
"النصوص المتعلقة بحق الملكية تسري على حق التصرف في الأراضي الأميرية ما لم ينص القانون على خلاف ذلك".
الاختلاف بين حق الملكية وحق التصرف, وبين العقارات الملك والعقارات الأميرية:
إن العقار الأميري لا يجوز وقفه وكل وقف ينشأ عليه يعتبر باطلاً وإن حق التصرف في العقارات الأميرية يسقط بعدم حراثة الأرض أو بعدم استعمالها مدة خمس سنوات وأن قواعد الإرث بالنسبة للعقارات الأميرية لا تخضع لأحكام الشريعة الإسلامية كما هو الحال بالنسبة للعقارات الملك وإنما تخضع لقانون خاص تختلف أحكامه عن أحكام الشريعة الإسلامية وبصورة خاصة من حيث مساواته بين الأنثى والذكر في الحصة الإرثية.
3-العقارات المتروكة المرفقة:
وهي العقارات (( التي تخص الدولة ويكون لجماعة ما حق استعمال عليها تحدد مميزاته ومداه العادات المحلية. أو الأنظمة الإدارية)).
مثالها:البيادر والمراعي المخصصة لانتفاع أهل القرية منها وتكون هذه المراعي عائدة للدولة
4-العقارات المتروكة المحمية:
وهي العقارات (( التي تخص الدولة أو المحافظات أو البلديات وتكون جزءا ًمن الأملاك العامة )).
ومن أهم أمثلة هذه العقارات الطرق والشوارع والساحات والحدائق العامة.
5-العقارات الخالية المباحة:
وهي (( الأراضي الأميرية التي تخص الدولة إلا أنها غير معينة ولا محددة. فيجوز لمن $يشغلها أولاً أن يحصل بترخيص من الدولة, على حق أفضلية بالتصرف فيها ضمن الشروط المعينة في أنظمة أملاك الدولة )).
ثانياً: العقارات بالتخصيص:
يعرف القانون المدني العقار بالتخصيص بأنه: ((المنقول الذي يضعه صاحبه في عقار يملكه رصداً على خدمة هذا العقار أو استغلاله)).
ويجب لاعتبار المنقول عقاراً بالتخصيص توافر شرطين هما1:
الشرط الأول: اتحاد المالك في العقار والمنقول:
يجب أن يكون مالك العقار هو نفسه مالك المنقول الذي يرصد لمنفعة هذا العقار.
فالمنقول الذي يرصده صاحبه على منفعة عقار لا يملكه كالأدوات الزراعية المرصودة على منفعة الأرض, وكذلك المنقول الذي يرصده صاحب العقار على خدمة العقار ولكن دون أن يكون مالكاً له, لا يعتبر عقاراً بالتخصيص بل يظل منقولاً لأن المالك ليس واحداً في الحالتين.
الشرط الثاني: رصد المنقول على منفعة العقار:
يجب أن يخصص المنقول لمنفعة العقار وقد عبر القانون المدني عن ذلك بضرورة رصد المنقول على خدمة العقار أو استغلاله وإن المنقول الذي يخصص لمنفعة صاحب العقار لا يعتبر عقاراً بالتخصيص " كالسيارة مثلاً.
ورصد المنقول على استغلال العقار يشمل:
الاستغلال الزراعي:
$حيث تعتبر عقارات بالتخصيص مثلاً الأدوات الزراعية والماشية، وخلايا النحل، وأبراج الحمام والبذور التي لم تبذر والسماد.... الخ.
الاستغلال الصناعي:
فتعتبر من العقارات بالتخصيص مثلاً الآلات والأجهزة الصناعية والعربات والسيارات.
الاستغلال التجاري والمدني:
تعتبر من العقارات بالتخصيص مثلاً موجودات وأدوات المسارح والملاهي والمطاعم والأدوات اللازمة لاستغلال المحلات التجارية كالخزائن والطاولات وذلك بشرط أن يكون المكان معداً لإيوائها.
أما رصد المنقول على خدمة العقار فيشمل المنقولات التي توضع في الأبنية دون أن تكون متصلة بها اتصال قرار, والتي تستعمل لمنفعة هذه الأبنية, وذلك كالمفاتيح ومضخات الحريق في دور السكن..... الخ.
وأما المنقولات التي تتصل بالعقار اتصال قرار وثبات كالأبواب والنوافذ فهي تعتبر جزءاً من البناء وبالتالي تكون عقارات بطبيعتها وليست بالتخصيص.
والأثر الرئيسي الذي ينجم عن إعطاء المنقول المرصد لمنفعة العقار صفة العقار بالتخصيص هو دمجه بالعقار المرصد لمنفعته في الحكم من حيث عدم جواز الحجز عليه كمنقول وبصورة مستقلة عن العقار المرتبط به.
الأشياء المنقولة:
لم يعرف القانون المدني الأشياء المنقولة وإنما اكتفى بتعريف العقار وأعتبر أن ((كل ما عدا ذلك فهو شيء منقول))1.
1-المنقولات بطبيعتها:
هي الأشياء التي يمكن نقلها من مكان إلى آخر دون تلف، سواء أكانت قادرة على الانتقال بقوتها الذاتية كالحيوانات أو بقوة خارجية كالجمادات2.
وتشمل المنقولات بطبيعتها جميع الأشياء المادية التي لا تعتبر عقارات بطبيعتها أو عقارات بالتخصيص.
ويعتبر الغاز والكهرباء ونحوهما من الطاقات أو القوى المحرزة من الأشياء المنقولة وقد اعتبر قانون العقوبات اختلاسها من قبيل السرقة.
$2- المنقولات من حيث المآل:
هي أشياء ثابتة أو عقارات بطبيعتها تطلق عليها صفة الأشياء المنقولة بالنظر لما ستؤول إليه3.
فإذا بيع شيء من الثمار أو المحصولات بقصد جنيها أو حصدها أو إذا بيع بناء ليهدم ويستفاد منه كأنقاض، تعتبر منقولات من حيث المآل وفقاً لاتفاق المتعاقدين بالنظر إلى أنها ستنفصل عن الأرض في وقت قريب.
فحين تنفصل عن الأرض فعلاً تعتبر منقولات بطبيعتها أما قبل ذلك فهي منقولات من حيث المآل.
3- المنقولات المعنوية:
$إن الأشياء غير المادية هي التي لا تقع تحت الحس كالأفكار والابتكارات والمخترعات لا تدخل بحسب طبيعتها في المنقولات ولا في العقارات.
غير أن هذه الأشياء قد اعتبرها المشرع من قبيل المنقولات، لأن كل ما لا يدخل في التعريف الذي أعطاه للعقار فهو منقول ولما كان تعريف العقار لا ينطبق على الأشياء غير المادية فلم يبق سوى اعتبار هذه الأشياء منقولات معنوية أو غير مادية.
الأموال العقارية والأموال المنقولة:
$يوجد هناك حقوق عقارية أو أموال عقارية من جهة وحقوق أو أموال منقولة من جهة ثانية. ويعتبر عقاراً بحسب المادة 85 من القانون المدني (كل حق عيني على عقار وكذلك كل دعوى تتعلق بحق عيني على عقار).
أما الأموال المنقولة فهي كل ماعدا ذلك من الحقوق المالية كما أن الدعاوى المنقولة هي كل ما يتعلق بأموال منقولة.
وقد عدد القانون المدني الحقوق العينية وهي: الملكية، التصرف، الانتفاع، حق الأفضلية على الأراضي الخالية المباحة، حقوق الارتفاق العقارية، الرهن والتأمين العقاري، الامتياز، الوقف، الإجارتان، الإجارة الطويلة، حق الخيار الناتج عن الوعد بالبيع.
وبعض الحقوق العينية كالتصرف والسطحية والارتفاق لا تقع إلا على العقارات فتعد حقوقاً عينية عقارية.
أما الأموال المنقولة فتشمل جميع الحقوق المالية التي لا تدخل في نطاق الحقوق العقارية.
وعلى هذا تعتبر أموالاً منقولة:
1. جميع الحقوق العينية الواقعة على الأشياء المنقولة فحق ملكية المنقول يعتبر حقاً عينياً منقولاً.
2. جميع الحقوق المعنوية والأدبية.
3. جميع الحقوق الشخصية أياً كان نوعها.
آثار التمييز بين العقار والمنقول1:
في نطاق القانون المدني:
1. إن اكتساب الحقوق العينية العقارية أو انتقالها من شخص إلى آخر يخضع لمبدأ تسجيلها في السجل العقاري، أما الحقوق المنقولة فلا تخضع لشرط التسجيل, وعلى هذا فإن مشتري المنقول مثلاً يصبح مالكاً له بمجرد عقد البيع ولكن ملكية العقار لا تنتقل لمشتريه إلا بعد تسجيله في السجل العقاري.
2. مجرد حيازة المنقول بسبب صحيح وبحسن نية تكسب الحائز ملكية المنقول باستثناء حالتي الضياع والسرقة, وأما حيازة العقار ولو كانت مقترنة بحسن نية لا تؤدي إلى اكتساب ملكيته.
3. العقارات الملك يصح وقفها إطلاقاً، أما الأشياء المنقولة فلا يصح وقفها إلا في حالات معينة.
4. إذا بيع عقار مملوك لشخص لا تتوافر فيه الأهلية وكان في البيع غبن يزيد على الخمس، فللبائع أن يطلب تكملة الثمن إلى أربعة أخماس ثمن المثل ولا يسري هذا الحكم فيما إذا كان المبيع منقولاً لا عقاراً.
5. إن بعض الحقوق العينية لا يمكن أن تقع إلا على العقار دون المنقول.
في نطاق أصول المحاكمات:
1. يختلف الاختصاص المكاني للمحاكم بحسب ما إذا كانت الدعاوى عقارية أو منقولة. فالدعاوى العقارية ترفع أمام المحكمة التي يوجد العقار في دائرتها، أما الدعاوى المنقولة فترفع أمام محكمة موطن المدعى عليه.
2. دعاوى الحيازة التي تمكن الحائز من طلب منع التعرض أو استرداد الحيازة أو وقف العمل الجديد لا تكون إلا في حيازة العقار دون المنقول.
3. حجز العقار يتم بوضع إشارة الحجز في السجل العقاري أما حجز المنقول فيكون بوضع اليد عليه وتسليمه إلى حارس مكلف بحفظه.
في نطاق القانون الدولي الخاص:
1. يسري قانون موقع العقار على العقود التي أبرمت بشأن هذا العقار، أما العقود الأخرى فيسري عليها قانون الدولة التي يوجد فيها الموطن المشترك للمتعاقدين إذا اتحدا موطناً.
2. القيود التي تحد من تملك الأجانب عادة تقتصر فقط على العقارات دون المنقولات.
الفرع الثاني
التقسيمات الأخرى للأشياء
الأشياء القابلة للتعامل والأشياء الخارجة عن التعامل:
الأشياء إما أن تكون قابلة للتعامل أو خارجة عنه والنوع الأول هو وحده الذي يصح أن يكون محلاً للحقوق المالية1.
الأشياء الخارجة عن التعامل إما أن تكون خارجة عنه بطبيعتها أو بحكم القانون.
والأشياء التي تخرج عن التعامل بطبيعتها هي التي لا يستطيع أحد أن يستأثر بحيازتها مثل الهواء.
أما الأشياء التي تخرج عن التعامل بحكم القانون فهي التي لا يجيز القانون أن تكون محلاً للحقوق المالية وهذه الأشياء يمكن الاستئثار بحيازتها وذلك كالمخدرات والمواد المتفجرة.
أما الأشياء القابلة للتعامل فهي الأشياء التي يستطيع الشخص الاستئثار بحيازتها ولم يمنع القانون التعامل بها.
الأشياء الاستهلاكية والأشياء الاستعمالية:
الأشياء القابلة للاستهلاك هي التي ينحصر استعمالها بحسب ما أعدت له في استهلاكها أو إنفاقها، أما الأشياء الاستعمالية فهي عكس ذلك2.
فالأشياء الاستهلاكية تختلف عن الأشياء الاستعمالية في أنها تستهلك منذ الاستعمال الأول كالوقود والنقود, بينما يمكن أن يتكرر استعمال الأشياء الاستعمالية أكثر من مرة.
والاستهلاك قد يكون فعلياً يؤدي إلى زوال الشيء وفنائه وقد يكون قانونياً اعتبارياً يؤدي إلى إنفاق الشيء والتخلي عنه.
أما بالنسبة لحق الانتفاع فهو يقع على الأشياء الاستعمالية دون الاستهلاكية.
$وأما بالنسبة للعقود كعقد العارية فهو يقع على الأشياء الاستعمالية لالتزام المستعير بإعادة الشيء المعار
الأشياء المثلية والأشياء القيمية:
الأشياء المثلية هي التي يقوم بعضها مقام بعض عند الوفاء والتي تقدر عادة في التعامل بين الناس بالعدد أو المقاس أو الكيل أو الوزن أما الأشياء القيمية فهي ما عدا ذلك.
فالتفريق بين الأشياء المثلية والأشياء القيمية يقوم على أساس التماثل بين أفراد النوع الواحد أو عدم التماثل فإذا كان هناك تشابه أو تماثل اعتبرت هذه الأشياء مثلية أما إذا لم يتوافر هذا الشرط اعتبرت الأشياء قيمية1.
والأشياء المثلية تقدر عادة بالعدد كالبيض والنقود أو بالمقاس أو بالكيل أو بالوزن.
والأشياء المثلية يمكن أن تعتبر قيمية عند التعاقد عليها، كما أن الأشياء القيمية يمكن أن تعتبر مثلية وبذلك تنقلب الأشياء من نوع إلى آخر وفقاً لقصد المتعاقدين.
$ ومن الملاحظ أن الأشياء المثلية هي على الأغلب أشياء استهلاكية وأن الأشياء القيمية هي على الغالب أيضاً أشياء استعمالية.
لتقسيم الأشياء إلى مثلية وقيمية آثار عديدة:
1- فالالتزام الذي يكون محله شيئاً مثلياً يستطيع المدين أن يبرئ ذمته منه بإيفاء الدائن أي شيء آخر مماثل له في النوع والمقدار، أما إذا كان محل الالتزام شيئاً قيمياً فلا تبرأ ذمة المدين منه إلا بإيفاء الدائن هذا الشيء بذاته.
2. الحقوق العينية لا ترد إلا على الأشياء القيمية أو المعينة بالذات بينما يمكن أن يكون المحل غير المباشر للحقوق الشخصية شيئاً قيميأً أو مثلياً.
3. انتقال الملكية يتم بمجرد العقد إذا كان الشيء قيمياً أو معيناً بالذات أما إذا كان الشيء مثلياً فلا تنتقل ملكيته إلا بإفرازه.
الأشياء المادية والأشياء المعنوية:
رأينا أن الأشياء المعنوية لا تدخل تحت الحس المادي كالأفكار والمخترعات وتعتبر كلها أشياء منقولة بينما تقسم الأشياء المادية إلى منقولة وعقارية1.
بعض التقسيمات الأخرى التي لم يذكرها القانون المدني2:
الأشياء المعتبرة أصلاً والأشياء المعتبرة ثمرة:
الأشياء المعتبرة أصلاً هي التي لا تكون ثمرة لغيرها.
أما الأشياء المعتبرة ثمرة فهي التي تنتج عن الأشياء المعتبرة أصلاً.
ولا يتحتم أن ينتج الأصل ثماراً ليعتبر أصلاً وإنما يجب ألا يكون ثمرة لغيره ولا يعتبر $الشيء ثمرة إلا إذا كان انفصاله عن الأصل لا يؤدي إلى نقصانه، فالأرض والمنزل هي من الأشياء التي تعتبر أصلاً، أما نتاج الأرض وأجرة المنزل فهي من الأشياء المعتبرة ثمرة.
الأشياء الأصلية والأشياء التبعية:
الشيء الأصلي هو الذي يكون له وجود مستقل عن غيره كالدار والأشجار، أما الشيء التبعي فهو الذي يرتبط بشيء أصلي ويتبعه كالنوافذ والأبواب وتمديدات الكهرباء.
الأشياء القابلة للقسمة والأشياء الغير قابلة لها:
الشيء القابل للقسمة هو الشيء الذي لا يكون في تجزئته ضرر بحيث يكون نوع المنفعة التي للأصل قبل القسمة ثابتاً لكل قسم منه بعدها أما الشيء غير القابل للقسمة فهو الذي تفوت $بتجزئته المنفعة المقصودة منه، فالحيوان والجوهرة والسيارة هي من الأشياء غير القابلة للقسمة، أما الأرض والقمح والزيت ونحوها هي من الأشياء القابلة للقسمة.
تهدف دراسة المدخل إلى علم القانون إلى الإلمام بالمبادئ والأصول العامة التي تكون الإطار الشامل لعلم القانون والحق، لذلك فإنها تتخذ من القانون والحق برمته موضوعاً لها، وتهدف إلى إلقاء الضوء وتوطئة السبيل لمساعدة المبتدئ على الإلمام بالأصول والمبادئ الأساسية العامة التي يرتكز عليها القانون والحق في جملته، ولذلك وبالرغم من أن أغلب مضمون هذه الدراسة قد ورد ضمن القانون المدني وخاصة الباب التمهيدي منه، فإن المدخل إلى علم القانون لا يرتبط من حيث المبدأ بفرع معين من فروع القانون ولا بفئة محددة من قواعده، مثلما ر يرتبط بنوع أو فئة محددة من الحقوق.
ولما كانت تلك هي غاية الدراسة، فإننا سنحرص على إبراز الأصول الكلية والمبادئ العامة الأساسية وترسيخها في ذهن كل مبتدئ في علم القانون، دون دخول في تفصيلات فرعية أو جزئية إلا ما اقتضته ضرورة لترسخ مبدأ أو لتوضيح فكرة وتحديد معالمها، إذ كثيراُ ما تتوارى تلك الأصول والمبادئ وتطمس معالمها أمام الإغراق في التفصيلات. ورائدنا في ذلك تزويد المبتدئ بالقدر المقبول والمعقول من المعلومات والأفكار، دون إسراف وتفصيل ممل أو تقتير وإيجاز مخل.
والمعّول عليه في هذه الدراسة هو القانون السوري، حين يقتضي الأمر دراسة أحكام القانون أو الإشارة إلى نصوصه، دون قطع السبيل أمام إجراء دراسة متقابلة مع القوانين الأخرى كلما اقتضى الحال ذلك بغية تدعيم هذه الدراسة بالمفيد.
ولأجل ذلك سنجعل هذه الدراسة في قسمين: نخصص الأول لنظرية القانون، ونخصص الثاني لنظرية الحق، ذلك على الشكل التالي:
القسم الأول: النظرية العامة للقانون.
القسم الثاني: النظرية العامة للحق.
تمهيد
القانــون والحق
القانون والحق مفهومان مترابطان متلازمان بحيث لا يذكر أحدهما إلا ويتبادر إلى الذهن المفهوم الآخر. فيمكن القول بأن الحق هو ثمرة القانون ونتيجته, كما أن القانون يتمثل عملياً حين تطبيقه بما ينجم عنه من حقوق.
ودراستنا في المدخل إلى العلوم القانونية تتناول في الواقع: دراسة نظرية القانون من جهة ونظرية الحق من جهة ثانية ولذا سنبدأ بتعريف كل من القانون والحق.
القانون:
يقصد به مجموعة القواعد التي تطبق على الأشخاص في علاقاتهم الاجتماعية ويفرض عليهم احترامها ومراعاتها في سلوكهم بغية تحقيق النظام في المجتمع .
فالقانون إذاً يعبر عن مجموعة القواعد القانونية التي تنظم حياة المجتمع وسلوك الأشخاص فيه وهذه القواعد تنظم أموراً مدنية أو تجارية أو جزائية أو غيرها, أياً كان مصدر هذه القواعد سواء كان مصدرها التشريع أو غيره من المصادر الأخرى.
فهذه القواعد القانونية بصرف النظر عن مصدرها أو موضوعها تشكل الإطار الذي يتكون منه القانون بمعناه العام الذي بيناه بالتعريف.
من جهة أخرى هناك معنى خاص شائع الاستعمال ويقصد به القواعد الصادرة عن السلطة التشريعية المختصة ( الممثلة بمجلس الشعب ) . وهذه القواعد وإن كانت تحتل الجزء الأكبر من القواعد القانونية في عصرنا إلا أنها لا تشملها جميعها.
أي أن القانون بمعناه الخاص هذا ليس سوى مصدر من مصادر القانون بمعناه العام وهو من أهم مصادره في عصرنا الحالي ولكنه ليس المصدر الوحيد.
وخلال دراستنا سنقتصر في استعمالنا لكلمة القانون على المعنى العام ( مجموعة القواعد القانونية ). وسنطلق على القانون بالمعنى الخاص اسم التشريع المرادف له.
الحق:
ويقصد بالحق السلطة أو الإمكانية أو الامتياز التي يمنحها القانون للشخص تمكيناً له من تحقيق مصلحة مشروعة يعترف له بها ويحميها1.
فالحق بهذا المعنى لا يتمثل إذن بالقواعد القانونية نفسها وإنما بما تقره هذه القواعد للأشخاص وما تمنحهم من سلطات ومكنات وميزات.
فعلى سبيل المثال القاعدة القانونية التي تمنح الحق للمستأجر في سكنى العقار المأجور, والقاعدة التي تمنح الحق للبائع في استيفاء ثمن المبيع من المشتري...الخ,فهذه القواعد تدخل في نطاق القانون, أما ما ينشأ عن هذه القواعد من سلطات وميزات يتمتع بها المستأجر أو البائع فإنما تعتبر حقوقاً يعترف بها القانون لهؤلاء الأشخاص ويمنحهم إياها.
العلاقة بين القانون والحق:
من خلال تعريف كل من القانون والحق يتبين لنا أن هناك ترابطاً تاماً واتصالاً وثيقاً, فلا ينشأ الحق إلا إذا أقرته واعترفت به قاعدة من قواعد القانون.
كما أن القانون يهدف بصورة أساسية إلى تحديد الحقوق وبيان مداها وكيفية اكتسابها وانقضائها. و بعبارة أخرى يمكن القول بأن الحق هو ثمرة القانون ونتيجته, كما أن القانون يتمثل عملياً حين تطبيقه بما ينجم عنه من حقوق2.
القسم الأول
القانون
سنتناول في هذا القسم دراسة النظرية العامة للقانون وذلك في بابين وهما:
الباب الأول: مفهوم القانون
الباب الثاني: مصادر القانون
الباب الأول
مفهوم القانون
ويقسم هذا الباب إلى ثلاثة فصول وهي:
الفصل الأول: تحديد مفهوم القانون
الفصل الثاني: أسس القانون
الفصل الثالث: أقسام القانون
الفصل الأول
تحديد مفهوم القانون
لتحديد مفهوم القانون لا بد من دراسة طبيعة القاعدة القانونية التي تعتبر الخلية الأساسية في تكوين القانون من جهة, ودور القانون من في التنظيم الاجتماعي الذي يعتبر هدف القانون وغايته من جهة أخرى, ومن ثم ينبغي علينا أن نلقي الضوء على نوعين هامين من أنواع القواعد القانونية وهما القواعد الآمرة والقواعد التكميلية أو المفسرة, ونخصص فرعا أخيرا لمقارنة القانون بعلم الأخلاق الذي يشاركه في مهمة التنظيم الاجتماعي.
وسنتناول ذلك وفق ما يلي:
الفرع الأول: القاعدة القانونية.
الفرع الثاني: دور القانون في التنظيم الاجتماعي.
الفرع الثالث:القواعد الآمرة والقواعد التكميلية أو المفسرة.
الفرع الرابع: القانون والأخلاق.
الفرع الأول
القاعدة القانونية
القاعدة القانونية هي الخلية الأساسية التي يتألف منها القانون بمعناه العام.
وقد عرفها الدكتور سليمان مرقس بأنها خطاب موجه إلى الأشخاص في صيغة عامة له قوة الإلزام.
من هذا التعريف نجد أن1:
1 ـ القاعدة القانونية خطاب موجه إلى الأشخاص:
وهذا الخطاب الموجه إلى الأشخاص إما أن يتضمن أمراً لهم بالقيام بفعل معين, أو نهياً عن القيام به, أو مجرد إباحة هذا الفعل دون أمر به أو نهي عنه.
$ فعلى سبيل المثال المادة ( 554 ) من القانون المدني: تنص على أنه (( يجب على المستأجر أن يقوم بوفاء الأجرة في المواعيد المتفق عليها )).
فهذه القاعدة تتضمن الأمر بفعل معين هو أداء الأجرة إلى المؤجر.
و المادة (185 ) من قانون التجارة بالنسبة للشركات المغفلة تنص على أنه: (( لا يجوز الجمع بين عضوية مجلس الإدارة وأية وظيفة عامة )).
فهذه المادة تتضمن النهي عن فعل معين هو الجمع بين عضوية مجلس الإدارة في الشركة المغفلة والوظيفة العامة.
$ولو أخذنا المادة ( 549 ) من القانون المدني التي تنص على أنه (( يجوز للمستأجر أن يضع بالعين المؤجرة أجهزة لتوصيل المياه والنور الكهربائي والتلفون والراديو وما إلى ذلك )). لوجدناها تتضمن إباحة فعل معين والترخيص به دون أمر ولا نهي.
ونلاحظ أنه لا يشترط في القاعدة القانونية أن تأتي بصيغة الأمر أو النهي أو الإباحة والترخيص لأنها قد تأتي على شكل إنذار موجه إلى الأشخاص بترتيب أثر ما على واقعة معينة فيستنتج من هذا الإنذار ما تريد القاعدة أن تأمر به.
فالمادة ( 388 ) من قانون العقوبات التي تنص على أنه:
(( كل سوري علم بجناية على أمن الدولة ولم ينبئ بها السلطة العامة في الحال عوقب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات وبالمنع من الحقوق المدنية )).
فهذه القاعدة لا نجد فيها صيغة الأمر, وإنما نجد فيها إنذاراً إلى من يتوانى عن إخبار السلطة العامة عن الجنايات الماسة بأمن الدولة.
2 ـ القاعدة القانونية يجب أن تكون عامة ومجردة:
لا يكفي أن يكون هناك خطاب موجه إلى الأشخاص سواء أكان أمراً أو نهياً أو مجرد إباحة وترخيص ليعتبر أن هناك قاعدة قانونية, بل يجب أن يكون هذا الخطاب أو يجب أن تكون هذه القاعدة عامة ومجردة1.
ومعنى ذلك أن القاعدة القانونية يجب ألا تخص شخصاً معيناً بالذات أو تتعلق بحادثة معينة, بل يجب أن تكون قابلة للتطبيق على كل من يمكن أن تتوافر فيهم الصفات والشروط التي تنص عليها.
وفي الواقع, فإن مفهوم القاعدة نفسه يفترض الاطراد وإمكانية التطبيق في الحالات والظروف المماثلة, أما الأحكام التي لا تطبق إلا على أشخاص معينين أو حالات محددة بالذات فإنها لا تكون قواعد قانونية بالمعنى الصحيح.
مثال:
1 ـ يحرم الطالب الذي يرتكب عملية الغش في الامتحان من متابعة امتحانه.
2 ـ يحال الموظف الذي يبلغ سن الستين على التقاعد.
إن كلا المثالين يمكن إدراجهما في عداد القواعد القانونية لأنهما لا يخصان طالباً أو موظفاً معين بذاته وإنما هما عبارة عن نصين عامين يمكن تطبيقهما على كل طالب يرتكب عمليه الغش في الامتحان وعلى كل موظف يبلغ سن الستين.
أما المثالين الآتين:
1 ـ يحرم الطالب ( فلان ) من متابعة امتحانه لارتكابه عملية الغش.
2 ـ يحال الموظف ( فلان ) على التقاعد لبلوغه سن الستين.
فلا يمكن اعتبارهما بمثابة قاعدتين قانونيتين لأن الحكمين اللذين يتضمنانهما يقتصر تطبيقهما على الطالب أو الموظف المعينين فيهما دون أن يتجاوزهما إلى غيرهما.
من جهة أخرى لا يشترط في القاعدة القانونية أن تتناول في حكمها عدداً كبيراً من الأشخاص أو أن تشمل المواطنين جميعاً ليعتبر أنه قد توافرت فيها صيغة العموم.
فكثرة الأشخاص الذين تطبق عليهم القاعدة أو قلتهم ليس لها اعتبار ولكن المعتبر في القاعدة القانونية هو ألا تتناول أشخاصاً معينين بذاتهم, بل أن يعم حكمها جميع الأشخاص الذين تنطبق عليهم الصفات والشروط المحددة فيها.
لذلك فقد تتناول القواعد القانونية في أحكامها فئات من الناس لا يكون عدد أفرادها كبيراً كالقواعد المتعلقة بالتجار أو الموظفين أو أساتذة الجامعة أو غيرهم.
وأحياناً قد تتناول القاعدة بحكمها شخصاً واحداً كالقواعد التي تتضمن تحديد صلاحيات واختصاصات رئيس الجمهورية مثلاً فهذه القواعد تعتبر قواعد قانونية على الرغم من أن تطبيقها يتعلق برئيس الجمهورية وحده. ذلك لأن الأحكام التي تتضمنها ذات صفة عامة بحيث يمكن تطبيقها بالنسبة إلى أي رئيس للجمهورية يجري انتخابه وليست خاصة برئيس معين بشخصه وذاته.
3 ـ القاعدة القانونية يجب أن تتصف بالصيغة الإلزامية
$-يقصد بذلك أن يكون للقاعدة القانونية مؤيد أو جزاء, بحيث يجبر الأشخاص على إتباعها ويفرض عليهم احترامها ولو بالقوة عند الاقتضاء.
والمؤيد أو الجزاء هو الأثر الذي يترتب على مخالفة القاعدة القانونية.
فمثلاً الأثر الذي يترتب على مخالفة القاعدة التي تأمر بعدم السرقة هو الحبس, والأثر الذي يترتب على مخالفة القاعدة التي تأمر بالوفاء بالديون هو التنفيذ الجبري...
والمؤيدات القانونية تعود في الدول المتمدنة إلى الدولة وحدها, فهي التي تملك وحدها وسائل إجبار الأشخاص على احترام القاعدة القانونية وهي التي ترتب الآثار الناجمة عن مخالفتها.
أي أننا نقصد بقولنا أن القاعدة القانونية تتصف بالصبغة الإلزامية هو أن تكون مؤيدة من قبل الدولة.
وهذا ما يميز القاعدة القانونية عن سائر القواعد الاجتماعية والأخلاقية ( كقواعد الأخلاق ) التي تفتقر إلى المؤيد من قبل الدولة.
بحيث لا يمكن للدولة أن تعاقب الفرد على عدم اللطف ( كقاعدة أخلاقية ).
بالمقابل ليس من الضروري أن يكون احترام الناس للقاعدة القانونية وتطبيقها من قبلهم ناجماً عن تأييد الدولة لها وفرضها إياها, بل قد يطبقونها من تلقاء أنفسهم لأنهم يعتقدون أنها واجبة التطبيق ولو لم تكن مفروضة عليهم من الدولة ومؤيدة من قبلها.
والمؤيد الذي تضعه الدولة للقاعدة ليكفل احترامها وتطبيقها من قبل الأشخاص يكون على نوعين1:
1 ـ المؤيد الجزائي: ويقصد به الزجر, ويكون ذلك بإيقاع العقوبة بالمخالف للقاعدة القانونية ردعاً له ولغيره عن مخالفتها.
2 ـ المؤيد المدني: ويقصد به الجبر, يكون ذلك بإعادة الأمور إلى نصابها وإزالة الخلل الذي أحدثته مخالفة القاعدة القانونية أو إصلاحه على قدر الإمكان.
والمؤيد الجزائي قد يقع على جسم الشخص ( كالسجن أو الإعدام ), وقد يكون عبارة عن غرامة يعاقب بدفعها.
أما المؤيد المدني فيكون على أنواع2:
1 ـ فهو إما أن يكون تنفيذاً عينياً وذلك بتنفيذ ذات الالتزام ( كإجبار البائع مثلاً على تسليم المبيع للمشتري ).
2 ـ أو أن يكون تنفيذاً بمقابل وذلك عن طريق التعويض ( كإجبار من سبب بعمله غير المشروع ضرراً للغير على دفع تعويض له عنه ).
3 ـ أو أن يكون ببطلان الاتفاق المخالف للقاعدة القانونية, كبطلان الاتفاق الواقع على بيع المخدرات.
وللتميز بين المؤيد الجزائي والمؤيد المدني نطرح المثال التالي:
لو فرضنا أن شخصاً يقود سيارته مخالفاً قواعد المرور قد صدم شجرة واقتلعها فحكم عليه بغرامة من جهة وبالتعويض عن الشجرة من جهة ثانية.
فالمقصود من الغرامة ليس إصلاح الضرر بل معاقبته لمخالفته قواعد المرور ( مؤيد جزائي ).
أما التعويض فلا يهدف إلى معاقبته وإنما لإزالة الضرر الذي ألحقه بمالك الشجرة من جراء عمله غير المشروع ( مؤيد مدني ).
أي أن المؤيد الجزائي والمؤيد المدني إنما يترتب على مخالفة القاعدة القانونية.
ولكن المؤيد الجزائي يقصد به المعاقبة, بينما لا يقصد بالمؤيد المدني سوى إعادة الأمور إلى نصابها.
الفرع الثاني
دور القانون في التنظيم الاجتماعي
صلة القانون بالحياة الاجتماعية:
إن بين القانون والحياة داخل المجتمع صلة وثيقة العرى وارتباطاً على جانب من الأهمية.
فالقانون لا يمكن أن ينشأ إلا حيث يكون هناك مجتمع يتولى تنظيمه وتحديد القواعد التي يجب أن تقوم عليها علاقات الأفراد فيه. ولا يمكن أن نتصور قيام مجتمع دون نظام صالح يبنى عليه ويتولى القانون أمر تحديده وفرضه.
وما دام القانون يتولى تنظيم المجتمع وعلاقات الأفراد فيه، فمن الطبيعي لنا أن نتساءل عن الدور الصحيح الذي يؤديه هذا السبيل والحد الذي يقف عنده في تدخله في شؤون الأفراد وعلاقاتهم المختلفة,
الجواب على هذا السؤال يختلف في الواقع باختلاف وجهات النظر التي تتولى معالجته والرد عليه، ونستطيع أن نميز خلال وجهات النظر هذه بين مذهبين رئيسين هما: المذهب الفردي أو الحر من جهة، والمذهب الاشتراكي أو التدخلي من جهة ثانية.
المذهب الفردي أو المذهب الحر
يقوم هذا المذهب الذي ساد أواخر القرن الثامن عشر والقسم الأكبر من القرن التاسع عشر، $على تقديس حرية الفرد تقديساً ---- كاملاً واعتبارها حقاً أساسياً من واجب المجتمع أن يبذل قصارى جهده للمحافظة عليها، ومن واجب القانون ألا يتدخل للحد منها إلا بالقدر الضروري جداً الذي لا غنى عنه1.
ففي ظل المذهب الفردي أو الحر نجد إذن أن نطاق القانون يضيق إلى حد كبير هو هذا الذي يقتضيه تأمين إقامة الحرية للجميع، ومنع الناس من التجاوز بعضهم على بعض.
المذهب الاشتراكي أو مذهب التدخل:
إن المذهب الفردي أو الحر، على ما يقتضيه من مثل عليا ودعوى مخلصة إلى تقديس $حرية الفرد واحترامها، قد بدا، بسبب التطور الاجتماعي الأخير الذي ظهرت بوادره في منتصف القرن التاسع عشر ولا يزال مستمراً حتى يمنا هذا غير كاف لإقامة نظام صالح يؤمن العدل والطمأنينة والاستقرار لجميع المواطنين في المجتمع.
وعلى هذا قامت النظريات الاشتراكية الحديثة تدعو الدولة إلى التدخل في شؤون الأفراد لحماية الضعفاء من تسلط الأقوياء وسيطرتهم فالقانون بحسب هذه النظريات لا يجيب انم تقتصر مهمته على دور سلبي بل يجب أن يؤدي دوراً إيجابياً فيتولى بنفسه تنظيم علاقات الأفراد وشؤونهم حين يخفق هؤلاء في تنظيمها على أساس عادل صحيح1.
ففي ظل المذهب الاشتراكي أو مذهب التدخل نجد أن للقانون مجالات أوسع واعم من المجال الذي يريده أن يدور فيه المذهب الفردي لأن دور القانون في الواقع لا يقتصر على تأمين الحرية للجميع وتركهم يعملون بأنفسهم وإنما هو يقوم أيضاً على التدخل في أعمالهم وشؤونهم لتنظيمها عندما تقتضي الضرورة أو المصلحة ذلك ومن هنا كان مبعث الاتساع الحالي لنطاق علم القانون.
الفرع الثالث
القواعد الآمرة والقواعد التكميلية أو المفسرة
يمكن تقسيم القواعد القانونية إلى قواعد آمرة وقواعد تكميلية أو مفسرة2.
أما القواعد الآمرة: ( القواعد الناهية ): فهي تهدف إلى حماية مصالح المجتمع الأساسية ولذلك لا يسمح للأفراد باستبعاد أحكامها وتبني أحكام غيرها فيما يجرونه من عقود أو تصرفات قانونية.
أما القواعد التكميلية أو المفسرة ( قواعد معلنة ):
فهي خلافاً للقواعد الآمرة, لا تهدف إلى حماية مصالح المجتمع الأساسية وإنما تتعلق مباشرة بمصالح الأفراد, ولذا يسمح لهؤلاء الأفراد باستبعاد أحكامها إذا شاءوا والأخذ بأحكام غيرها يختارونها بأنفسهم لأنهم الأولى بتقدير مصالحهم وطرق تحقيقها.
ونستطيع القول بوجود ثلاثة أنواع من الأحكام التي تتبع في تنظيم النشاط الإنساني والعلاقات بين الأفراد في المجتمع:
1 ـ الأحكام الاتفاقية أو التعاقدية.
2 ـ الأحكام التي تتضمنها القواعد المفسرة أو التكميلية.
3 ـ الأحكام التي تتضمنها القواعد الآمرة.
ونضرب المثال الآتي على هذه الأحكام:
إذا اتفق البائع والمشتري على أن يبيع الأول للثاني عقاراً يملكه وأن يدفع الثاني إلى الأول لقاء هذا العقار مبلغ خمسين ألف ليرة سورية, وأنهما اتفقا في عقد البيع على أن يدفع المشتري للبائع نصف ثمن العقار حين تسليمه إياه وأن يدفع النصف الآخر بعد ذلك على قسطين مثلاً.
كما اتفقا أيضاً على أن يدفع المشتري ثمن العقار بالعملة الذهبية.
فاتفاق كل من البائع والمشتري على دفع مبلغ خمسين ألف ليرة سورية لقاء ثمن العقار وهو حكم اتفاقي لم يخالف به قاعدة قانونية سابقة ( لعدم وجود قاعدة تحدد ثمن العقار بالنسبة إليهما ).
واتفاقهما على أن الثمن لا يدفع كله حين تسليم المبيع وإنما يتم دفعه على أقساط فهذا الاتفاق يخالف الحكم الذي تنص عليه قاعدة قانونية في المادة ( 425 ) ق. م التي تقضي بأن الثمن يكون (( مستحق الوفاء في الوقت الذي يسلم فيه
المبيع )) إلا أن هذه المخالفة جائزة لأن المادة ( 425 ) نصت على أن الحكم الوارد فيها يمكن للمتبايعين الاتفاق على خلافه. أي أن هذه القاعدة هي قاعدة تكميلية أو مفسرة لأنه يجوز الاتفاق على خلافها.
أما اتفاق كل من البائع والمشتري على أن يدفع المشتري ثمن العقار بالعملة الذهبية. فهو يخالف الحكم الذي تقرره قاعدة قانونية واردة في نص تشريعي يقضي بمنع التداول بالعملة الذهبية.
وهذه المخالفة غير جائزة لأن القاعدة القانونية الواردة في النص المشار إليه هي قاعدة آمرة لا يجوز الاتفاق على خلافها وأي اتفاق من هذا القبيل يعتبر باطلاً.
و لمعرفة القاعدة القانونية فيما إذا كانت آمرة أم تكميلية, ننظر إلى عبارة النص الذي وردت فيه, فإذا وجدنا فيها ما يشير إلى أنه من غير الجائز مخالفة الحكم الذي تنص عليه ( يعتبر باطلاً كل اتفاق مخالف ) أو ( بالرغم من كل اتفاق مخالف ) كانت القاعدة آمرة.
أما إذا وجدنا عبارة ( إلا إذا اتفق المتعاقدان على خلاف ذلك ) أو ( ما لم يكن هناك اتفاق مخالف ) كانت القاعدة تكميلية أو مفسرة.
أما إذا لم يتبين نوعها من عبارة النص نلجأ إلى تقدير مدى صلة القاعدة بمصالح المجتمع الأساسية أو بمصالح الأفراد ثم تحديد نوعها على هذا الأساس فإذا كانت تتعلق بمصالح المجتمع تكون قواعد آمرة. وإذا تعلقت بمصالح الأفراد كانت قواعد تكميلية أو مفسرة1.
وتعود تسمية القواعد الآمرة بهذا الاسم إلى أن الأحكام التي تفرضها هذه القواعد على الأشخاص هي أحكام مطلقة لا يجوز لهم مخالفتها أبداً.
أما القواعد التكميلية أو المفسرة فقد سميت كذلك لأن الأفراد قد لا يحددون في عقودهم أو اتفاقاتهم جميع الأمور والمسائل التفصيلية التي يمكن أن تنشأ عنها ولا يبينون أحكامها فتكون إرادتهم غير ظاهرة أو جلية بالنسبة لهذه الأمور. ولهذا تأتي القواعد التكميلية أو المفسرة لتكمل إرادة هؤلاء الأفراد وتفسر ما خفي منها.
فهي تكميلية لأنها تكمل إرادة الأفراد بالنسبة للأمور التي لم يتعرضوا لذكرها في عقودهم ومفسرة لأنها تفسر هذه الإرادة حين لا يبينها الأفراد بأنفسهم.
القوة الإلزامية للقواعد التكميلية أو المفسرة
يجب أن لا نتوهم بأن القاعدة القانونية الآمرة هي وحدها التي تعتبر ملزمة والتي تحظى بتأييد الدولة, وأن القاعدة التكميلية أو المفسرة ليست ملزمة للأفراد ولا تستطيع الدولة فرضها عليهم بالقوة عند الاقتضاء.
لأن القواعد القانونية أياً كان نوعها, هي قواعد ملزمة, وهي قواعد مؤيدة بقوة الدولة وسلطانها ومن الممكن فرض احترامها على الناس فرضاً, وبدون هذا الشرط لا يمكن أن تعتبر قواعد قانونية بالمعنى الصحيح, بل هي تعتبر حينئذ مجرد قواعد أخلاقية أو مجاملة أو نحو ذلك1.
أي أن الفرق بين القواعد الآمرة والتكميلية أو المفسرة ينحصر في أن القواعد الآمرة لا يمكن للأشخاص أن يتفقوا على خلافها في عقودهم. بينما يمكن لهم ذلك بالنسبة للقواعد التكميلية أو المفسرة.
فإذا اتفق هؤلاء الأشخاص على أحكام تختلف عن الأحكام التي تتضمنها القواعد التكميلية أو المفسرة في عقودهم طبقت عليهم هذه الأحكام التي اتفقوا عليها. وإذا لم يحدث بينهم مثل هذا الاتفاق طبقت عليهم الأحكام التي تتضمنها القواعد التكميلية أو المفسرة.
واعتبرت هذه القواعد بالنسبة إليهم حينئذ ملزمة لا يمكنهم التنصل من تطبيق أحكامها بل يرغمون على ذلك بقوة الدولة إذا اقتضى الأمر.
مفهوم النظام العام:
هو مجموعة الأسس الاجتماعية والاقتصادية والخلقية والسياسية والدينية التي يقوم عليها مجتمع من المجتمعات.
وبذلك يختلف مفهوم النظام العام من مجتمع إلى آخر بل ويتغير مفهومه ضمن المجتمع نفسه من زمان إلى آخر فهو ذو مفهوم نسبي متغير2.
وإن القواعد القانونية الآمرة يطلق عليها أيضاً اسم القواعد المتعلقة بالنظام العام فهي آمرة لا يجوز للأفراد مخالفتها أو الخروج عنها لأن المساس بها يشكل في الوقت نفسه مساساً بهذا النظام العام الذي تسعى إلى تحقيقه وحمايته.
ونحن نعلم أن القواعد الآمرة تهدف إلى حماية مصالح المجتمع الأساسية التي لا يسمح للأفراد بمخالفتها.
فمفهوم النظام العام إذاً تتمثل فيه هذه المصالح الأساسية للمجتمع, والقانون حين يجعل طائفة من قواعده آمرة لا يجوز لأحد مخالفتها فهو إنما يفعل ذلك لأن هذه القواعد تهدف إلى حماية النظام العام في المجتمع وبالتالي حماية المصالح الأساسية لهذا المجتمع.
$ ولكن ما هي ---- الأسس التي تؤلف النظام الحيوي للمجتمع ؟ أو ما هي المصالح الأساسية التي يسعى المجتمع إلى تحقيقها ؟
إن المصالح الأساسية للمجتمع تتجلى عادة بالنسبة للقانون المعاصر بالأمور التالية1:
1 ـ حماية الفرد في كل ما يتصل بحياته وسلامة أمنه وحريته.
مثلاً: القاعدة التي تقضي بتحريم الرق تعتبر قاعدة آمرة من النظام العام لأنها تهدف إلى حماية حرية الإنسان.
2 ـ حماية الدولة ومؤسساتها القانونية ونظام الحكم فيها:
وعلى هذا فإن جميع قواعد القانون العام التي تنظم العلاقات التي تكون الدولة طرفاً فيها قواعد آمرة من النظام العام.
3 ـ حماية العائلة وإقامتها على أساس سليم, فالقواعد التي تنظم أمور العائلة هي قواعد آمرة من النظام العام.
4 ـ حماية الأخلاق والآداب العامة: أي أن كل اتفاق يمس هذه الأخلاق يعتبر باطلاً لأنه يمس في نفس الوقت النظام العام في المجتمع.
5 ـ حماية بعض المصالح الاقتصادية والاجتماعية: وسن القواعد الآمرة لحمايتها, كما في قواعد قانون العمل التي تنظم علاقات أرباب العمل بالعمال.
مثلا إن تعدد الزوجات في سورية هو من النظام العام فلا يستطيع أحد أن يتفق على تحريم التعدد (تعدد الزوجات في سوريا قاعدة آمرة).
أما في فرنسا تحريم تعدد الزوجات هو من النظام العام لا يستطيع أحد أن يتفق على التعدد (تحريم تعدد الزوجات في فرنسا قاعدة آمرة).
الفرع الرابع
القانون والأخلاق
مقارنة القانون بالأخلاق:
تقوم بجانب قواعد القانون قواعد أخلاقية تلعب دوراً كبيراً في تنظيم علاقات الناس في المجتمع وتحدد سبل سيرهم وسلوكهم. ولكن التفريق بين القواعد القانونية والقواعد الأخلاقية لم يحدد بصورة عملية واضحة إلا في العصور الحديثة وخاصة في القرن الثامن العشر أما في العصور السابقة فقد كان التداخل بينهم كبيراً لحد يصعب التفريق معه بينهما.
$ولقد عرف الرومان نوعاً ما هذا التفريق حيث قال الفقيه (بول): إن ما يسمح به القانون لا يكون دائماً موافقاً للأخلاق وهو يعني بذلك وجود فرق بين القانون والأخلاق1.
وفي العصور القديمة كان الدين هو المسيطر بين أغلب الشعوب وكان ما يأمر به الدين $يعتبر في الوقت ذاته موافقاً للأخلاق وواجب الإتباع من الجهة القانونية.
وفي عصرنا الحاضر وبالرغم من التداخل الكبير بين القانون والأخلاق حيث أن قواعد القانون في أغلبها مستمدة من قواعد الأخلاق (فالقواعد التي تأمر بعدم السرقة هي قواعد أخلاقية وقانونية في ذات الوقت).
فقد حاول فقهاء القرن الثامن عشر وبخاصة (توماسيوس) و(كانت) بيان بعض الفوارق وهي فوارق يؤدي إليها اختلاف الغاية والهدف بالنسبة إليهما2.
فالأخلاق تهدف إلى تحقيق الطمأنينة والسلامة الداخلية للإنسان وبلوغ الكمال الفردي.
والقانون يهدف إلى تحقيق الطمأنينة والسلامة العامة أو الخارجية وتأمين النظام في المجتمع.
وعلى ما تقدم تبدو الفوارق بين القواعد القانونية والأخلاقية فيما يلي:
1 ـ اختلاف القانون والأخلاق من حيث النطاق:
إن نطاق القانون في الواقع أقل سعة من نطاق الأخلاق, ذلك أن القانون إنما يهتم فقط بقسم من أفعال الإنسان وتصرفاته وهذا القسم يتضمن التصرفات التي تدخل في نطاق سلوكه الاجتماعي.
بينما تشمل القواعد الأخلاقية هذا النوع من تصرفات الإنسان وتصرفاته الخاصة التي تدخل في نطاق سلوكه الفردي حتى ولو لم يكن لها أثر على علاقاته بالآخرين.
وعلى هذا نستطيع أن نميز بين ثلاثة مناطق بين القانون والأخلاق من حيث النطاق1:
أ ـ منطقة مشتركة بين القانون والأخلاق:
وهي تلك التي تتعلق بتصرفات الإنسان في المجتمع وصلاته بالغير كالقواعد المتعلقة باحترام حقوق وملكيات الآخرين ومنع ارتكاب الجرائم فهي قواعد يفرضها القانون والأخلاق معاً.
ب ـ منطقة خاصة بالأخلاق دون القانون:
وهي التي تتعلق بسلوك الإنسان وتصرفاته الفردية التي لا تأثير لها على صلاته بالآخرين.
كالحث على الصدق والشجاعة, فهي عبارة عن قواعد تفرضها الأخلاق وحدها دون القانون. لأنها لا تؤثر على صلاته بالآخرين وعلى حياته الاجتماعية.
وعلى هذا فإن القاعدة تظل تعتبر أخلاقية لا قانونية طالما أنها تتعلق بالفرد وحده دون أن تؤثر على الآخرين في المجتمع, أما إذا امتد تأثيرها إلى هؤلاء فتصبح قاعدة أخلاقية قانونية معاً.
فالأخلاق مثلاً تستنكر الكذب العادي الذي لا ينجم عنه ضرر للغير ولكن القانون لا يعاقب عليه, أما إذا نجم عن هذا الكذب ضرراً للغير كما في شهادة الزور, فلا يكون منع هذا الكذب قاعدة أخلاقية فقط بل قاعدة أخلاقية وقانونية معاً. وكذلك الأمر بالنسبة للأفعال الأخلاقية الأخرى كالجبن والفرار وما إلى ذلك.
ج ـ منطقة خاصة بالقانون دون الأخلاق:
كما في القواعد المتعلقة بتنظيم السير التي يفرضها القانون لتأمين النظام وتجنب الصدمات والحوادث.
2 ـ اختلاف القانون والأخلاق من حيث الشدة:
إذا كانت هنالك منطقة مشتركة بين القانون والأخلاق, وهي تلك التي تتعلق بتصرفات الإنسان ذات الصلة بحياته الاجتماعية وعلاقته بالآخرين في المجتمع, فإن القواعد القانونية قد تختلف في بعض الأحيان عن القواعد الأخلاقية في هذا المجال وتكون أقل شدة منها وأكثر تساهلاً بسبب مقتضيات المصلحة والضرورة.
وهنا يثور التساؤل التالي: لماذا تختلف قواعد القانون عن قواعد الأخلاق في حقل التنظيم الاجتماعي ؟
لأن الأخلاق تهدف دوماً إلى الإصلاح التام والكمال المطلق بينما يحرص القانون على مراعاة اعتبارات أخرى كالمصلحة والنفع إلى جانب المثل الأخلاقية التي يحاول تحقيقها.
$فالأخلاق مثلاً لا ترض أن يمتنع إنسان عن وفاء دينه مهما مر على هذا الدين من مدة أو زمن دون المطالبة به من صاحبه, أما القانون فإنه يبيح لهذا الإنسان أن يمتنع عن وفاء دينه بعد فترة معينة من الزمن إذا لم يطالبه به صاحبه خلال هذه الفترة وهذا ما يسمى بالتقادم لأنه يعتبر أن المصلحة تقتضي بألا تظل المنازعات القانونية قائمة دوماً ومستمرة.
وكذلك قد يعتبر منافياً للأخلاق أن يغبن البائع المشتري غبناً فاحشاً في ثمن ما يشتريه منه, ولكن القانون قد لا يمانع هذا الغبن إلا في ظروف خاصة, حرصاً على المصلحة التي تقضي باستقرار المعاملات وعدم إفساح المجال لإبطال العقود بصورة واسعة1.
وقد أشار الفقيه الفرنسي بورتاليس إلى هذا المعنى حيث قال:
" ما لا يكون مخالفاً للقوانين فهو مشروع, ولكن ليس كل ما هو مطابق للقوانين يكون شريفاً دوماً, لأن القوانين إنما تهتم بالمصلحة السياسية للمجتمع أكثر من اهتمامها بالكمال الخلقي للإنسان “.
3 ـ اختلاف القانون والأخلاق من حيث المؤيد أو الجزاء:
إن القواعد القانونية تتميز بأنها مؤيدة من قبل الدولة التي تستطيع فرضها بالقوة, أما القواعد الأخلاقية فإن الذي يفرضها على المرء هو ضميره ووجدانه أو الضمير العام في المجتمع ولكن بدون تدخل الدولة, فالإنسان يمتنع عن الكذب لأنه يكرهه أو خشية احتقار الناس له.
ولكن على الرغم من الفوارق بين الأخلاق والقانون فالصلة بينهما قوية جداً, ذلك لأن القاعدة الأخلاقية تحاول دوماً أن تصبح قاعدة قانونية والقواعد القانونية مستمدة في أغلبها من الأخلاق مما يمكننا من القول أن القانون ليس سوى الأخلاق حين ترتدي صبغة إلزامية.
الفصل الثاني
أسس القانــــون
سنحاول في هذا الفصل اعطاء لمحة موجزة عن أهم المذاهب والمدارس التي تولت البحث في أسس القانون وعرض آرائها ونظرياتها المختلفة عرضا سريعا وفقا لما يلي:
الفرع الأول: المذاهب الشكلية
الفرع الثاني: مدرسة القانون الطبيعي
الفرع الثالث: المدرسة التاريخية
الفرع الرابع: مذهب التضامن الاجتماعي
الفرع الخامس: مذهب العلم والصياغة
الفرع الأول
المذاهب الشكلية
أولاً:عرض النظرية
هذه المذاهب لا تبحث عن الأسس الخفية التي يقوم عليها القانون والعوامل العميقة التي تؤثر في وجوده بل تنظر فقط إلى القانون بوجهه الظاهر كمجموعة قواعد تقرها السلطة العامة أو الدولة فتعالجها على هذا الأساس دون أن تحاول التغلغل إلى ما وراء هذه القواعد للبحث في أسباب وعوامل نشوء تلك القواعد على هذا النحو.
والقواعد القانونية وفقاً لهذه المذاهب هي التي تتبناها الدولة فعلاً وتفرضها (وتسمى بالقواعد القانونية الوضعية ) وإذا أراد الباحث أن يبحث بها فعليه أن يبحث دون أن يتعداها إلى ما ورائها1.
وهذا القواعد جاءت موافقة لإرادة المشرع الممثلة لإرادة الدولة فالدولة هي المصدر الحقيقي للقواعد القانونية وهي أساسها الأول, وكل ما تعتبر الدولة من زمرة القانون يدخل في نطاقه فالقانون ما هو إلا مشيئة الهيئة الحاكمة أو الدولة ولا حاجة للبحث عن أسس أخرى فيما عدا هذه المشيئة.
وأهم فلاسفة هذا المذهب2:
الفقيه الإنكليزي "أوستن" الذي يستمد مذهبه من نظريات الفيلسوف "هوبز".
الفيلسوف هيجل الألماني.
الفقيه النمساوي كيلسن.
بعض الفقهاء الفرنسيين أنصار النظرية الوضعية وخاصة (ده مالبر ـ فالين).
ثانيا:ً تقدير النظرية
على الرغم من أن المذاهب الشكلية تتضمن نصيباً من الصحة ولكنها في نفس الوقت يمكن أن تعتبر خطرة وغير كافية:
أما أنها تعد صحيحة:
لأن القانون مرتبط بالدولة ومتصل بها كل الصلة وعلى هذا يجب أن تعتبر من زمرة القانون كل ما تعتبره الدولة كذلك وأن يعتبر خارجاً عنها كل ما لا ترضى الدولة أن تعتبره فتبنّي الدولة للقواعد القانونية أو إقرارها إياها هو المعيار الأكيد المباشر الذي يدلنا على صحة هذه القاعدة.
أم أنها تعد خطرة:
لأن المغالاة في الأخذ بهذه المذاهب قد يؤدي إلى تبرير استبداد الدولة وسيطرتها المطلقة أو إذا كان القانون هو مشيئة الدولة فقط فلا مجال بعدئذ إلى الشك في قيمة هذا القانون ومناقشته ما دام قد صدر عن الدولة ذات السلطان المطلق وصاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في هذا الشأن.
فالدولة بحسب هذه المذاهب ـ وخاصة المتطرفة منها كالمذاهب الألمانية ـ هي كل شيء وكل ما يصدر عنها من قواعد قانونية لا سبيل إلى الطعن فيه وهذا مما يؤدي أحياناً إلى تبرير بعض القواعد الصادرة عن الدولة التي قد لا تحقق العدل تماماً أو لا تحقق المصلحة العامة.
لماذا تعتبر المذاهب الشكلية غير كافية لتفسير أسس القانون ؟
$ - ذلك لتوقفها حين البحث عن هذه الأسس عند إرادة الدولة فقط واعتبار إياها الأساس الوحيد الذي يبنى عليه هذا القانون دون أن تحاول التعمق إلى ما وراءها والبحث عن العوامل الحقيقية التي تؤدي إلى نشوء القانون والأسس البعيدة التي يبنى عليها.
فإذا كانت الدولة هي الأساس المباشر الذي يبنى عليه القانون, فمن المهم أن نعرف ما هي الاعتبارات والعوامل التي تؤثر على إرادة الدولة نفسها حين انتقائها للقواعد القانونية, لأن الدولة لا تضع هذه القواعد اعتباطاً وإنما هي تقيمها على أسس ترتكز إليها وتبررها.
ومن هنا يتبين لنا عدم إمكان الاكتفاء بالمذاهب الشكلية وضرورة البحث فيما وراء إرادة الدولة عن الأسس العميقة التي يبنى عليها القانون.
الفرع الثاني
مدرسة القانون الطبيعي
أولاً:عرض النظرية
تعتبر هذه النظرية من أهم النظريات التي وجدت للبحث في أساس القانون فقد اعتبر قانوننا المدني القانون الطبيعي مصدراً أخيراً للقواعد القانونية يلجأ إليه القاضي للحكم بموجبه حين فقدان المصادر الأخرى وبالتالي فإن لمبادئ القانون الطبيعي فائدة عملية خاصة من حيث إمكان تطبيقها مباشرة من قبل القاضي بالإضافة إلى فائدتها الأصلية كأسس مثالية ترتكز عليها القواعد القانونية الوضعية.
ويرجع تاريخ هذه النظرية إلى عهد بعيد فقد عرفها اليونان والرومان وعرفها القانون الكنسي في القرون الوسطى ولكنها اكتسبت شكلها العلمي في القرن السابع عشر, وقد نادى بها عدد كبير من الفقهاء والفلاسفة وعلى رأسهم الهولندي غروسيوس1.
ومما زاد في أهمية هذه النظرية وانتشارها أن الثورة الفرنسية قد تبنتها وأخذت بها في مبادئها، وتتلخص هذه النظرية في النقاط التالية2:
1- تعتقد هذه النظرية أن هنالك إلى جانب القواعد القانونية الوضعية المطبقة فعلاً قواعد مثالية عادلة تسمو على القواعد الوضعية وتفرضها طبيعة الأشياء نفسها بالنسبة لعلاقة البشر فيما بينهم ومن هنا سميت النظرية القانون الطبيعي.
2- هذه القواعد التي تفرضها الطبيعة نفسها إنما يدلنا عليها ويكتشفها العقل السليم.
3- هذه القواعد مطلقة ثابتة لا تتغير ولا تزول فهي عامة بالنسبة لجميع الشعوب وواحدة بالنسبة لجميع الأزمنة.
4- إن هذه القواعد هي التي يجب أن تفرض نفسها وتهيمن على القواعد الوضعية فهي الأساس الذي يجب أن تستند إليه القواعد الوضعية لكي تكون واجبة الاحترام عليها ألا تخالف مبادئ القانون الطبيعي وتحرص على تطبيقها.
ونعرض لبعض الأمثلة التي تعتبر من مبادئ وقواعد القانون الطبيعي:
1 ـ احترام الحرية والملكية والسلامة الإنسانية.
2 ـ احترام المواثيق والعهود والوفاء بها.
3 ـ فرض تعويض عادل عن الأضرار التي يلحقها شخص بآخر بدون حق.
وهذه الأمور تعتبر طبيعية لأن العقل يرشدنا على صحتها حتى ولو لم تنص عليها القواعد القانونية الوضعية.
وتؤمن هذه النظرية بأن هناك حقوقاً أساسية فطرية للإنسان يستمدها من طبيعته ذاتها كانسان أهمها:
الحق في الحرية الذي تعتبره حقاً مقدساً لا يجوز النيل منه أو التجاوز عليه حتى من قبل الدولة نفسها.
وبالتالي فإن هناك صلة قوية تربط بين مذهب القانون الطبيعي والمذهب الفردي الذي يدعو أيضاً إلى تقديس الحرية.
ثانيا ً:تقدير النظرية
1 ـ ميزاتها:
إن نظرية القانون الطبيعي نظرية ذات طابع إنساني أو مثالي وقد ساعدت كثيراً على مقاومة الطغيان والاستبداد.
وهي على نقيض المذاهب الشكلية, إذ تعتبر أن هنالك مبادئ وقواعد عادلة تفرضها طبيعة الأشياء ويكتشفها العقل السليم ولا تتغير في الزمان أو المكان تحاول أن تجعل من فكرة العدالة مثلاً أعلى منفصلاً عن إرادة الدولة لا منبعثاً عنها, بل هي تحاول أن تحد من إرادة الدولة نفسها ومن سلطانها حين توجب عليها أن تستلهم في قواعدها القانونية التي تضعها مبادئ القانون الطبيعي المثالية العادلة وألا تخالفها في حال من الأحوال1.
2 ـ عيوبها:
إن الاعتقاد بوجود مبادئ مثالية مطلقة ثابتة في الزمان والمكان هو أمر فيه الكثير من الإغراق في التفاؤل والبعد عن الواقع. فالواقع يدلنا على أن هذه المبادئ نسبية لا مطلقة, فما نعتبره قانوناً طبيعياً في عصر من العصور أو بالنسبة لشعب من الشعوب قد لا يعتبر كذلك في عصر غيره أو بالنسبة لشعب آخر.
فنظام الرق مثلاً الذي نعتبره اليوم من أشد الأنظمة مخالفة لمبادئ القانون الطبيعي قد ساد زمناً طويلاً بالنسبة لأغلب شعوب العالم دون أن يستنكره العقل البشري آنذاك أو يأباه وفي هذا دليل واضح على أن المبادئ التي نسميها بمبادئ القانون الطبيعي هي أقرب ما تكون في الواقع إلى معتقداتنا وآرائنا الشخصية التي نؤمن بها منها إلى مثل عليا ثابتة لا تتغير.
ثالثا:ً تطور النظرية
القانون الطبيعي ذو المضمون المتغير والتي يعتبر أكبر مؤسسيها الفيلسوف الألماني ستاملر.
حاولت النظرية الجديدة أن تبقي على فكرة وجود القانون الطبيعي ولكن دون أن تعتبر أن المبادئ التي يتضمنها بمثابة هي مبادئ ثابتة مطلقة, بل اعترفت بنسبية هذه المبادئ وإمكانية تطورها1.
لكن هذا التطوير الذي طرأ عليها كاد أن يبعد النظرية عن هدفها الأصلي الذي ترمي إليه وأن يفقدها الكثير من أهميتها إذ أن هدف النظرية هو إقامة أسس ثابتة ومبادئ مثلى مطلقة للقواعد القانونية الوضعية أما أنصار التطوير فقد نادوا بنسبية الأسس وقابليتها للتغيير.
ومهما يكن من أمر هذه الانتقادات فإن نظرية القانون الطبيعي يظل لها الفضل الأكبر في أنها نبهت الأذهان إلى ضرورة التمسك بمبادئ مثلى تخضع لها القواعد القانونية الوضعية وهذه المبادئ والمثل إنما تدور كلها حول فكرة العدالة ذاتها وتنصهر فيها2.
الفرع الثالث
المدرسة التاريخية
أولاً:عرض النظرية
اشتهرت هذه النظرية في مطلع القرن التاسع عشر وجاءت كرد فعل لنظرية القانون الطبيعي التي تبنتها الثورة الفرنسية ولحركة التشريع الواسعة التي أخذت بالتزايد والانتشار في ذلك الوقت.
أخذ بهذه النظرية عدد كبير من الفقهاء الألمان وعلى رأسهم سافيني والذي أوضح مبادئه في رسالة شهيرة رد فيها على الفقيه تيبو الذي كان يدعو إلى تبني قانون مدني ألماني شبيه بالفرنسي.
وتقوم هذه النظرية على الاعتقاد بأن القانون من صنع الزمن ويتطور وفقاً لتطور المجتمع وحاجاته وأنه لا توجد قواعد ثابتة عامة بالنسبة لجميع الشعوب وجميع العصور وإنما هنالك نظم قانونية مختلفة يختص كل منها بأمة من الأمم وهو يتصل بتاريخها وماضيها ويتطور معها كما تتطور اللغة والتقاليد وسائر العلاقات الاجتماعية1.
فالنظرية التاريخية تعارض نظرية القانون الطبيعي ولا تؤمن بوجود أسس ثابتة يدل عليها العقل ويرتكز إليها القانون الوضعي بل ترى بأن القانون ينشأ عفوياً بفعل القوى الداخلية الكامنة في المجتمع.
فالشعب على مر العصور هو الذي ينشأ قواعده القانونية تبعاً لحاجاته.
والنظام القانوني في كل أمة إنما هو عصارة ماضيها ووليد تراثها التاريخي2.
ثانيا ً:تقدير النظرية
1ـ ميزاتها:
إن النظرية التاريخية تتضمن جانب كبير من الصحة من حيث أنها تبين أثر المجتمع في تكوين النظم القانونية وتطورها ومدى اختلاف هذه النظم باختلاف الأزمنة.
2 ـ عيوبها3:
من أهم الانتقادات التي وجهت للنظرية التاريخية:
أ- إن النظرية التاريخية إذ تعتبر أن النظم القانونية تنشأ وتتطور بصورة عفوية بفعل القوى الداخلية الكامنة في المجتمع إنما تنكر في الوقت نفسه أثر الإرادة الإنسانية الواعية في إنشاء هذه النظم وتطورها وفي الواقع يقول أيهرنج أن التطور لا يتم دوماً من تلقاء نفسه ولكن بعد صراع عنيف سعياً وراء غاية مرسومة, كما أن أغلب المبادئ القانونية السائدة في عصرنا كإلغاء الرق مثلاً لم يتم اكتسابها عفوياً ولكن بعد صراع مرير من أجلها, فالإنسان يلعب دوراً إيجابياً في إيجاد القانون وتطوره.
ب- تعتبر النظرية التاريخية أن خير مصدر للقواعد القانونية هو العرف الذي يتبع المجتمع في تطوره ويخضع له, وهي تنظر نظرة المرتاب إلى التشريع لأنه بإقراره قواعد ثابتة يحد من التطور الطبيعي للقانون ويعيق تقدمه كما ترى أن دور التشريع يجب أن لا يتعدى إقرار ما تقضي به الأعراف وتبنيه.
ولكن من المغالاة اعتبار التشريع يعيق دوماً تطور القانون وخاصة في عصرنا الذي أصبح من السهل فيه إصدار التشريعات المختلفة في شتى المناسبات ووفقاً لتطور الحاجات الاجتماعية كما أنه من الخطأ القول أن التشريع يجب أن يقتصر فقط على إقرار الأعراف وتبنيها إذ كثيراً ما نجد أن التشريع يأتي ليعدل في هذه الأعرف أو ليلغيها حين يجد المشرع أنها لم تعد تناسب مصلحة المجتمع1.
ت- إن النظرية التاريخية تؤكد أن هنالك لكل أمة نظاماً قانونياً خاصاً بها يخضع لمؤثراتها الداخلية وهو الوحيد الذي يلائمها ويفي بحاجاتها وهي في الوقت نفسه تنفي إمكانية اقتباس الأمم بعضها من بعض بالنسبة لهذه النظم.
فإذا كانت النظم القانونية تتأثر بالبيئة فإن هذا التأثير ليس كبيراً إلى الحد الذي يصعب معه كل تقارب أو اقتباس بينها.
بل إن التجارب قد أثبتت أنه من الممكن في كثير من الأحيان أن تتبنى أمة من الأمم قوانين أمة غيرها وأن تطبقها لديها وتستفيد مما تتضمنه من مبادئ وقواعد كما فعلت بلادنا عندما استمدت التشريعات المدنية والتجارية والجزائية الحديثة من التشريعات الأجنبية.
الفرع الرابع
مذهب التضامن الاجتماعي
أولاً: عرض النظرية
إن صاحب هذه النظرية هو الفقيه الفرنسي ديجي الذي يعد من أنصار المدرسة الوضعية العلمية التي يتزعمها الفيلسوف أوغست كونت.
وقد حاولت هذه المدرسة أن تتبنى في دراسة العلوم الاجتماعية ومن بينها علم القانون الطريقة العلمية المتبعة في دراسة العلوم الطبيعية القائمة على الملاحظة والتجربة, وقد حاول ديجي في دراسته للعوامل التي تؤدي إلى نشوء القواعد القانونية وتطورها أن يتوصل إلى تقرير بعض الحقائق العلمية ليستنتج منها نظريته عن التضامن الاجتماعي1.
الحقائق الأولية التي بنى عليها ديجي نظريته:
هي وجود مجتمع بشري لا يمكن للإنسان أن يعيش منعزلاً عنه من جهة ووجود تضامن بين أفراد المجتمع الواحد تفرضه عليهم طبيعة الحياة المشتركة من جهة ثانية وهذا التضامن هو:
- تضامن بسبب التقسيم في العمل.
- تضامن بسبب التشابه في الحاجات.
فتشابه حاجات الناس وتعددها وتوزيع العمل فيما بينهم لتأمين الحاجات التي لا يستطيع كل منهم أن يؤمنها بمفرده هما السبب في تعاونهم على العيش المشترك وتضامنهم الذي يفرضه عليهم نمط حياتهم.
ومن هنا وصل ديجي إلى النتيجة التالية:
القواعد القانونية توجد وتتطور لتحقق التضامن الاجتماعي في أحسن صوره وكل
ما من شأنه تحسين هذا التضامن يجب على القواعد القانونية أن تتبناه.
نتيجة أساسية في نظرية التضامن الاجتماعي:
فكرة التضامن الاجتماعي هي الأساس الصحيح الذي يجب أن تبنى عليه القواعد القانونية.
وحسب هذه النظرية إن ما يرينا مدى ملاءمة القواعد القانونية لهذه النظرية (هو البحث في ضمير أفراد المجتمع الذي توضع من أجله فإذا تأكد لدينا شعور هؤلاء الأفراد بضرورتها لدعم التضامن الاجتماعي اعتبرناها قاعدة قانونية واجبة التطبيق).
فلا يتم التأكد من مطابقة قاعدة قانونية لمفهوم التضامن الاجتماعي بمقارنتها بمبادئ ومثل نفرضها ونسلم بها.
مقارنة بين نظريتي التضامن الاجتماعي والقانون الطبيعي:
- نظرية القانون الطبيعي تؤمن بوجود مبادئ وقواعد طبيعية ثابتة أهمها الحقوق الفطرية الفردية للإنسان مثل الحرية والملكية التي من الواجب تقديسها والمحافظة عليها
- بالنسبة لنظرية التضامن الاجتماعي: الحقوق الفردية كسائر الحقوق التي تقرها القاعدة القانونية لا يمكن أن تبنى على مبادئ القانون الطبيعي والتي هي عبارة عن مبادئ مفترضة ولا تقوم على أساس علمي وإنما تبنى على فكرة التضامن الاجتماعي التي هي عبارة عن حقيقة واقعة يؤكد البحث العلمي وجودها.
نقاط هامة في النظرية:
- الحقوق الفردية حسب مبدأ ديجي لا يمكن أن تحترم إلا بالقدر الذي تحقق فيه المزيد من التضامن الاجتماعي ولا تتعارض معه, أما إذا تعارضت معه فإنها لا تستدعي الاحترام ويجب الحد منها وفقاً لمقتضيات الضرورة الاجتماعية.
-الحق الفردي حسب نظرية ديجي أقرب ما يكون إلى وظيفة اجتماعية تساهم في تدعيم التضامن الاجتماعي منه إلى حق طبيعي مقدس تغلب عليه الصبغة الفردية.
ثانياً: تقدير النظرية
1ـ ميزاتها1:
تمتاز نظرية ديجي في ناحيتين هما:
أ ـ أظهرت أهمية اللجوء إلى الطريقة العلمية في دراسة الوقائع والظواهر القانونية والكشف عن أسباب نشوئها وتطورها.
ب ـ جعلت من فكرة التضامن الاجتماعي الغاية الأساسية التي يجب أن تستند إليها القاعدة القانونية الوضعية وتسعى إلى تحقيقها.
كما أنها تصلح أن تكون مستنداً قوياً تعتمده المذاهب الاشتراكية.
1ـ عيوبها1:
الانتقادات التي وجهت إلى نظرية التضامن الاجتماعي أو الانتقادات التي وجهت إلى مذهب ديجي:
أ- الاقتصار على طريقة العلوم الطبيعية في دراسة الظواهر الاجتماعية فيه الكثير من مغالاة على اعتبار أن العلوم الطبيعية تدرس ما هو كائن أما العلوم الاجتماعية ومن بينها علم القانون تدرس ما هو كائن أيضاً وإنما لا نكتفي في دراستنا لعلم القانون بإظهار القواعد التي تحكم علاقات الأفراد في المجتمع ولكننا نرمي أيضاً إلى تحديد القواعد التي يجب أن تسود هذا المجتمع وإلى جانب معرفة الوقائع التي يدلنا عليها العلم لا بد لنا من التمسك بمثل أعلى يرشدنا إليه العقل.
وديجي لا ينكر وجود مثل هذه المثل لكنه لا يفترض هذه المثل افتراضاً مبنياً على العقل وإنما يستنتجه استنتاجاً بالطريقة العلمية التي تقوم على ملاحظة الوقائع وتفسيرها والمثل الذي تدل عليه هذه الوقائع هو التضامن الاجتماعي بحسب نظرية ديجي.
ب- الحقائق التي يحاول أن يثبتها ديجي بالطريقة العلمية وبالرغم من صحتها ليست هي كل شيء تدلنا عليه ملاحظة الوقائع الاجتماعية فعلى الرغم من كون الإنسان كائن اجتماعي إلا أنه يحتفظ بشيء من الكيان الذاتي والشخصية المستقلة وعلى الرغم من قوة عامل التضامن الاجتماعي فهو ليس الوحيد بالنسبة لهم.
فإلى جانبه هناك عوامل التنافس وتنازع البقاء مثلاً وإذا كان ديجي قد اختار عامل التضامن ليبني عليه نظريته فهو لم يقم بذلك استناداً إلى دراسة الواقع فحسب لأن الوقائع تكشف لنا عن عوامل أخرى غيره وهو يثبت بهذا أنه لا يستطيع أن يستغني عن استلهام العقل إضافة لدراسة الواقع2، وفيما بعد كان ديجي قد أضاف إلى فكرة التضامن الاجتماعي فكرة العدالة.
ت- اعتماد ديجي على معرفة شعور الأفراد إزاء ملاءمة القاعدة القانونية لفكرة التضامن الاجتماعي عرضه للنقد خاصة من الفقيه البلجيكي (دابان) الذي يرى عدم ثبوت اتجاهات الشعور الشعبي وعدم تميزها ففي كثير من الأحيان يكون الشعور الشعبي ليس له رأي معين اتجاه بعض الأمور القانونية وإذا وجد فقد يكون اتجاهات متعارضة لا يمكن استجلاء مفهوم واضح منها.
الفرع الخامس
مذهب العلم والصياغة
أولاً - عرض النظرية:
حاول فقهاء القرن العشرين وفي مقدمتهم الأستاذ جيني استخلاص وجمع النقاط الصحيحة التي ينادي بها كل مذهب من المذاهب وأطلق عليه اسم مذهب العلم والصياغة1، ويرى الأستاذ جيني أن علم القانون علم معقد وأنه يقوم على عنصرين رئيسين هما:
1 ـ عنصر العلم.
2 ـ عنصر الصياغة.
- أما عنصر العلم فهو الذي يقدم لنا الحقائق التي تصلح أن تكون أساساً لاختيار القواعد القانونية الملائمة.
- وعنصر الصياغة هو الذي يتيح لنا أن نصوغ هذه القواعد القانونية بشكل معين يجعلها صالحة للتطبيق العملي2.
يرى جيني أن عنصر العلم يتضمن أربعة حقائق مستمدة من أحد المذاهب المعروفة في تحديد أسس القانون حيث تعتبر هذه الحقائق بمثابة عوامل تؤثر في تكوين القواعد القانونية أي أسس تبنى عليها هذه القواعد.
أما الحقائق التي عددها جيني:
1 ـ الحقائق الواقعية.
2 ـ الحقائق التاريخية.
3 ـ الحقائق العقلية.
4 ـ الحقائق المثالية.
1 ـ الحقائق الواقعية:
تتضمن الظروف (المادية, الطبيعية, المعنوية) التي تحيط بنا كالأحوال الفيزيولوجية والاقتصادية والاجتماعية والدينية, وهي أمور يجب مراعاتها حين وضع قاعدة قانونية
2 ـ الحقائق التاريخية:
التطورات التي مرت بها القواعد والمؤسسات القانونية.
3 ـ الحقائق العقلية:
وهي المبادئ التي يوحي لنا بها العقل ويدلنا على صحتها.
4 ـ الحقائق المثالية:
وهي الأهداف التي يطمح إليها كل مجتمع ويعمل على تحقيقها.
وعلى سبيل المثال لتوضيح الحقائق:
أحكام الزواج:
يدفعنا عامل الواقعية: إلى أن نأخذ بعين الاعتبار بعض الأمور الفيزيولوجية كاختلاف تركيب بنية الرجل والمرأة أو اشتراط البلوغ وما إلى ذلك.
- يدفعنا عامل الحقائق التاريخية: لدراسة التطور التاريخي للعائلة ومعرفة المراحل التي مرت بها حتى اكتسبت صورتها الحالية.
- يدفعنا عامل الحقائق العقلية: إلى الاستدلال عن طريق العقل بأن الزواج يجب أن يكون طريقة لإنشاء أسرة وإيجاد الاستقرار.
- يدفعنا عامل الحقائق المثالية: إلى استجلاء الأهداف البعيدة التي يرمي إليها المجتمع الذي توضع لأجله القواعد القانونية.
ومن خلال دراسة طريقة جيني في وضع نظريته نستنتج ما يلي أن جيني استمد:
- عامل الحقائق الواقعية من المدرسة الوضعية العلمية.
- عامل الحقائق التاريخية من المدرسة التاريخية.
- عامل الحقائق العلمية من مدرسة القانون الطبيعي.
- عامل الحقائق المثالية من مذهب ايهرنج.
ثانياً: تقدير النظرية1:
1- ميزاتها:
تمتاز بعدم المغالاة والاعتدال ومحاولة الاستفادة من وجهة نظر من سبقها (بطريقة صحيحة) استطاع جيني أن يتحرر من خطأ من سبقه (الذين تبنوا عامل واحد من هذه العوامل).
2- عيوبها
النقد الذي وجه إلى النظرية:
نقدها الأستاذ روبيه بقوله: جمعت هذه النظرية تحت لواء العلم عدداً من الحقائق التي لا تندرج جميعها تحته فالحقائق الواقعية والتاريخية صحيح أنها من قبل الحقائق العلمية أو الحقائق المثالية والعقلية إلا أنها أقرب إلى السياسة القانونية التي تعتمد العقل أكثر من الحقائق العلمية.
الفصل الثالث
أقسام القانون
يقسم القانون إلى زمرتين رئيسيتين وهما: زمرة القانون العام وزمرة القانون الخاص. وسنحاول التعريف بالقانون العام والقانون الخاص والمقارنة بينهما, ثم اعطاء لمحة موجزة عن مختلف فروعهما. وذلك وفقا لما يلي:
الفرع الأول: القانون العام والقانون الخاص
الفرع الثاني: فروع القانون العام
الفرع الثالث: فروع القانون الخاص
الفرع الأول
القانون العام والقانون الخاص
تعريف القانون العام1:
هو القانون الذي ينظم العلاقات التي تكون الدولة بصفتها صاحبة السيادة طرفاً فيها فهو ينظم أجهزة الحكم وعلاقة الدولة مع غيرها من الدول والأفراد.
تعريف القانون الخاص:
هو القانون الذي ينظم العلاقات التي لا تكون الدولة بصفتها صاحبة السيادة والسلطان طرفاً فيها وهي علاقات الأفراد فيما بينهم وأحياناً علاقتهم مع الدولة أي حين لا تدخل الدولة بصفتها صاحبة السيادة بل كأي فرد عادي.
وإذا نظرنا لأي مجتمع من المجتمعات من السهل علينا ملاحظة وجود فئتين في هذا المجتمع:
فئة حاكمة تتمثل بالدولة ومؤسساتها وأجهزة الحكم فيها.
فئة محكومة تتمثل بالأشخاص العاديين من طبيعيين أو اعتباريين.
ونلاحظ أيضاً أن الفئة الحاكمة الممثلة بالدولة تتمتع ببعض الامتيازات الخاصة التي تقتضيها طبيعتها كهيئة حاكمة ومنها:
تنظيم جهاز الحكم, جباية الضرائب, علاقة الدولة مع موظفيها.
أما ما يتعلق بالأفراد من قواعد قانونية تنظم علاقاتهم فيما بينهم:
كقواعد الزواج والطلاق والبيع والشراء والإيجار والتجارة.... فيعتبر من قواعد القانون الخاص.
مثال (1):
إذا أرادت الدولة أن تشق سكة حديد وهذه السكة سوف تمر بأراضي الغير في هذه الحالة لا يأتي ممثل عن الدولة ويتفاوض مع أصحاب هذه الأراضي: لأن الدولة دخلت في هذه العلاقة بوصفها صاحبة السيادة والسلطان أي: تملك امتيازات لا يملكها الأفراد وذلك يعني أن هذا التصرف يدخل ضمن نطاق القانون العام.
مثال (2):
شخص لديه بناء وأرادت إحدى الوزارات أن تتخذه مقراً لها وطلبت استئجار البناء الذي يملكه.
هل يستطيع هذا الشخص أن يرفض هذا العرض ؟ في هذه الحالة نعم, لأن الدولة دخلت في هذه العلاقة بوصفها شخصاً عادياً وليس بوصفها صاحبة السيادة ولهذا يستطيع الشخص الرفض إن أراد.
ونلاحظ أن هذه العلاقة تدخل ضمن نطاق القانون الخاص.كما و حاول الفقهاء تصنيف القانون إلى مكتوب وغير مكتوب والمقصود بالكتابة: يجب أن تكون صادرة عن سلطة تشريعية بشكل كتابي كالدستور مثلاً ثم يجب أن يتم نشرها.وبالتالي فإن جمع عدة أعراف وكتابتها لا يعني أنها أصبحت قانون مكتوب.
معيار التفريق بين القانون الخاص والعام:
إن تقسيم القانون إلى عام وخاص يعود إلى عهد بعيد فقد عرف عند الرومان حيث اعتبروا من القانون الخاص كل ما يتعلق بمصالح الأفراد.
وقد حاول رجال القانون إيجاد معيار أو ضابط دقيق بين القانون العام والخاص لضبط القواعد القانونية لكنهم فشلوا في أغلب محاولاتهم.
أما المعايير الأكثر نصيباً في الصحة والصواب1:
1 ـ المفهوم المالي:
إن أكثر القواعد المنظمة للعلاقات المالية (بيع ـ شراء) هي من القانون الخاص أما القواعد التي تنظم العلاقات الأخرى كتنظيم جهاز الدولة هي من القانون العام.
وإذا أمعنا النظر نجد أن هذا المعيار غير صحيح إذ أن كثيراً من القواعد التي تنظم أموراً لا أثر للمفهوم المالي فيها تعتبر من القانون الخاص لا العام (كالقواعد الرامية إلى تنظيم العلاقات العائلية مثلاً) وهناك أموراً مالية كثيرة لها علاقة مباشرة بالقانون العام (كالضرائب والأملاك العامة).
2 ـ المصلحة العامة والمصلحة الخاصة:
أصحاب هذا المعيار برأيهم: القانون الخاص هدفه الرئيسي حماية المصلحة الخاصة للأفراد بينما هدف القانون العام حماية المصلحة العامة للمجتمع وهذا المعيار انتشر كثيراً بين رجال القانون إلا أنه بعيد عن الصحة والصواب فليس هناك حدوداً واضحة تمكننا من التمييز بين ما تحققه القواعد القانونية من مصلحة عامة ومصلحة خاصة وهناك عدد كبير من القواعد في القانون الخاص تغلب فيها المصلحة العامة بحيث نعتبرها قواعد آمرة.
مثال:
أمور العمل والعائلة تهدف إلى تحقيق المصلحة العامة وحمايتها وتصنف ضمن القانون الخاص.
3 ـ صفة أطراف العلاقة القانونية:
إذا كانت الدولة بصفتها صاحبة السيادة والسلطان هي أحد أطراف هذه العلاقة اعتبرنا هذه القواعد من القانون العام. وإذا كانت الدولة بمثابة الفرد العادي بدون سلطة متدخلة كانت هذه القواعد من القانون الخاص.
ويظهر أن هذا المعيار أفضل المعايير.
صعوبة التفريق بين القانون العام والقانون الخاص:
ليس من السهولة التفريق بين الزمرتين حتى أن العلماء اختلفوا في تصنيف بعض فروع القانون وتحديد الزمرة التي تنتسب إليها كالقانون الجزائي وأصول المحاكمات المدنية والتجارية.
القانون الجزائي:
يعتبر لدى معظم العلماء من فروع القانون العام " باعتبار المجتمع هو المتضرر الأول من الجريمة في حين " يصنفه البعض في زمرة القانون الخاص باعتبار أن القانون الجزائي يتعلق بحماية الأفراد في حياتهم وأعراضهم وأموالهم كذلك أصول المحاكمات المدنية والتجارية يرى الكثير من الفقهاء حالياً ضرورة تصنيفها في زمرة القانون العام بينما هي في زمرة القانون الخاص باعتبار أنها تتعلق بتنظيم وتحديد عمل سلطة من أهم سلطات الدولة.
وهي السلطة القضائية لذلك نرى صعوبة التفريق بين هاتين الزمرتين لذلك رأى بعض الفقهاء أن هنالك زمرة ثالثة بين القانون العام والقانون الخاص هي زمرة القانون المختلط1.
التداخل والتأثير المتبادل بين القانون العام والقانون الخاص:
إن تقسيم القانون إلى عام وخاص هو تقسيم مصطنع بعض الشيء ولا يوجد انفصال تام بين هاتين الزمرتين أو اختلاف كبير بين قواعدهما بل على العكس هناك نوع من التداخل والتأثير المتبادل بين قواعد القانون العام وقواعد القانون الخاص وبين أنواع العلاقات في كل منهما.
مثال:
هناك الكثير من المبادئ والقواعد التي تطبق في نطاق القانون العام مستمدة إلى حد كبير من قواعد ومبادئ القانون الخاص (كالقواعد المنظمة للعقود الإدارية أو للمسؤولية الإدارية التي تعتبر من قواعد القانون العام وهي مستمدة من قواعد نظرتي العقد والمسؤولية في القانون المدني الذي هو أبرز فروع القانون الخاص).
وهناك الكثير من قواعد القانون الخاص تفسح للدولة مجالاً كبيراً للإشراف عليها والتدخل بها مثل أمور العمل أو مراقبتها لبعض أنواع الشركات.
ومن أبرز الصور للتداخل بين القانونين الشركات والمشاريع المؤممة.
كالمشاريع التي كان يملكها أفراد تحولت إلى ملكية الدولة بعد الحرب العالمية الثانية مما اعتبره بعض الفقهاء دليلاً على توسع القانون العام.
بينما اعتبر آخرون بأن هذه المشاريع لم تفقد الأساليب والطرائق التي كانت تمارس بها فعالياتها في الماضي وهي أساليب تنظمها قواعد القانون الخاص (ميزانية هذه المشاريع وتنظيم علاقاتها بعمالها وعلاقاتها بالمستهلكين) مما تقدم نلاحظ صعوبة الفصل بين القانونين.
الفرع الثاني
فروع القانون العام
يضم القانون العام الفروع التالية1:
1 ـ القانون الدستوري.
2 ـ القانون الإداري ويلحق به القانون المالي.
3 ـ القانون الجزائي بما في ذلك أصول " المحاكمات الجزائية “.
4 ـ القانون الدولي العام.
القانون الدستوري2:
ويتضمن:
1 ـ المبادئ والقواعد الأساسية التي تحدد: الحقوق والواجبات العامة للمواطنين (الحريات ـ حماية الملكية ـ العدالة ـ المساواة).
2 ـ كيفية تنظيم السلطات العامة في الدولة " من تشريعية ـ قضائية ـ تنفيذية".
وعلاقة هذه السلطات بعضها ببعض ومع الأفراد حتى أن الدستور يسمى أيضاً بالقانون الأساسي والقواعد الدستورية تعتبر أكثر القواعد القانونية أهمية وأعلاها مرتبة.
القانون الإداري والمالي3:
الإداري ويتضمن: القواعد التي:
أ ـ تنظم نشاط السلطة التنفيذية.
ب ـ ممارسة السلطة التنفيذية نشاطها عن طريق الإدارات التابعة لها.
قواعد القانون الإداري لا يجمعها تشريع موحد بل توجد تشريعات متفرقة " كقانون الموظفين ـ بلديات ـ استملاك “.
مباحث القانون الإداري:
يبحث القانون الإداري في:
1 ـ التنظيمات الإدارية وتقسيماتها.
2 ـ نشاط الدولة ومظاهره " أعمال إدارية ـ الوظائف وما يتعلق بها ـ أملاك الدولة “.
3 ـ القضاء الإداري " تنظيمه ومهامه “.
ومن الجدير القول بأن هذا موجز بسيط لأن القانون حالياً في توسع مستمر متزايد في الدول الاشتراكية الحديثة.
القانون المالي1:
ويسمى بالتشريع المالي يتضمن القواعد التي تحدد كيفية " تنظيم الميزانية ـ الموارد ـ وجوه الصرف “.
والموارد تتألف من الضرائب والغلات التي تجنيها من أملاك الدولة ومن القروض التي تعقدها في بعض الأحيان.
أما النفقات متعددة أهمها ما يصرف من أجل رواتب الموظفين أو المشاريع ومصروفات الدفاع والإنشاءات وهناك صلة وطيدة ما بين القانون المالي والإداري.
القانون الجزائي وأصول المحاكمات الجزائية:
القانون الجزائي2: أو قانون العقوبات:
والقانون الجزائي ينقسم إلى قسمين:
1 ـ قسم عام.
2 ـ قسم خاص.
أ- يبحث في الجريمة وأنواعها:
(جنايات ـ جنح ـ مخالفات).
ب- يبحث في عناصر الجريمة وهي:
1 ـ العنصر القانوني " الفعل المرتكب مجرماً بنص القانون “.
2 ـ العنصر المعنوي " توفر النية الجرمية ـ أو الخطأ والإهمال ".
3 ـ العنصر المادي " القيام بارتكاب الجرم أو شرع أو شارك فيه".
ج -يبحث في العقوبة وأنواعها:
تحصر العقوبة بين حدين أعلى وأدنى كما يبحث في حالات عدم المسؤولية عن الجريمة.
أما القسم الخاص: فهو يبحث في أنواع الجرائم المختلفة: القتل ـ السرقة ـ الخيانة ـ التزوير....
والقانون المطبق في بلادنا الصادر بتاريخ 22/6/1949 يشمل مختلف هذه الأبحاث.
أصول المحاكمات الجزائية: تلحق بالقانون الجزائي تتضمن أصول التحقيق والطعن والتنفيذ.
وقانون أصول المحاكمات في سورية الصادر بتاريخ 13/3/1950 حدد السلطات التي يعود إليها أمر ما سبق من تحقيق وجمع الأدلة والقبض على الفاعلين وإحالتهم إلى القضاء وتقديمهم إلى المحاكم المختصة.
القانون الدولي العام1:
ويتضمن:
1 ـ القواعد التي تنظم العلاقات الدولية في حالات السلم والحرب والحياد.
2 ـ ينظم اكتساب الدولة في حالة السلم السيادة والاعتراف بها دولياً والتمثيل السياسي والقنصلي فيما بينها والمفاوضات لفض النزاعات.
3 ـ في حالة الحرب ينظم القانون الدولي علاقات الدول المتحاربة.
(كيفية إعلان الحرب وإنهائها ـ معاملة الأسرى ـ تنظيم استخدام الأسلحة ومنه ما كان منها محرماً دولياً).
1 ـ في حالة الحياد:
يحدد علاقات الدول الحيادية بالمتحاربين يبين الحقوق والواجبات المترتبة عليها.
وأخيراً: القانون الدولي يتضمن القواعد التي تتعلق بالمنظمات الدولية كالأمم المتحدة.
ويحتاج القانون الدولي العام إلى قوة دولية لفرض القواعد التي ينص عليها وإلا أصبح بدون مضمون عملي. ويستمد القانون الدولي مصادره من الأعراف الدولية والاتفاقات والمعاهدات.
بعض عيوب القانون الدولي:
1 ـ عدم مصداقية القانون الدولي.
2 ـ عدم وجود سلطة تشرع القوانين.
3 ـ عدم وجود جزاءات تفرض على خروقات تحدث حاليا وبشكل يومي وخاصة من قبل الكيان الصهيوني
الفرع الثالث
فروع القانون الخاص
يضم قسم القانون الخاص الفروع التالية:
1 ـ القانون المدني بما في ذلك قانون الأسرة والعائلة.
2 ـ القانون التجاري.
3 ـ أصول المحاكمات المدنية والتجارية.
4 ـ القانون الدولي الخاص.
5 ـ بعض الفروع المستحدثة مثل قانوني العمل والزراعة.
القانون المدني1:
تعريفه: القواعد التي تنظم علاقات الأفراد فيما بينهم إلا ما يتناوله بالتنظيم فرع آخر من فروع القانون الخاص.
العلاقات التي تقوم بين الأفراد تقسم إلى نوعين:
1 ـ علاقات عائلية:
$يعود تنظيمها إلى القانون المدني غالباً أما في الدول العربية فلها فرع مستقل نظراً لتعدد الأديان وضرورة خضوع كل طائفة إلى قواعدها الدينية الخاصة بها في مجال أمور العائلة.
$ 2- العلاقات المالية بين الأفراد انفصلت بشكل تدريجي عن القانون المدني وأصبحت لها فروعاً خاصة كقانون التجارة الذي ينظم العلاقات التجارية والعمالية.
لذلك يقتصر القانون المدني في بلادنا العربية على تنظيم العلاقات المالية.
وبالرغم مما تقدم فإن للقانون المدني أهمية بالغة تبدو في الأمور التالية:
1 ـ القانون المدني هو الأصل الذي تفرعت عنه بقية فروع القانون " تجارة وعمل "
2 ـ القانون المدني لا يختص بفئة معينة بل يطبق على جميع المواطنين دون استثناء
3 ـ عند عدم وجود قواعد في فروع القانون الأخرى فعودتها دائماً إلى القانون المدني.
تطور القانون المدني في بلادنا:
ظلت الدول العربية بما فيها سوريا لقرون طويلة تعمل بموجب الشريعة الإسلامية في كل الأمور تستقى من المذاهب المختلفة وتعتمد على: الكتاب ـ والسنة ـ والإجماع ـ والاجتهاد إلا أن الدولة العثمانية أحدثت قانون التجارة والجزاء وتشريع الأحكام العدلية والأمور المتعلقة بالعقارات.
$ وعلى سبيل المثال مجلة الأحكام العدلية التي صدرت سنة 1293 هـ وأخذت قواعدها من المذهب الحنفي.
ومجلة الأحكام العدلية هي من أهم الأعمال التي صاغت الأحكام حيث بقيت سورية تطبق ما ورد في مجلة الأحكام العدلية حتى بعد زوال الحكم العثماني وأجري في عهد الانتداب الفرنسي تعديلاً فرنسياً لبعض النواحي المدنية " قانون الملكية العقارية الصادر سنة 1930 قرار رقم 3339.
$أما بعد استقلال سورية فلقد ألغت التشريعات الصادرة عن كل من:
$الدولتين العثمانية والفرنسية كمجلة الأحكام العدلية والقرار 3339،وصدر بتاريخ 18 أيار 1949 المرسوم التشريعي رقم 84.
$----و القانون المدني الحالي الذي أخذ بكامله تقريباً عن القانون المدني المصري، المستمد $بدوره عن الغرب أما الخلاف الطفيف ما بين القانون المدني السوري والمصري ويتمثل بالأحكام العقارية المأخوذ عن القرار 3339.وقد استغرق اثني عشر عاماً لصدروه من عام 1936 إلى 1948.
أما مصادر القانون المدني المصري المأخوذ عنه القانون المدني السوري فهي:
-التشريع المدني المصري المستمد من التشريع المدني الفرنسي مع بعض التعديلات. إذ طبقت مصر منذ عام 1876 القانون المدني الفرنسي.
- اجتهاد القضاء المصري في تطبيق نصوص ذلك التشريع وتفسيرها وإغنائها بالحلول العملية الملائمة لتطور الحاجات الاجتماعية.
- التشريعات الإسلامية وهي من أهم المصادر التي اعتمد عليها القانون.
- التشريعات أو التقنيات الأجنبية الحديثة. وفي مقدمتها القانون الفرنسي والألماني $والسويسري التي استفاد التشريع السوري منها واستقى أفضل ما فيها.
قانون الأسرة والعائلة1:
$وينظمها حالياً بالنسبة للمسلمين في سورية قانون الأحوال الشخصية صدر بتاريخ 17/9/1953 وهو مستمد من الشريعة الإسلامية ويتضمن أحكام الزواج، والطلاق، والنسب والأهلية والنيابة الشرعية، والوصية والميراث ونحو ذلك.
أما بالنسبة لغير المسلمين من الطوائف المسيحية واليهودية: فقد نصت المادة الأخيرة من هذا القانون على تطبيق ما لدى كل طائفة من أحكام دينية تتعلق بـ (خطبة ـ زواج ـ نفقة $زوجية ـ نفقة صغير ـ بطلان زواج ـ حله ـ رباطه ـ البائنة (الدوطة) ـ الحضانة). $كما نصت المادة قبل الأخيرة من القانون على بعض الأحكام الخاصة بالطائفة الدرزية.
القانون التجاري1:
$يتضمن القواعد التي تطبق بالنسبة للتجار وعلى الأعمال والأمور التجارية.
ويعود سبب انفصاله عن القانون المدني إلى ما يمتاز به من معاملات تجارية تقوم على التبسيط والمرونة والسرعة والثقة.
والقانون التجاري يقسم إلى قسمين هما:
1 ـ القانون التجاري البري.
2 ـ القانون التجاري البحري.
يضاف إليها قسم جديد يختص بالتجارة الجوية.
$أما القانون التجاري البري فينظمه في سوريا القانون الصادر بتاريخ 22/6/1949 وقد صدر قانون جديد في عام 2007 ويبحث بشكل عام في:
(التجار ـ المؤسسات التجارية ـ الشركات التجارية ـ الأعمال التجارية ـ العقود التجارية ـ الأسناد التجارية ـ الأسناد القابلة للتداول ـ الصلح الواقي والإفلاس..).
$وأما القانون التجاري البحري:
فقد صدر بتاريخ 12/3/1950 وينظمه حالياً القانون رقم 46 تاريخ 28/11/2006 ويبحث في: (السفن وملكيتها ـ عقود العمل البحري ـ إيجار السفن ـ عقود النقل البحري ـ الأخطار البحرية وضمانها).
أصول المحاكمات المدنية والتجارية2:
$يتضمن القواعد التي تبين الإجراءات الواجب على المحاكم تطبيقها وعلى الأفراد اتباعها في الدعاوى التي يقيمها هؤلاء فيما يتعلق بأمورهم المدنية والتجارية، وأصول تنفيذ الأحكام الصادرة بشأنها.
$وقد صدر قانون أصول المحاكمات 28/9/1953 فحدد اختصاص كل نوع من المحاكم بالنسبة للدعاوى التي يجوز عرضها عليه، وكيفية رفع الدعوى وإجراء المحاكمة وتنظيم الأحكام وطرق الطعن ملحقاً بها قانون البينات الصادر بتاريخ 10/6/1947. وهي قواعد تنظم الوسائل التي يجب إتباعها واعتمادها لإثبات الحقوق المدعى بها.
وهنا نرى أنه من الضروري إلقاء الضوء على التنظيم القضائي الحالي في سورية1:
إضافة لتنظيمات المحاكم المدنية والتجارية يوجد القضاء الإداري الذي يتمثل في مجلس الدولة ويتألف من قسمين وهما:
1 ـ القسم القضائي.
2 ـ والقسم الاستشاري للفتوى والتشريع.
ويتألف القسم القضائي من:
المحاكم الإدارية ـ محكمة القضاء الإداري ـ المحكمة الإدارية العليا و تقوم إلى جانبها هيئة مفوضي الدولة حيث تحضر الدعوى وتهيئها للمرافعة.
أما المحاكم التي يتألف منها القضاء العادي فهي:
أ ـ محكمة النقض (التمييز سابقاً).
ب ـ محاكم الاستئناف.
جـ ـ المحاكم البدائية.
د ـ المحاكم الصلحية.
يضاف إلى هذه المحاكم (الشرعية ـ الطائفية ـ المذهبية والتي تختص بالفصل في أمور الأحوال الشخصية) ومحاكم استثنائية خاصة مهمتها إقامة الدعوى الجزائية ومباشرتها وتمثيل المجتمع لدى المحاكم ثم تنفيذ الأحكام الجزائية بعد اكتسابها الدرجة القطعية.
المحاكم الصلحية:
$يتألف كل منها من قاض منفرد وتفصل في المنازعات المدنية والتجارية البسيطة، والجرائم البسيطة (جميع المخالفات والجنح التي لا تتجاوز عقوبة الحبس فيها أكثر من السنة).
المحاكم البدائية:
يتألف كل منها من قاض منفرد: تفصل في سائر المنازعات المدنية والتجارية والجنح.
محاكم الاستئناف:
$وتتألف من رئيس وأعضاء يسمون مستشارين، ويوزعون على عدد من الغرف المدنية والجزائية، وتستأنف إليها أحكام المحاكم البدائية وبعض الأحكام الصلحية.
$ (ومن بعض مستشاري الاستئناف تشكل محاكم جنايات تنظر في القضايا الجنائية).
محكمة النقض:
$وتوزع أيضاً إلى غرف متعددة، وهي المرجع الأعلى الذي يعود إليه أمر مراقبة أحكام هذه المحاكم والنظر في مدى صحتها ومطابقتها للقانون والأصول، والمحاكم الأدنى من محكمة النقض تسمى محاكم الأساس أو الموضوع لأنها تنظر في أساس الدعوى ووقائعها بعكس محكمة النقض التي تسهر فقط على حسن تطبيق القانون من قبل المحاكم الأخرى، فهي بذلك تسمى محكمة القانون.
القانون الدولي الخاص1:
$ويتضمن القواعد التي تبين، بالنسبة لكل نوع من القضايا التي يكون فيها عنصر أجنبي، ما إذا كانت محاكم الدولة مختصة للنظر فيه أم لا، كما تحدد القانون الذي يجب تطبيقه عليه2.
مثال:
باع سوري مقيم في فرنسا عقار إلى مواطن ألماني في إيطاليا وحدث فيما بعد نزاع فالقانون الدولي الخاص يحدد ما إذا كانت المحاكم السورية مختصة للنظر بالنزاع ثم يحدد القانون الواجب التطبيق مِن القوانين الأربعة.
$ولا توجد قواعد محددة تسير عليها جميع الدول فيما يتعلق بمسائل هذا القانون، ولكل دولة قواعدها بهذا الشأن.
وهذه القواعد لا يضمها في الجمهورية العربية السورية تشريع موحد بل هي موزعة على عدة تشريعات.
بعض الفروع المستحدثة في نطاق القانون الخاص:
من أهمها: قانون العمل ـ القانون الزراعي ـ وقد أخذت تنفصل عن القانون المدني وتتدخل الدولة في تنظيمها ومراقبتها, وقواعدها آمرة من النظام العام لأن هذه القوانين تنظم العلاقات التي تؤثر مباشرة بالمصالح الاجتماعية والاقتصادية للدولة.
الباب الثاني
مصادر القانون
يتألف هذا الباب من تمهيد وفصلين وهما:
الفصل الأول: التشريع.
الفصل الثاني: المصادر غير التشريعية.
تمهيد
حول مصادر القانون
المصدر المادي:
هو المصدر الذي تستمد منه القاعدة القانونية مادتها أو موضوعها. (أي إن الحكم الذي تتضمنه القاعدة هو الذي يكون موضوعها ومادتها).
المصدر الرسمي:
هو المصدر الذي يوفر لها قوتها الإلزامية أو صبغتها الرسمية (وإن القوة الإلزامية التي تتمتع بها القاعدة هي التي تضفي عليها الصبغة الرسمية).
و لا تكتمل القاعدة القانونية إلا إذا توفر لها هذان العنصران معاً: مادتها أو موضوعها من جهة, وصيغتها الرسمية من جهة1.
لأن المصادر المادية كلها إذا كانت توفر للقاعدة مادتها ومضمونها وفحواها لا تكفي لجعلها قاعدة قانونية بل لا بد للقاعدة في نفس الوقت من مصدر رسمي يضفي عليها القوة الإلزامية, فالمصادر المادية لا تكشف لنا إذاً عن وجود القواعد القانونية أو عدم وجودها وإنما الذي يرشدنا إلى ذلك هو المصادر الرسمية.
وعلى هذا, فإن المصادر الرسمية للقواعد القانونية هي وحدها التي تعنينا في مصادر القانون $فمثلاً إن المصدر المادي لقانون الأحوال الشخصية هو الشريعة الإسلامية، والمصدر المادي للقانون المدني هو القانون المدني المصري أو القانون المدني الفرنسي.
تعداد المصادر الرسمية وبيان أهميتها:
هنالك مصدران رئيسيان رسميان للقانون تأخذ بهما جميع الدول هما:
1 ـ التشريع.
2 ـ العرف.
ويضاف إلى هذين المصدرين في بعض البلاد مصدران آخران أو أحدهما وهما: القواعد الدينية من جهة ومبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة من جهة.
ويتصل بالمصادر الرسمية للقانون مصدران آخران يعتبران بمثابة مصدرين تفسيريين, وهما الاجتهاد القضائي والفقه.
أوجه الاختلاف بين المصادر الرسمية والاجتهاد القضائي والفقه؟
إن الاجتهاد القضائي والفقه لا يؤديان إلى إيجاد قواعد قانونية عامة قابلة للتطبيق بصورة إلزامية ومطردة على جميع الحالات المتماثلة, كما هو الأمر بالنسبة للمصادر الرسمية, بل إن دورهما يقتصر على تفسير وبيان كيفية تطبيق القواعد القانونية المنبثقة عن المصادر $الرسمية دون أن يكون لما ينتج عنهما صفة القواعد القانونية الإلزامية. وهنا لابد من إبراز الملاحظات1 التالية:
أولاً: لا تطبق المصادر الرسمية للقواعد القانونية جميعها دوماً في مختلف الأحوال والظروف بل إن هناك بعض الأمور ـ كالأمور الجزائية مثلاً ـ لا يمكن أن يطبق فيها سوى مصدر واحد هو التشريع حيث أنه من أهم مبادئ القانون الجزائي المبدأ الذي ينص $على أنه: (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني). والقانون هنا هو التشريع وذلك لأن الأحكام الجزائية إنما تتعلق بأرواح الناس وحرياتهم وسلامتهم ومن الواجب تنظيمها عن طريق التشريع وعدم ترك أمور الناس فيها عرضة لأهواء القضاة وتقديراتهم الشخصية.
مثال:
لا يوجد نص تشريعي يعاقب الإنسان على عدم تطوعه لإنقاذ شخص معرض للخطر, وبالتالي فإن القاضي لا يستطيع أن يفرض عليه عقوبة ما استناداً إلى ما قد يراه من مبادئ القانون الطبيعي أو قواعد العدالة مثلاً لأن المصدر الوحيد في الأمور الجزائية هو التشريع.
مثال:
إذا حدد التشريع لجريمة من الجرائم عقوبة معينة فإن القاضي لا يستطيع أن يفرض عقوبة غيرها يقدرها بنفسه استناداً إلى الأعراف مثلاً أو غيرها.
ثانياً: ليس للقاضي حرية الاختيار بين هذه المصادر وتطبيق ما يراه مناسباً منها دون غيره $بل هناك ترتيباً وتسلسلاً معين بينها يلزم القاضي بإتباعه وذلك حسب المادة الأولى من القانون المدني التي تنص:
( 1 ـ تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو فحواها.
2 ـ فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه, حكم القاضي بمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية, فإذا لم توجد فبمقتضى العرف, فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة).
فبحسب هذه المادة يعتبر التشريع المصدر الأول للقواعد القانونية, وفي حال عدم وجود نص يمكن تطبيقه من التشريع يعمد القاضي إلى الحكم بمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية ثم بمقتضى العرف وأخيرا بمقتضى القانون الطبيعي وقواعد العدالة.
مثال:
إذا عرضت على القاضي قضية تتعلق بالقرض مع الفائدة مع العلم أن مبادئ الشريعة الإسلامية تحرم هذا النوع من القرض؟
القاضي ملزم بأن يحكم أولاً بموجب النصوص التشريعية المتعلقة بالموضوع الذي يطلب إليه الحكم فيه ولا يستطيع أن يطبق مبادئ الشريعة الإسلامية إلا في حال عدم وجود هذه النصوص, وبالنسبة للقرض مع الفائدة هنالك نصوص تشريعية تجيزه فلا يمكن إذن تطبيق قواعد غيرها....
مثال:
عرضت على القاضي مسألة ينطبق عليها التشريع ـ الشريعة ـ العرف فماذا يطبق في هذه الحالة؟ القاضي ملزم بإتباع الترتيب المنصوص عليه في المادة الأولى من القانون المدني.
مثال:
عرضت على القاضي الجزائي قضية جزائية ولم يجد لها نص تشريعي بالأفعال التي قام بها $المدعى عليه, ما العمل في مثل هذه الحالة؟
$يحكم القاضي في هذه الحالة بالبراءة أو عدم المسؤولية حيث أن هناك مصدر وحيد للأمور الجزائية هو التشريع.
ثالثاً: اعتبر الفقه والاجتهاد القضائي في كثير من الشرائع فيما مضى من المصادر الرسمية للقواعد القانونية وفي الواقع لم يقتصر دور الاجتهاد القضائي والفقه في كثير من الشرائع القديمة (كالشريعة الرومانية) على تفسير القواعد القانونية وتطبيقها بل كان لهما الأثر البالغ في إيجاد الكثير من القواعد.
ولا يزال الاجتهاد القضائي يعتبر من المصادر الرسمية في بعض البلاد كإنكلترا حيث تعتبر الأحكام القضائية بمثابة سوابق ملزمة ومن الواجب إتباعها في القضايا المماثلة.
رابعاً: إن الاجتهاد القضائي بصورة خاصة له من الوجهة العملية تأثير كبير في تطوير القواعد القانونية وتعديلها على الرغم من اعتباره من الوجهة النظرية من المصادر التفسيرية لا الرسمية, واعتباره غير ملزم إلا بالنسبة للقضايا نفسها التي فصلت فيها هذه الأحكام دون أن تكون واجبة التطبيق في القضايا المماثلة وذلك لأن:
القضاة يعمدون إلى شيء من التوسع أو التصرف في تفسير القواعد القانونية لجعل هذه القواعد أكثر ملاءمة لمقتضيات التطور والبيئة.
$خامساً: إن هناك نوع من التداخل والتقارب بين المصادر الرسمية والتفسيرية فهي ليست منفصلة عن بعضها كل الانفصال... حيث: يستمد التشريع كثيراً من قواعده من الأعراف السائدة... والاجتهاد القضائي من شأنه أن يوضح التشريع ويجلي غموضه ويظهر الأعراف ويثبتها, إذاً تسهم هذه المصادر مشتركة في إيجاد القواعد القانونية وتطويرها وإعطائها صورتها الأخيرة التي تجعلها صالحة للتطبيق العملي.
سادساً: إن المصادر المختلفة للقانون لم تظهر جميعاً دفعة واحدة في التاريخ, وإنما ظهرت على مراحل متتالية تبعاً لتطور المدنية وتقدمها وهي على الترتيب التالي:
1 ـ العرف.
2 ـ قواعد الدين ومبادئ القانون الطبيعي.
3 ـ الاجتهاد.
4 ـ التشريع.
الفصل الأول
التشريــــع
سنحاول في هذا الفصل الذي نخصصه لدراسة التشريع، وهو المصدر الأول من مصادر القانون وأكثرها أهمية وانتشاراً، أن نستعرض تعريف التشريع وأهميته وكيفية سنه ومراحل تكوينه المختلفة، ثم نتحدث عن بعض النصوص القانونية الأخرى التي تتصل بالتشريع $وتتشابه وإياه وهي الدستور والأنظمة مبينين صلة كل منهما به ودور القضاء في رقابة $دستورية التشريع وقانونية________، ثم نتناول بعد ذلك تفسير التشريع، وتطبيقه من حيث الزمان والمكان وإلغاءه.
وعلى هذا فإن دراستنا في هذا الفصل تضم الفروع التالية:
الفرع الأول:تعريف التشريع وسنه
الفرع الثاني: التشريع ودستورية الأنظمة
الفرع الثالث: تفسير التشريع
الفرع الرابع: تطبيق التشريع من حيث الزمان أو المكان أو تنازع القانونين
الفرع الخامس: إلغاء التشريع
الفرع الأول
تعريف التشريع وسنه
أولاً: تعريف التشريع1
يطلق اسم التشريع على القواعد القانونية الصادرة عن السلطة التشريعية المختصة في نصوص مكتوبة ووفقاً لأصول معينة.
$---- نستنتج من هذا التعريف أن أهم ما يميز التشريع هو:
1 ـ صدوره عن السلطة التشريعية المختصة.
2 ـ إتباعه أصولاً معينة في تكوينه لا يتم بدونها وجوده واعتباره.
أهمية التشريع ومزاياه:
هو من أكثر مصادر القانون أهمية وأوسعها انتشاراً ويعتبره بعض الفقهاء المصدر الأوحد للقواعد القانونية.
ويعود السبب في هذه الأهمية الخاصة للتشريع إلى ما يتمتع به من مزايا عديدة أهمها1:
1- سهولة سنه من قبل السلطة التشريعية المختصة وسهولة إلغائه فهذه السلطة تستطيع كلما دعت الضرورة أو المصلحة أن تسن ما تشاء من التشريعات الصالحة وأن تلغي ما يظهر لها فساده أو عدم صلاحه.
أما العرف فهو ينشأ ويزول بصورة بطيئة ومن الصعب تغييره أو تعديله بسرعة لعدم وجود هيئة مختصة بذلك.
2- سهولة معرفته والرجوع إليه وتحديد زمن ابتدائه وزواله, إذ أنه يصدر في نصوص مكتوبة, بحيث يكون من السهل الرجوع إلى الوثائق والمستندات التي تتضمن هذه النصوص لمعرفته وتحديد تاريخه.
أما العرف فلا بد فيه من إثبات التعامل الجاري بين الناس والعادات السارية فيهم للتأكد من وجوده, كما لا يمكننا تحديد تاريخ دقيق لبدء انتشار العرف أو لزواله.
3- التشريع يساعد على حماية حريات الأفراد وحفظ حقوقهم, فهو يحدد حقوقهم وواجباتهم, وهو يعتبر ضابطاً صحيحاً يسير بموجبه القضاة أنفسهم بالإضافة لخضوع الناس للتشريع لأنه مستمد من رغباتهم ومحقق لحاجاتهم.
4- التشريع يساعد على توحيد النظام القانوني في البلد الواحد ووضع قواعد قانونية عامة تطبق على المواطنين جميعاً في مختلف مناطقهم وأنحائهم وذلك خلافاً للعرف أو الاجتهاد القضائي اللذان يؤديان لإيجاد قواعد قانونية تختلف في بعض المناطق عن بعضها الآخر.
وقد وجهت المدرسة التاريخية الانتقاد التالي للتشريع:
أن التشريع يضع القواعد القانونية في نصوص ثابتة مستقرة, وذلك يعرقل التطور الطبيعي لهذه القواعد ويعيق تقدمها, في حين أن العرف يخضع لتأثير المجتمع المباشر, ليساعد على تحقيق هذا التطور في أحسن صوره ويجعل القواعد القانونية أكثر ملائمة لحاجات المجتمع.
عوامل1 انتشار التشريع:
1- توطد سلطة الدولة وتمركزها, مما أدى إلى أن تجمع الدولة في يدها سلطة التشريع وأن تسن القواعد القانونية لجميع أنحاء البلاد.
2- قيام سلطة مختصة تتولى أمر التشريع في النظم الديمقراطية التي أخذت بمبدأ فصل السلطات, مما ساعد على أن تنصرف هذه السلطة إلى عملها في سن التشريعات.
3- انتشار النزعة الاشتراكية في عصرنا الحاضر التي تدعو إلى تدخل الدولة في شؤون الأفراد وتوليها أمر تنظيمها عندما تقضي بذلك الضرورة ومصلحة المجتمع.
ثانياً:سن التشريع
السلطة التشريعية المختصة التي يعود إليها سن التشريع:
يختلف النظر إلى هذه السلطة باختلاف النظم في البلاد, ففي النظام الدكتاتوري الاستبدادي يعتبر الحاكم نفسه صاحب السلطان المطلق وإليه يعود أمر التشريع وسن القواعد القانونية التي ليست سوى مشيئته وإرادته يمليها على شعبه ويفرض عليه احترامها. أما في النظام الديمقراطي, فالشعب على العكس هو الذي يعتبر مصدر السلطات جميعها ومن بينها السلطات التشريعية.
والأصل أن يتولى أمر التشريعات ومناقشتها والتصويت عليها أفراد الشعب أنفسهم مباشرة $ولكن هذه الطريقة كانت تطبق في بعض البلاد قليلة العدد (كما في المقاطعات السويسرية), حيث من المستحيل لمعظم الدول جمع أفراد الشعب وجعلهم يصوتون على تشريع تريد إقراره1.
ولهذا يعهد بأمر التشريع في الأنظمة الديمقراطية إلى مجلس خاص يتولاه باسم الشعب ونيابة عنه ويطلق عليه اسم مجلس الشعب أو المجلس النيابي أو مجلس الأمة.
على أن يتولى رئيس الجمهورية في بعض الحالات الاستثنائية أمر التشريع أيضاً فيسن التشريعات التي يطلق عليها حينئذٍ المراسيم التشريعية.
المرسوم التشريعي:
هو تشريع يسنه رئيس الجمهورية في بعض الأحوال التي يتولى فيها سلطة التشريع.
ورئيس الجمهورية لا يصدر المرسوم التشريعي بصفته رئيساً للسلطة التنفيذية بل باعتباره يمارس في بعض الأحوال الاستثنائية التي نص عليها الدستور مهام السلطة التشريعية.
ولذلك لا يعتبر المرسوم التشريعي عملاً تنفيذياً بل هو عمل تشريعي بحت ولا يختلف المرسوم التشريعي عن التشريع في شيء إلا في صدوره عن رئيس الجمهورية حين يمارس السلطة التشريعية بدلاً عن مجلس الشعب2.
ويتولى رئيس الجمهورية سلطة التشريع, بحسب دستورنا الحالي3 في الحالات الثلاث التالية:
1 ـ في المدة الفاصلة بين ولايتي مجلسين, أي خلال الفترة الواقعة بين انتهاء ولاية مجلس الشعب السابق وبدء ولاية مجلس الشعب الجديد.
2 ـ خارج دورات انعقاد مجلس الشعب, أي خلال الفترات التي يكون فيها مجلس الشعب موجوداً ولكنه غير منعقد.
3 ـ في أثناء انعقاد دورات مجلس الشعب إذا استدعت ذلك الضرورة القصوى المتعلقة بمصالح البلاد القومية أو بمقتضيات الأمن القومي.
ففي الحالتين الأولى والثانية, لا يمارس مجلس الشعب مهمة التشريع ولذلك لا بد أن يعهد بهذا الأمر إلى رئيس الجمهورية حتى لا تتوقف حركة التشريع في البلاد, أما في الحالة الثالثة فيكون مجلس الشعب موجوداً ومنعقداً, ولكن هنالك ظروف استثنائية, كنشوب حرب أهلية أو حدوث أزمة اقتصادية عنيفة.
ويشترط عدد من الدساتير أن يكون هنالك تفويض من مجلس الشعب لرئيس الجمهورية لإصدار المراسيم التشريعية في هذه الحالة الثالثة ولذا يطلق رجال القانون على هذه المراسيم اسم تشريعات التفويض بينما يطلقون على المراسيم في الحالتين الأولى والثانية اسم تشريعات الضرورة.
وقد نص دستورنا على أن المراسيم التشريعية التي تصدر خارج انعقاد دورات مجلس الشعب يجب أن تعرض على المجلس في أول دورة انعقاد له, كما أن المراسيم التشريعية التي تصدر أثناء انعقاد دورات المجلس بسبب حالة الضرورة القصوى المتعلقة بمصالح البلاد القومية أو بمقتضيات الأمن القومي يجب أن تعرض على المجلس أيضاً في أول جلسة له, ولمجلس الشعب الحق في إلغاء المراسيم التشريعية المعروضة عليه في هاتين الحالتين أو تعديلها، وذلك بأكثرية ثلثي أعضائه المسجلين لحضور الجلسة على أن لا تقل عن أكثرية أعضائه المطلقة. أما المراسيم التشريعية التي تصدر في الفترة الفاصلة بين ولايتي مجلسين فلا تعرض على مجلس الشعب فيما بعد, ولكن يمكن أن تعدل أو تلغى كما تعدل أو تلغى التشريعات عادة.
مراحل سن التشريع:
لا بد للتشريع لكي يتم وجوده من مراحل أربعة1:
1 ـ الاقتراح.
2 ـ الإقرار.
3 ـ الإصدار.
4 ـ النشر.
1- الاقتراح:
إن مرحلة اقتراح التشريع هي المرحلة الأولى التي يبدأ فيها التشريع بأخذ طريقه إلى الظهور والوجود. ويعود حق اقتراح التشريعات إلى رئيس الجمهورية بصفته ممثلاً للسلطة التنفيذية من جهة, وإلى كل عضو من أعضاء مجلس الشعب من جهة ثانية, ويسمى الاقتراح الصادر عن رئيس الجمهورية في هذا الشأن مشروع قانون أما الاقتراح الصادر عن أحد الأعضاء فيسمى اقتراحاً بقانون.
2- الإقرار:
يعود إقرار التشريع أو التصويت عليه إلى مجلس الشعب وهو أهم مرحلة من مراحل تكونه على الإطلاق لأنه هو الذي يؤدي إلى إيجاده فعلاً. إلا أن التصويت على التشريع وإقراره من قبل مجلس الشعب لا يكفي وحده لجعله نافذاً وملزماً من الوجهة القانونية فلا بد له من المرور بمرحلتين:
1 ـ إصداره من قبل رئيس الجمهورية ليصبح قابلاً للتنفيذ.
2 ـ ونشره في الجريدة الرسمية ليصبح ملزماً.
3- الإصدار:
هو العمل الذي يتم به إثبات وجود التشريع بصورة رسمية, أو كما يقول بعض الفقهاء بأنه بمثابة شهادة الميلاد التي تعطى للتشريع من قبل رئيس السلطة التنفيذية وهو في بلادنا رئيس الجمهورية. ولإصدار التشريع من قبل رئيس الجمهورية فائدتان:
أ- تمكن رئيس الجمهورية من إصدار أمره إلى السلطة التنفيذية التي يعتبر رئيساً لها, بأن تطبق التشريع الذي أقرته السلطة التشريعية وبذلك تكون السلطة التنفيذية قد تلقت أوامرها من رئيسها مباشرة وليس من قبل السلطة التشريعية وهذا ما ينسجم لحد كبير مع مبدأ الفصل بين السلطات.
ب- يمكن لرئيس الجمهورية أن يراقب التشريعات الصادرة عن مجلس الشعب ويتيح له المجال لأن يردها إليه, إذا رأى أن الضرورة تدعو لذلك.
ولا يستطيع رئيس الجمهورية تعطيل التشريعات التي ترسل إليه لإصدارها بل يحدد له الدستور عادة مهلة يتوجب عليه خلالها إصدار التشريع أو إعادته إلى مجلس الشعب ليعيد النظر فيه, وحين يصر مجلس الشعب على التشريع ويقره مرة ثانية بأغلبية معينة فإن من واجب رئيس الجمهورية إصداره1.
4- النشر:
هو المرحلة الأخيرة التي يمر بها التشريع فيصبح بعدها نافذاً وواجب التطبيق على جميع الأشخاص الذين تتناولهم أحكامه. ولكنه لا ينفذ من حيث المبدأ إلا بعد إعلانه للناس ويكون ذلك بنشره في الجريدة الرسمية, ولا يغني عن النشر في الجريدة الرسمية أي وسيلة أخرى من وسائل الإعلام, كالنشر في الصحف العادية أو الإذاعة أو التلفزيون. ولا يغني أيضاً عن النشر في الجريدة الرسمية العلم الشخصي بالتشريع فإن كان التشريع لم ينشر بعد فإنه لا يطبق حتى على الأشخاص الذين يعلمون علماً أكيداً بوجوده.
على أن التشريع بعد نشره ومرور الفترة المحدودة لنفاذه يكون واجب التطبيق ولو لم يعلم الناس بوجوده, فليس المهم إذاً العلم بالتشريع فعلاً وإنما اتاحة الفرصة للعلم به2, ولولا ذلك لكان بإمكان الكثيرين من الناس مخالفة التشريع ثم التهرب من توقيع الجزاء عليهم بإدعائهم جهلهم إياه ومن هنا جاءت القاعدة القانونية التي تقضي:
" الجهل بالقانون لا يعتبر عذراً ".
الفرع الثاني
التشريع والدستور والأنظمة
إلى جانب التشريع وهو النص المكتوب الصادر عن السلطة التشريعية متضمناً القواعد القانونية, يوجد نوعان آخران من النصوص التي تتضمن مثل هذه القواعد وهما: الدستور من جهة والأنظمة من جهة ثانية.
أولاً -مقارنة التشريع بالدستور والأنظمة
1- موقع التشريع بين الدستور والأنظمة:
هناك بين الدستور والتشريع والأنظمة نوع من التسلسل والتدرج, فالدستور هو أعلى هذه النصوص ثم يأتي بعده التشريع ثم تليه الأنظمة. وهذا يعني أن التشريع يحتل الموقع الوسط, ومن واجب التشريع ألا يخالف الدستور في أحكامه كما أنه من واجب الأنظمة ألا تخالف كلاً من الدستور والتشريع في أحكامها1.
2- مقارنة الدستور بالتشريع:
الدستور: هو مجموعة القواعد القانونية الصادرة عن سلطة خاصة تسمى بالسلطة التأسيسية والتي تتضمن النظام الأساسي للدولة والمبادئ العامة التي يقوم عليها أسلوب الحكم فيها.
$وبذلك نلاحظ أن كلاً من الدستور والتشريع يختلف عن الآخر2:
أ- من حيث الشكل:
إن الدستور يوضع من قبل سلطة خاصة هي السلطة التأسيسية, أما التشريع فهو من عمل السلطة التشريعية, وقد لا تختلف السلطة التأسيسية في كثير من الأحيان عن السلطة التشريعية من حيث تركيبها وتشكيلها. ولكنها تختلف مع ذلك من حيث التسمية ونوع المهمة المعهود بها إليها هي وضع دستور للبلاد لا سن التشريعات العادية.
ب- من ناحية الموضوع:
إن الدستور يتضمن النظام الأساسي للدولة والمبادئ العامة التي يقوم عليها أسلوب الحكم فيها في حين لا يرمي التشريع إلى شيء من ذلك بل تقتصر مهمته على تنظيم علاقات الدولة وأمور الأفراد ضمن حدود الدستور ونطاقه.
$أي أن الدستور هو النطاق العام الذي تدخل ضمنه التشريعات فهو الذي يرسم لها الحدود التي يجب عدم تجاوزها.
3- مقارنة الأنظمة بالتشريع:
تعريف الأنظمة:
هي عبارة عن نصوص تصدر عن السلطة التنفيذية متضمنة القواعد التي تفصل أحكام التشريعات وتوضحها وتبين كيفية تنفيذها وتطبيقها1.
والأنظمة إما أن تصدر عن رئيس الجمهورية أو الوزراء المختصين أو الإدارات العامة والمجالس البلدية, ويطلق على الأنظمة الصادرة عن رئيس الجمهورية اسم المراسيم التنظيمية, بينما يطلق على الأنظمة الصادرة عن بقية السلطات اسم القرارات التنظيمية.
وتستمد السلطة التنفيذية صلاحيتها في إصدار المراسيم والقرارات التنظيمية إما من التشريع نفسه الذي تصدر لأجله هذه المراسيم والقرارات أو من المبدأ العام الذي يعترف لها بموجبه بحقها في إصدار الأنظمة اللازمة لتنفيذ التشريعات, ولو لم يفوض أمر ذلك إليها بنص خاص.
مقارنة بين التشريع من جهة وبين المرسوم أو القرار التنظيمي من جهة:
أ- من حيث الشكل:
يختلف القرار التنظيمي عن التشريع في أنه يصدر عن السلطة التنفيذية لا عن السلطة التشريعية.
ب- من ناحية الموضوع:
يختلف القرار التنظيمي عن التشريع في أنه لا يتطرق إلى الأمور التي يعالجها بصورة رئيسية أصلية ولكن بصورة تبعية بغية تفسير التشريع وتفصيل أحكامه دون أن يستطيع $مخالفة هذه الأحكام أو تعطيلها أو التعديل فيها.
ويختلف المرسوم التشريعي عن المرسوم التنظيمي, إذ أن المرسوم التشريعي وبالرغم من صدوره عن رئيس الجمهورية كالمرسوم التنظيمي إلا انه يعتبر بمثابة التشريع نفسه ويقوم $مقامه وهو بذلك لا يخضع للتشريع بل يستطيع أن يخالف أحكامه أو يلغيها أو يعدلها. ولابد من التفريق بين المراسيم والقرارات التي تصدر عن السلطة التنفيذية فهي على نوعين:
أ ـ المراسيم والقرارات التنظيمية2:وهي التي ذكرناها سابقاً
ب ـ المراسيم والقرارات العادية أو الفردية:
وهي تختلف عن النوع الأول في أنها لا تتضمن قواعد قانونية عامة بل هي عبارة عن أحكام فردية خاصة بشخص أو أشخاص معينين أو بواقعة أو وقائع محددة كما في قرار تعيين موظف مثلاً أو إغلاق مقهى.
ثانيا -رقابة القضاء لدستورية التشريع وقانونية الأنظمة:
1- رقابة القضاء لدستورية التشريع:
سوف نلخص هذا بالسؤال التالي:
هل يستطيع القاضي أن يمتنع عن تطبيق التشريع إذا وجد أن أحكامه تخالف المبادئ المقررة في الدستور وتتعارض معها, أم أن من واجبه تطبيق التشريع دوماً سواء أكان موافقاً للدستور أم مخالفاً له ؟
لقد ظهر حول هذا الموضوع اتجاهان متعاكسان1:
فأصحاب الاتجاه الأول يرون:
أنه لا حق للقضاء في مناقشة مسألة دستورية التشريع, بل عليه أن يطبق التشريع كما هو إذا كان مستوفياً لشرائطه الشكلية, ولو خالف في أحكامه مبادئ الدستور, وحجة أصحاب هذا الرأي أن السماح للقضاء بمراقبة دستورية التشريع سيؤدي حتماً إلى تدخل السلطة القضائية في أعمال السلطة التشريعية, مما يتعارض مع مبدأ الفصل بين السلطات.
أما أصحاب الاتجاه الثاني:
وعلى رأسهم ديجي وهوريو فيرون أن للقضاء الحق في مراقبة دستورية التشريع وأن عليه أن يمتنع عن تطبيق التشريع حين يتأكد من مخالفة أحكامه للدستور الذي يتوجب عليه التقيد به.
وهم يوردون لذلك حججاً عديدة أهمها:
أ- إن مراقبة القضاء لدستورية التشريع أمر تحتمه الضرورة والمنطق, لأننا لو رفضنا هذا $الحق لاستطاعت السلطة التشريعية مخالفة الدستور على هواها دون أن يمكن منعها.
ب- إن مراقبة القضاء لدستورية التشريع أمر يدخل في حدود مهامه واختصاصه لأن القضاء ملزم باحترام الدستور والتشريع وحين وجود تعارض بين أحكامهما على القاضي $تطبيق النص الأعلى مرتبة, وعليه بذلك تطبيق الدستور وترك التشريع لمخالفته إياه.
ج- إن رقابة القضاء لدستورية التشريع ليس فيها ما يتعارض مع مبدأ الفصل بين السلطات لأن السلطتين التشريعية والقضائية ملتزمتان باحترام الدستور, فإذا خالفت السلطة التشريعية الدستور وامتنعت السلطة القضائية عن ذلك فمعنى ذلك أن السلطة التشريعية تدخلت في شؤون السلطة القضائية وليس العكس.
وبالرغم من أن هذا الرأي الثاني يبدو أقوى حجة, إلا أن القضاء في كثير من البلاد لم تمنحه $دساتيرها صراحة مثل هذا الحق، وقد أخذ بالرأي الأول ورفض أن يعترف لنفسه بصلاحية $مراقبة دستورية التشريعات. أما في بلادنا فيلاحظ أن القضاء العادي يرفض بصورة عامة أن يعترف لنفسه بحق مراقبة دستورية التشريع, وأما القضاء الإداري فيستشعر من بعض قراراته أنه يعترف لنفسه بهذا الحق
2- رقابة القضاء لقانونية الأنظمة:
إن رقابة القضاء القانونية الأنظمة تعني في نفس الوقت رقابته لدستوريتها, وهذه الرقابة قد أخذت بها معظم الدول المتمدنة في عصرنا, وهي لا تقتصر فقط على المراسيم والقرارات التنظيمية بل تتناول أيضاً القرارات والمراسيم العادية, فجميع ما يصدر عن السلطة التنفيذية من مراسيم أو قرارات يمكن الطعن فيها أمام القضاء إذا خالفت في أحكامها الدستور أو التشريع..
الفرع الثالث
تفسير التشريع
ضرورة التفسير:
يتألف التشريع من قواعد عامة ومجردة توضع من قبل المشرع. فإذا عرضت قضية ما على قاضٍ يكون من واجب هذا القاضي البحث في نصوص التشريع أولاً عن القاعدة الممكن تطبيقها على القضية ثم يصدر حكمه بمقتضى هذه القاعدة بعد أن يتثبت من صحة انطباق القاعدة على القضية.
ولكن عمل القاضي ليس بهذه السهولة إذ عليه أن يتثبت من مضمون القاعدة التشريعية ويفسرها ويوضح معناها ويستخلص الحكم المطلوب تطبيقه على القضية.
تعريف التفسير:
هو بيان المعنى الحقيقي الذي تدل عليه القاعدة التشريعية وإيضاحه, واستنتاج الحكم الذي تنص عليه ليمكن تطبيقه تطبيقاً صحيحاً. ولا مجال للتفسير إلا حيث يكون هنالك نص يراد التعرف لمضمونه ولذلك لا يفسر إلا التشريع ونصوص الشريعة الإسلامية, أما العرف ومبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة فلا مجال لتفسير قواعدهما لعدم ورودها في نصوص مكتوبة1.
أنواع التفسير:
تفسير التشريع قد يصدر عن المشرع نفسه الذي سنه أو عن القضاة الذين يتولون أمر تطبيقه أو الفقهاء الذين يعكفون على دراسته وبذلك يكون لدينا ثلاث أنواع2 للتفسير:
1 ـ التفسير التشريعي:
يصدر عادة عن المشرع الذي سن التشريع الأصلي تشريعاً آخر لتفسيره يسمى بالقانون التفسيري حين يرى أن الضرورة تدعو لذلك.
ويعتبر القانون التفسيري الصادر عن المشرع بمنزلة التشريع نفسه الذي يراد تفسيره ولذلك فإن هذا التفسير من أهم أنواع التفسير وأقواها من الوجهة القانونية.
والقانون التفسيري الذي يصدره المشرع لا يطبق فقط منذ صدوره وإنما منذ صدور التشريع الأصلي الذي جاء ليفسره لأن القانون التفسيري لا يعتبر تشريعاً جديداً وإنما إيضاح لتشريع سابق.
2- التفسير القضائي:
وهو من أكثر أنواع التفسير شيوعاً وأشدها أهمية من الوجهة العملية ومن مزايا التفسير القضائي أنه ذو طابع عملي لأن القاضي إنما يعمد إليه بمناسبة قضية أو قضايا معينة يطلب إليه الحكم فيها, فيحاول جهده أن يفسر التشريع في ضوء ظروف هذه القضية أو القضايا وملابساتها, ويكون تفسيره أشد صلة بالحياة العملية وأكثر ملائمة لضرورات الواقع من أي تفسير غيره.
لكن ليس للتفسير القضائي أية صفة إلزامية إلا بالنسبة للقضية التي صدر من أجلها ومعنى ذلك أن التفسير الذي يصدره المشرع حول قاعدة ما يجب أن يراعى بالنسبة لجميع القضايا التي تطبق فيها هذه القاعدة أما التفسير الذي تصدره المحكمة فهو لا يلزم إلا في القضية التي فصل فيها ومن الجائز مخالفته وتبني تفسير معاكس.
3- التفسير الفقهي:
وهو التفسير الذي يصدر عن الفقهاء وذوي الاختصاص في القانون.
ومن أبرز صفاته أنه لا يتمتع بأية قوة إلزامية, وإنما هو عبارة عن مجرد رأي يصدره فقيه أو رجل قانون, وقد يأخذ به أو يهمل.
4- التفسير الإداري:
وهو يتمثل عادة في البلاغات والتعليمات التي تصدرها الإدارات العامة المختصة إلى موظفيها لتفسر لهم فيها أحكام التشريعات التي يكلفون بتطبيقها وتبين كيفية هذا التطبيق.
حالات التفسير وأسبابه:
إن أهم العيوب التي تطرأ على النصوص التشريعية فتجعلها بحاجة إلى التفسير هي1:
أ- الخطأ المادي:
$يعتبر أن هناك خطأ مادياً في النص إذا كانت العبارة التي ورد بها هذا النص تتضمن خطأ فادحاً في بعض ألفاظها بحيث لا يستقيم معنى النص إلا بتصحيحها, وهذا النوع من العيوب هو أبسطها وأقلها شأناً لأنه في الواقع لا يستوجب تفسير النص المعيب وإنما تصحيحه فقط.
ب- الغموض أو الإبهام:
يعتبر النص غامضاً أو مبهماً إذا كانت عباراته غير واضحة كل الوضوح بحيث تحتمل التفسير أو التأويل وبحيث يمكن أن نستنتج منها أكثر من معنى واحد ومهمة القاضي في مثل هذه الحالة هي أن يختار من بين المعاني المختلفة التي يحتملها النص المعنى الأكثر صحة.
أمثلة:
ينص القانون المدني الفرنسي على أن: " بيع ملك الغير باطل..." فهذه المادة تقضي ببطلان البيع الذي يجريه البائع على شيء لا يملكه ولكن في القانون الفرنسي نوعين من البطلان بينهما اختلاف كبير في الأحكام المترتبة عليهما وهما: البطلان المطلق والبطلان النسبي, ومن أبرز نقاط الاختلاف بينهما أن العقد الباطل بطلان مطلق يمكن أن يدعي ببطلانه كل ذي مصلحة وبصورة خاصة كل من المتعاقدين, كما يمكن أن تقضي المحكمة ببطلانه, أما العقد الباطل بطلان نسبي فلا يستطيع أن يطالب ببطلانه إلا المتعاقد الذي تقرر الإبطال لمصلحته.
ت- النقص أو السكوت:
$ويعتبر أن هنالك نقصاً في النص إذا جاءت عبارته خالية من بعض الألفاظ التي لا يستقيم الحكم إلا بها أو إذا أغفل التعرض لبعض الحالات التي كانت يفترض أن ينص عليها.
مثال:
لقد ورد في المادة (151) من القانون المدني المصري القديم أنه: " كل فعل نشأ عنه ضرر للغير يوجب ملزومية فاعله بتعويض الضرر ", فهذه المادة قد يفهم منها أن كل فعل للإنسان أياً كان نوعه يستوجب إلزام هذا الإنسان بالتعويض عما ينشأ عنه من ضرر للآخرين ولكن الواقع أن المرء لا يلزم بالتعويض إلا عن الأضرار التي تنجم عن أفعاله غير المشروعة أو الخاطئة, أما أفعاله المشروعة التي لا يتعدى فيها على غيره فإنه لا يسأل التعويض عنها ولو سببت لهذا الغير بعض الأضرار.فنجد أن نص المادة يجب أن يكون على النحو التالي:
" كل فعل غير مشروع نشأ عنه ضرر للغير... ".
ث- التناقض أو التعارض:
$يكون هنالك تناقضاً أو تعارضاً بين نصين إذا كان الحكم الذي يدل عليه أحدهما يخالف تماماً الحكم الذي يمكن أن يستنتج من الآخر ومهمة القاضي في هذه الحالة هي أن يحاول التوفيق بقدر الإمكان بين النصين فيسعى إلى أن يطبق كلاً منهما في زمرة معينة من الحالات.
مثال:
ورد في المادة " 115 " من القانون المدني أنه: " يقع باطلاً تصرف المجنون أو المعتوه إذا صدر التصرف بعد شهر قرار الحجر ".
$وتنص المادة (200) من قانون الأحوال الشخصية على أن: " المجنون والمعتوه محجوران لذاتهما ويقام على كل منهما قيم بوثيقة ", فالمادة الأولى تشترط لاعتبار تصرفات المجنون والمعتوه باطلة صدور قرار بالحجر عليهما.
وتعتبر المادة الثانية أنهما محجورين لذاتهما, وبالتالي فإن تصرفاتهما تعتبر باطلة لمجرد الجنون أو العته حتى لو لم يصدر قرار بذلك.
مدارس التفسير المختلفة:
أولا-المدرسة التقليدية أو مدرسة الشرح على المتون:
نستطيع أن نجمل مبادئ المدرسة التقليدية في أنها تقوم على التقيد بنصوص التشريع تقيداً تاماً وعدم الخروج عنها مطلقاً وقد ظهرت هذه المدرسة في فرنسا1.
وسبب انتشار هذه المدرسة هو صدور عدد من التشريعات في فرنسا مطلع القرن التاسع عشر وبخاصة صدور القانون المدني الفرنسي في عهد نابليون.
أما المبادئ التي نادت بها هذه المدرسة في تفسير التشريع فيمكن إيجازها:
1 ـ على القاضي أن يستمد أحكامه كلها من نصوص التشريع لأن التشريع يتضمن كل ما تدعو الحاجة إليه من القواعد القانونية.
2 ـ ليس على القاضي أن يتوقف في تفسيره للتشريع عند ألفاظه بل عليه أن يبحث عن نية المشرع التي تبدو من خلال عباراته.
3 ـ هذه النية على القاضي أن يبحث عنها لدى المشرع الذي أصدر التشريع وفي الزمن الذي أصدره فيه وإذا لم يكن هذا ممكناً فعلى القاضي أن يفترض هذه النية افتراضاً.
ولا شك أن المدرسة التقليدية في تفسير التشريع تؤدي إلى وضع ضوابط صحيحة وواضحة ومحددة لهذا التفسير فتبعد بذلك احتمال كل تفسير اعتباطي أو كيفي من قبل القضاة وتؤمن وجود نوع من الاستقرار في المعاملات القانونية.
ثانيا-المدرسة التاريخية:
إن الفكرة الرئيسية التي تقوم عليها هذه المدرسة هي ضرورة تفسير هذا التشريع تفسيراً جريئاً واسعاً, فلا تتبع بالنسبة إليه دوماً إرادة المشرع نفسه الذي صدر عنه, بل تراعى فيه ضرورات المجتمع والتطور الحالي, لأن النصوص يجب ألا تجمد عند إرادة واضعها الأصلي وإنما عليها أن تتبع الزمن في تطوره وسيره2.
وتعتبر هذه المدرسة أن النصوص القانونية بعد صدورها عن المشرع تصبح ذات وجود مستقل قائم بذاته منفصل عن إرادة المشرع نفسه بحيث يمكن تكييفها وتفسيرها وفقاً للتطورات $المختلفة التي تطرأ على المجتمع، وبحسب هذه النظرية فإن النص التشريعي لا يفسر بحسب ما أراده المشرع في الماضي وإنما بحسب ما يمكن أن تكون عليه نية المشرع حالياً حين تطبيق هذا النص, وهذا ما يعبر عنه بأنه لا يبحث عن النية المفترضة للمشرع بل عن النية المحتملة.
ثالثا-المدرسة العلمية:
لقد أسسها الفقيه جيني ومن أهم مبادئها1:
على القاضي أن يتمسك أولاً بالنصوص وأن يفسرها وفقاً لإرادة المشرع الذي صدرت عنه, وهذا المبدأ يتفق إلى حد بعيد مع وجهة نظر المدرسة التقليدية.
ولكن البحث عن إرادة المشرع الذي وضع التشريع لا يمكن أن يستمر بصورة مطلقة بل هنالك ظروف وحاجات متجددة لا بد من الاعتراف معها بأن نية المشرع غير معلومة بالنسبة إليها, وعندئذ ليس على القاضي أن يجهد نفسه في البحث عن هذه النية وأن يفترضها افتراضاً $وإنما يطبق على هذه الحالات الجديدة الحكم الذي يراه أدعى للمصلحة والصواب.
وإن القاضي إذا كان حراً في انتقاء الحلول الملائمة للحالات الجديدة فانتقاؤه يجب أن يكون علمياً وتسمى طريقته بالبحث العلمي الحر.
طرق التفسير ووسائله:
إن النص الصريح والواضح لا مجال لتفسيره, وأنه ليس على القاضي بالنسبة إليه إلا أن يطبقه بحذافيره دون أن يحاول تغيير معناه أو مخالفة الحكم الذي ينص عليه, وعلى هذا يقال: " لا مساغ للاجتهاد في مورد نص ", ولكن في سبيل معرفة مضمون النص وإيضاح معناه واستنتاج الحكم لا بد للقاضي من إتباع عدد من الطرق لتفسير النصوص2:
أولاً: طرق التفسير الداخلية:
وتقوم هذه الطرق على تحليل النص تحليلاً منطقياً واستنتاج الحكم المطلوب منه مباشرة دون اللجوء لإيضاحه إلى وسائل ومستندات أخرى خارجة عنه ومن أهم هذه الطرق3:
1- الاستنتاج بطريق القياس:
يلجأ إليه لتطبيق حكم وارد بشأن حالة معينة على حالة أخرى لم ينص عليها في التشريع وذلك لوجود الشبه الأكيد بين الحالتين أو لوجود ما يسمى بالاتحاد بينهما في السبب أو العلة.
مثال:
جاء في أحد الأحاديث النبوية الشريفة أن قاتل مورثه لا يرث فالحكم هنا هو حرمان الوارث الذي يقتل مورثه من نصيبه في الإرث والسبب هو قتله للمورث وقيست هذه الحالة على حالة ثانية تتعلق بالموصى له الذي يقتل الموصي فيطبق عليه نفس الحكم ويحرم من حقه في الوصية لتشابه الحالتين واتحادهما بالعلة.
2- الاستنتاج من باب أولى:
يلجأ إليه لتطبيق حكم وارد بشأن حالة معينة على حالة أخرى لم ينص عليها بالتشريع لا لأن علة الحكم في الحالة الأولى أو سببه متوافران في الحالة الثانية فحسب بل لأنهما أكثر توافراً في الحالة الثانية من الأولى.
مثال:
فمن الآية الكريمة التي تأمر الإنسان بحسن معاملة أبويه نستنتج: { لا تقل لهما أف ولا تنهرهما} أنه من باب أولى أن من واجبه أيضاً عدم ضربهما.
3- الاستنتاج بمفهوم المخالفة:
يلجأ إليه لتطبيق عكس الحكم الوارد بشأن حالة معينة على حالة أخرى لم ينص عليها في التشريع, لأن هذه الحالة الثانية تختلف كل الاختلاف عن الأولى بحيث تعتبر معاكسة لها تماماً.
فطريقة الاستنتاج بمفهوم المخالفة هي عكس الاستنتاج بطريقة القياس.
ففي الاستنتاج بمفهوم المخالفة تكون الحالة الغير المنصوص عليها بنص تشريعي معاكسة للحالة المنصوص عليها بذلك النص ولهذا فإن من الضروري أن تطبق عليها حكماً معاكساً.
مثال:
إن المادة " 405 " من القانون المدني تنص على: " إذا هلك المبيع قبل التسليم... انفسخ البيع واسترد المشتري الثمن ", من الممكن أن نستنتج بمفهوم المخالفة أنه إذا هلك المبيع بعد التسليم لا قبله فلا ينفسخ المبيع ولا يكون للمشتري الحق في استرداد الثمن.
ثانياً: طرق التفسير الخارجية:
ونعني بذلك مجموعة الأدلة والوثائق والوسائل التي يستعين بها القاضي لتفسير النص التشريعي وبيان معناه. وأهم هذه الطرق1:
1- حكمة التشريع وغايته:
إن المشرع حين يضع نصاً من النصوص لا يفعل ذلك بصورة عفوية أو اعتباطية وإنما هو يختار هذا النص سعياً وراء غاية يحرص عليها أو تحقيقاً لحكمة يراها والحكمة التي يتضمنها تساعد إذن على تفسير هذا النص حين غموضه وعلى استنتاج الحكم الصحيح منه.
وعلى هذا مثلاً حين يشدد التشريع العقوبة في حالة " السرقة ليلاً " فإننا نستطيع أن نفسر هذه العبارة بأنها السرقة التي تقع أثناء الظلام وليس ليلاً بالمعنى الفلكي الذي يمتد من الغروب إلى الشروق إذ أن المشرع لا يقصد في الواقع أن يشدد العقوبة بجريمة السرقة التي تقع خلال ساعات معينة وإنما خلال ظروف معينة وهي وجود الظلام.
2- الأعمال التحضيرية:
تشمل الأعمال التحضيرية جميع الأعمال التي سبقت صدور التشريع عن السلطة التشريعية أو رافقته.
وأهم الوثائق التي تتضمنها هذه الأعمال التحضيرية:
أ ـ المذكرة الإيضاحية أو لائحة الأسباب الموجبة التي ترفق عادة بالتشريع بيان الأسباب التي دعت إلى إصداره والغاية المتوخاة منه وأهم ما يتضمنه من قواعد قانونية بارزة.
$ب ـ الدراسات التي تقوم بها اللجان التشريعية المختصة حول هذا التشريع بعد إحالته إليها.
$ج- مناقشات أعضاء مجلس الشعب المتعلقة بهذا التشريع حين عرضه عليهم للتصويت عليه وإقراره والإيضاحات التي يدلى بها حوله.
ج- المصادر أو السوابق التاريخية:
هي المصادر التي أخذ عنها التشريع قواعده واستمد منها أحكامه, فالتشريعات الأجنبية تعتبر بمثابة مصادر تشريعية لأغلب تشريعاتنا.
كما أن الشريعة الإسلامية تعتبر أيضاً المصدر التاريخي لقانون الأحوال الشخصية.
فعندما يجد القاضي نفسه أمام نص تشريعي غامض بإمكانه أن يرجع إلى المصدر الأصلي الذي استمد منه هذا التشريع أحكامه وأن يفسر النص في ضوئه.
الفرع الرابع
تطبيق التشريع من حيث الزمان والمكان أو تنازع القوانين
قد تحدث وقائع قانونية تجاوز في بعض عناصرها حدود الدولة الواحدة وتمتد إلى دول متعددة, ومن المهم في هذه الحالة أيضاً أن نحدد مدى إمكانية تطبيق كل من تشريعات هذه الدول المختلفة عليها, وهذا ما نعبر عنه بتطبيق التشريع من حيث المكان.
وقد تصدر في فترات متعاقبة تشريعات ضمن حدود الدولة الواحدة يخالف بعضها أو يناقض البعض الآخر، ومن المهم في هذه الحالة أيضاً أن نحدد مدى إمكانية تطبيق كل من هذه التشريعات على الوقائع القانونية التي تحدث في فترات متعاقبة، وهذا ما نعبر عنه بتطبيق التشريع من حيث الزمان.
وفي كلتا الحالتين يكون هناك تشريعات يتنازعان الواقعة أو القضية الواحدة ويحاول كل $منها أن يشملها بحكمه.
فإذا كان التنازع بين تشريعات متعاقبة ضمن الدولة الواحدة كان تنازعاً من حيث الزمان, وأما إن كان بين تشريعات دول متعددة فهو تنازع من حيث المكان.
والتنازع سواء من حيث المكان أو الزمان لا يقع بين التشريعات وحدها وإنما يقع بين القواعد القانونية المختلفة أياً كان مصدرها.
أولاً- تطبيق التشريع من حيث المكان
1 -المبدأ العام
عرض المبدأ:
المبدأ الذي يتبع في هذا الموضوع يبدو سهلاً ومنطقياً في نفس الوقت: فالتشريع يطبق منذ صدوره ونفاذه لحين إلغائه فهو لا يسري على ما تم من أفعال وتصرفات قبل نفاذه وهو لا يتناول في حكمه ما ينشأ عن هذه الأفعال والتصرفات بعد زواله وإنما ينحصر تأثيره ومفعوله فيما بين هاتين النقطتين نقطة مبدأه ونقطة منتهاه1.
وينتج عن هذا أن التشريع الجديد يطبق فوراً منذ نفاذه بالنسبة للمستقبل ولكنه لا يسري على الماضي.
ويسمى التطبيق الفوري للتشريع بالأثر المباشر للتشريع, أما عدم سريانه على الماضي فيسمى بعدم رجعية التشريع.
فالمبدأ يقوم على فكرتين:
أ- الأثر المباشر للتشريع:
وهذا يقتضي تطبيق التشريع الجديد فوراً ووقف العمل بالتشريع السابق.
ب- عدم رجعية التشريع:
وهذا يقتضي عدم سريان التشريع الجديد على الماضي بل تطبيق التشريع القديم على ما تم من أفعال وتصرفات قبل نفاذ التشريع الجديد1.
مثال:
لو صدر تشريع يمنع تهريب الذهب خارج البلاد فإنه يطبق فوراً بالنسبة لجميع الأفعال التي ترتكب بعد نفاذه.
مثال:
لو فرضنا أن تشريعاً جديداً يشترط لصحة هبة العقار أن تكون بسند رسمي, فإن كل هبة عقار لا تتم بسند رسمي بعد نفاذ التشريع الجديد تعتبر باطلة, بينما تعتبر كل هبة تمت قبل نفاذ التشريع صحيحة.
ضرورة هذا المبدأ:
إن ضرورة تطبيق التشريع الجديد فوراً لا تحتاج إلى تبرير لأن التشريع الجديد يصدر ليلغي التشريع القديم ويحل محله.
أما ضرورة عدم سريان التشريع الجديد على الماضي أو عدم رجعية التشريع فمبدأ هام يستند إلى مبررات كثيرة من المنطق والعدل والمصلحة.
صعوبة تطبيق هذا المبدأ:
في الواقع هنالك حالات لا يثير فيها تطبيق هذا المبدأ أية صعوبة كما في الأمثلة التي ذكرناها سابقاً.
ونلاحظ أن أي حادثة حاولنا أن نطبق التشريع عليها تكون قد تمت إما بعد نفاذ التشريع الجديد (وعندها يطبق التشريع الجديد عليها) أو قبل نفاذه (عندها تخضع لحكم التشريع القديم).
ولكن هنالك حالات كثيرة لا تنقضي فيها الوقائع والتصرفات دفعة واحدة وإنما هي تمتد فترة من الزمن بحيث تبدأ في ظل التشريع القديم ثم تستمر إلى ما بعد نفاذ التشريع الجديد.
مثال (1):
$فلو أن شخصاً أوصى بثلث ماله في ظل تشريع يجيز الوصية بثلث المال, ثم صدر بعد ذلك تشريع يحرم الوصية بأكثر من الربع, فأي التشريعين يطبق بالنسبة للوصية ؟
مثال (2):
وأيضاً شخص بلغ سن الأهلية في ظل تشريع يعتبر سن الأهلية 18 سنة, ثم بعد بلوغه سن الأهلية بعام صدر تشريع يجعل سن الأهلية 21 سنة.
هل يعتبر هذا الشخص ناقص الأهلية أم كامل الأهلية ؟
وللإجابة عن هذه الأمثلة لا بدل لنا من دراسة النظريتين التاليتين:
2 -النظرية التقليدية والنظرية الحديثة:
أ- النظرية التقليدية:
عرض النظرية:
إن المعيار الذي تتخذه هذه النظرية للتفريق بين الحالات التي يمتنع فيها تطبيق التشريع الجديد, والحالات التي يجب فيها تطبيقه, يقوم على التمييز بين ما تسميه بالحق المكتسب ومجرد الأمل1.
وترى هذه النظرية ضرورة تطبيق التشريع القديم لا الجديد إذا كان الأمر يتعلق بحق مكتسب, لأن تطبيق التشريع الجديد على الحق المكتسب يؤدي إلى إعطائه مفعولاً رجعياً وهذا غير جائز بحسب مبدأ عدم رجعية التشريع, أما إذا كان لا يتعلق بحق مكتسب وإنما بمجرد أمل فليس في تطبيق التشريع الجديد في هذه الحالة ما يمس بمبدأ عدم رجعية التشريع.
من أهم الأمثلة على ذلك:
لو أن إنساناً أوصى بثلث تركته في ظل تشريع يجيز الوصية بالثلث ثم صدر بعد ذلك تشريعاً جديداً يحرم الوصية بأكثر من الربع فإذاً علينا التفريق بين الحالتين:
أ ـ إذا كان الموصي قد توفي قبل صدور التشريع الجديد, فإن الموصى له بمجرد وفاة الموصي يصبح ذا حق مكتسب في الوصية وتؤول إليه ملكية ما أوصي له به, وعلى هذا لا يجوز أن يطبق التشريع الجديد على هذه الوصية, لأن تطبيقه يؤدي إلى المساس بحق الموصى له, وهو حق مكتسب.
ب ـ أما إذا كان الموصي لم يمت بعد حين صدور التشريع الجديد فإن هذا التشريع يجب أن يطبق فوراً على الوصية المذكورة فلا تجوز إلا بمقدار ربع التركة فقط.
والسبب في تطبيق التشريع الجديد في هذه الحالة هو أن تطبيقه لا يؤدي إلى المساس بحق مكتسب لأن الموصى له ليس له حق مكتسب في الوصية قبل موت الموصي, وإنما له مجرد أمل فيها إذ أن الموصي يستطيع أن يرجع عن وصيته في أي وقت يشاء.
الاستثناءات من القاعدة التي تقرها النظرية التقليدية1:
أ- إذا نص التشريع الجديد صراحة على سريان أحكامه على الماضي, لأن مبدأ عدم رجعية التشريع لا يقيد المشرع وإنما يقيد القاضي فقط.
ومعنى ذلك أن القاضي لا يستطيع أن يجعل للتشريع مفعولاً رجعياً بحيث يطبقه بالنسبة $للحقوق المكتسبة السابقة لصدوره, في حين يستطيع المشرع فعل ذلك. إذن فمبدأ عدم رجعية التشريع يقيد القاضي ولا يقيد المشرع
ب- إذا كان التشريع الجديد يتعلق بالنظام العام:
فالتشريع الجديد إذا كان من التشريعات التي تتعلق بالنظام العام قد يُسمح في كثير من الأحيان بإعطائه مفعولاً رجعياً وتطبيقه بالنسبة للماضي.
مثال:
صدر تشريع يمنع التعامل بالذهب, وهذا يعتبر من التشريعات التي تتعلق بالنظام العام فإنه يطبق على العقود الجارية بعد إصداره وقبل صدوره. فلا يجوز الدفع بالذهب بعد صدور هذا التشريع, حتى ولو تم الاتفاق على ذلك قبل صدور التشريع.
ج- إذا كان التشريع الجديد تشريعاً تفسيرياً, فإنه يطبق اعتباراً من تاريخ التشريع الذي جاء لتفسيره وليس من تاريخ صدوره فقط.
د- إذا كان التشريع الجديد من التشريعات الجزائية التي تلغي عقوبة سابقة أو تضمن عقوبة أخف للمتهم.
والسبب في ذلك هو أن التشريع الجديد ما دام قد ألغى العقوبة أو خفف منها فمن الضروري أن يستفيد المتهم منه لأنه أرحم بالنسبة إليه وأعدل حيث أن التشريع الجديد لا يقضي بإلغاء العقوبة أو تخفيفها إلا لشعوره بشدة وقساوة العقوبة السابقة وذلك بخلاف لو كان التشريع الجديد يعاقب على فعل لم يكن معاقب عليه سابقاً أو يتضمن عقوبة أشد من العقوبة المقررة.
فعندها يطبق التشريع القديم لأنه ليس من العدل أن نفرض عقوبة على إنسان بسبب فعل لم يكن معاقباً عليه أو نعاقبه بأشد من العقوبة التي كانت مقررة حين ارتكاب الفعل.
نقد النظرية التقليدية:
يمكننا أن نلخص النقد الذي وجه إلى النظرية التقليدية وإلى معيارها في التفريق بين الحق المكتسب ومجرد الأمل في النقطتين التاليتين1:
أ- غموض هذا المعيار:
إذ يصعب التفريق في الواقع بين ما يجب أن يعتبر حقاً مكتسباً فلا يطبق عليه التشريع الجديد أو مجرد أمل فيطبق عليه هذا التشريع.
وقد حاولت هذه النظرية التفريق بين الحق المكتسب ومجرد الأمل فقالت:
الحق المكتسب:
هو ما يدخل في ذمتنا وثروتنا بصورة نهائية ويصبح جزءاً منها بحيث لا يمكن انتزاعه بدون إرادتنا.
أما مجرد الأمل:
فهو عبارة عن أمنية أو احتمال قد يتحقق أو لا يتحقق.
ب- عدم صحة هذا المعيار في بعض الأحيان:
إذ يلاحظ أن هنالك بعض الحالات التي تتعلق بحق مكتسب لا بمجرد أمل ومع ذلك يطبق عليها التشريع الجديد لا القديم, وفي بعض الحالات تتعلق بمجرد أمل ومع ذلك يطبق عليها التشريع القديم.
ومن أمثلة ذلك مثال الوصية الذي طرحناه:
حيث علمنا أن الوصية لا تنشئ حقاً مكتسباً للموصى له في حال حياة الموصي وإنما هي عبارة عن مجرد أمل لا يصبح حق مكتسب إلا بوفاة الموصي.
ولكن لو أن تشريعاً جديداً صدر في حال حياة الموصي, لا ليعدل من حدود الوصية وإنما ليضف بعض الشروط عليها ـ كشرط إنشائها بسند رسمي عند كاتب العدل ـ فإن هذا التشريع لا يطبق على الوصية السابقة لصدوره حتى ولو كان الموصي لا يزال على قيد الحياة, فالوصية في هذه الحالة تظل صحيحة استناداً إلى التشريع الذي نشأت في ظله, ولا يطبق عليها التشريع الجديد بالرغم من أن تطبيقه لا يتعلق بحق مكتسب وإنما بمجرد أمل.
ب- النظرية الحديثة:
تفرق هذه النظرية بين ما يسمى بطريق إنشاء أو زوال الوضع القانوني من جهة وبين آثار ذلك الوضع أو المركز القانوني من جهة ثانية.
فكل وضع قانوني (كالوضع القانوني للدائن أو الموصي) إنما ينشأ ويزول بطرق مختلفة هي عبارة عن وقائع وتصرفات قانونية كما أن كل وضع قانوني تنتج عنه بعض الآثار (كالآثار التي تترتب على الملكية أو الوصية أو حق الدائن)1.
وترى هذه النظرية أن الوقائع والتصرفات التي تؤدي إلى إنشاء الأوضاع القانونية أو زوالها يجب أن تتم وفقاً لشروط التشريع الذي تمت في ظله.
فلو غير تشريع من شروط تكوين واقعة ما, فإن هذا التشريع لا يطبق على الوقائع التي تمت قبل صدوره إلا إذا نص المشرع على خلاف ذلك.
أما لو كان التشريع الجديد لا يعدل من شروط أو صحة الوقائع التي تؤدي لإنشاء وضع قانوني وإنما يعدل من آثار هذا الوضع فيجب التفريق بين حالتين1:
أ- بالنسبة للآثار التي نجمت سابقاً عن هذا الوضع القانوني فهنا لا يمكن تطبيق التشريع الجديد عليها, إلا إذا نص المشرع على خلاف ذلك عملاً بمبدأ عدم رجعية التشريع.
ب- أما بالنسبة للآثار التي ستنجم عن هذا الوضع القانوني في ظل التشريع الجديد, فإن هذا التشريع هو الذي يطبق عليها عملاً بمبدأ الأثر المباشر.
مقارنة بين النظرية التقليدية والنظرية الحديثة:
سنقارن بين هاتين النظريتين من خلال مثال الوصية الذي شرحناه سابقاً:
إن الوصية التي تنشأ وضعاً قانونياً للموصى له, وبحسب النظرية الحديثة يجب أن يكون هذا التصرف موافقاً من حيث تكوينه وصحته لقواعد التشريع, وعلى ذلك فالتشريع الجديد الذي يعدل من شروط صحة الوصية لا يطبق على الوصية التي أجريت قبل صدوره وإنما يطبق $عليها التشريع القديم, سواء صدر التشريع الجديد بعد وفاة الموصي أو في حياته.
وإن الآثار الناجمة عن الوصية لا تترتب بالنسبة للموصى له إلا بعد وفاة الموصي, وعلى هذا ففي حالة الوصية بثلث التركة في ظل تشريع يجيز ذلك ثم صدور تشريع جديد لا يجيز الوصية بأكثر من الربع فإننا نفرق بين ما إذا كان الموصي قد توفي قبل صدور التشريع أو بعده.
أ- إذا كان الموصي قد توفي قبل صدور التشريع الجديد:
لا يسري هذا التشريع على تلك الوصية, لا استناداً لوجود حق مكتسب كما في النظرية التقليدية ولكن لأن أثر الوصية قد ترتب قبل نفاذ التشريع الجديد.
ب- إذا توفي الموصي بعد نفاذ التشريع الجديد:
فإن التشريع الجديد يجب أن يطبق على تلك الوصية بحيث لا تنفذ إلا في حدود ربع تركة $الموصي, لا لأن -الموصى له ليس له سوى مجرد أمل قبل وفاة الموصي حسب النظرية التقليدية ولكن لأن أثر الوصية قد ترتب في ظل التشريع الجديد.
وبذلك نلاحظ أن معيار النظرية الحديثة أدق من معيار النظرية التقليدية. ويمكن ان نلاحظ على سبيل المثال أن الوصية تنشئ وضعاً قانونياً بحسب النظرية الحديثة
بعد أن درسنا النظرية التقليدية والنظرية الحديثة ننتقل لندرس:
3-الحلول المتبعة في نظامنا القانوني:
إن مسألة تطبيق التشريع من حيث الزمان مسألة معقدة وعلى حد كبير من الصعوبة وسنحاول أن نبين بعض الحلول المتبعة في نظامنا القانوني.
في القانون الجزائي:
بالنسبة للقانون الجزائي يجب التفريق بين حالتين1:
أ. أن يتضمن التشريع الجديد إحداث عقوبة لفعل لم يكن يعاقب عليه التشريع السابق أو تشديد العقوبة التي كان يحددها ذلك التشريع لأحد الأفعال.
ب. أن يتضمن التشريع الجديد إلغاء العقوبة التي كان يقضي بها التشريع السابق بالنسبة لفعل من الأفعال أو تخفيفها.
في أصول المحاكمات المدنية والتجارية:
نصت المادتان الأولى والثانية من قانون أصول المحاكمات على أحكام تنازع قوانين الأصول من حيث الزمان ومنها نستنتج أن قوانين الأصول تطبق فوراً " على ما لم يكن قد فصل فيه من الدعاوى أو تم من الإجراءات قبل تاريخ العمل بها ". فلو صدر تشريع جديد يجعل أمر النظر في نوع معين من الدعاوى من اختصاص محكمة جديدة غير المحكمة التي كانت تعرض عليها هذه القضايا.
فإن التشريع الجديد يطبق فوراً وتحال القضايا من المحكمة السابقة للمحكمة الجديدة.
ويستثنى من هذه القاعدة2:
أ- التشريعات المعدلة للاختصاص لا تطبق إذا كان تاريخ العمل بها يبدأ بعد تاريخ ختام المرافعة في الدعوى.
ب- التشريعات المعدلة للمواعيد لا تطبق إذا كان الميعاد قد بدأ قبل تاريخ العمل بها بل يطبق التشريع القديم الذي بدأ في ظله.
مثال:
لو صدر حكم عن المحكمة البدائية وكانت مدة الاستئناف فيه (15) يوم ثم صدر تشريع جديد يجعل مدة الاستئناف (10) أيام, فإن مدة الاستئناف تظل (15) يوم وفقاً للتشريع القديم وذلك خلافاً فيما لو صدر الحكم بعد صدور التشريع الجديد فعندها تصبح مدة الاستئناف (10) أيام وفقاً للتشريع الجديد.
في القانون المدني:
نص القانون المدني على كيفية تطبيق التشريع من حيث الزمان بالنسبة لثلاث حالات وهي:
أ- الأهلية:
نصت المادة السابعة من القانون المدني على:
" النصوص المتعلقة بالأهلية تسري على جميع الأشخاص الذين تنطبق عليهم الشروط المقررة في هذه النصوص, وإذا عاد شخص توافرت فيه الأهلية بحسب نصوص قديمة, ناقص الأهلية بحسب نصوص جديدة فإن ذلك لا يؤثر في تصرفاته السابقة ".
فلو أن شخصاً بلغ في ظل تشريع قديم سن الأهلية الكاملة (18) سنة ثم صدر تشريع جديد يحدد سن الأهلية الكاملة بـ (21) عام فإن التشريع الجديد يطبق فورياً ويعود هذا الشخص ناقص الأهلية حتى يتم سن (21) عاماً.
أما بالنسبة للتصرفات التي تصدر عن هذا الشخص (كالهبة مثلاً) فهي صحيحة في ظل التشريع القديم لأنها صدرت عن شخص كامل الأهلية, أما لو صدرت عنه بعد صدور التشريع الجديد فهي باطلة لصدورها عن شخص ناقص الأهلية.
ب- التقادم:
يجب التفريق بالنسبة للتقادم بين نوعين من الحالات1:
الحالة الأولى:
أن يقرر النص الجديد مدة للتقادم أطول من المدة التي يقررها النص القديم.
الحالة الثانية:
أن تكون مدة التقادم التي يقررها النص الجديد أقصر من المدة التي يقررها النص القديم.
ففي الحالة الأولى:
لنفرض أن مدة التقادم بالنسبة لحق ما كانت بحسب تشريع قديم (15) سنة ثم صدر تشريع جديد يجعل المدة (20) سنة, فلو أن تقادماً بدأ في ظل تشريع قديم وكانت قد انقضت منه (14) عام حين صدور التشريع الجديد فإن هذا التشريع يطبق فوراً ويجب عندها لاكتمال هذا التقادم أن يبلغ السنين العشرين التي ينص عليها التشريع الجديد, أما في حال أن التقادم أكمل (15) سنة قبل صدور التشريع الجديد فإن هذا التقادم يعتبر مكتملاً ويطبق عليه التشريع القديم.
أما في الحالة الثانية:
لنفرض أن مدة التقادم بحسب تشريع قديم (15) سنة ثم أصبحت بحسب تشريع جديد (5) سنوات فلو أن تقادماً بدأ في ظل التشريع القديم واستمر مدة (3) سنوات ثم صدر التشريع الجديد فإن التشريع الجديد هو الذي يطبق منذ صدوره شريطة أن تبدأ مدة التقادم اعتباراً من صدور التشريع الجديد لا من بدء التقادم السابق أي تطبق مدة السنوات الخمس إضافة لمدة الثلاث سنوات التي مرت من التقادم السابق.
أما إذا كانت المدة الباقية من التقادم السابق أقل من المدة التي يقررها التشريع الجديد فإن التقادم يكتمل بانتهاء هذه المدة الباقية ولا حاجة لتطبيق مدة التقادم الجديد.
فلو أتم التقادم السابق فرضاً (13) سنة فإنه لا تطبق عليه مدة (5) سنوات وإنما يكتفى بإتمام السنتين المتبقيتين.
مثال:
كانت مدة التقادم ضمن تشريع قديم (17) سنة وصدر تشريع جديد حددها بمدة (6) سنوات وكان التقادم قد استمر مدة (10) سنوات في ظل التشريع القديم يعتبر التقادم مكتملاً.
ج- الأدلة التي تعد مسبقاً:
نصت المادة العاشرة من القانون المدني على ما يلي:
" تسري في شأن الأدلة التي تعد مقدماً النصوص المعمول بها في الوقت الذي أعد فيه الدليل, أو في الوقت الذي كان ينبغي فيه إعداده ".
فلو أن شخصين تعاقدا على مبلغ 100 ليرة سورية وكان يجوز إثبات التعاقد بشهادة الشهود ثم صدر بعد ذلك تشريع لا يجيز إثبات التعاقد بشهادة الشهود إلا على ما لا يتجاوز 50 ل.س فاذا تجاوز العقد هذا المبلغ فيجب إثباته بسند خطي, فإنه من الممكن إثبات العقد السابق بشهادة الشهود بالرغم من أن التشريع الجديد لا يجيز ذلك, لأنه في ذلك الوقت الذي تم فيه العقد لم يكن هنالك حاجة لإعداد دليل خطي.
العقود:
يطبق بالنسبة للعقود دوماً التشريع الذي جرت في ظله سواء فيما يتعلق بشروط انعقادها أو صحتها أو فيما يتعلق بآثارها.
على أن التشريع الجديد يطبق على الغالب بالنسبة للآثار التي تنجم بعد نفاذه عن العقود السابقة إذا كان هذا التشريع من النظام العام1.
فالتشريع الجديد لا يستطيع أن يعدل من شروط انعقاد أو صحة العقود السابقة لصدوره ونفاذه.
وكذلك لا يطبق التشريع الجديد على الآثار التي سبق أن ترتبت على العقود قبل نفاذه ولا الآثار التي ستترتب عليها بعد ذلك, بل يطبق بالنسبة لهذه الآثار التشريع القديم الذي أجريت العقود في ظله.
ثانيا -تطبيق التشريع من حيث المكان
مسألة تطبيق التشريع من حيث المكان تفترض وجود تنازع بين تشريعات مختلفة صادرة عن دول متعددة فيكون من الواجب انتقاء أحد هذه التشريعات لتطبيقه على القضايا التي يراد الحكم فيها.
$ولقد ظهر - مبدآن متناقضان لبيان كيفية تطبيق التشريعات ومدى شمولها من حيث المكان والأشخاص هما:
مبدأ إقليمية القوانين.
ومبدأ شخصية القوانين.
مبدأ إقليمية القوانين:
تعتبر الدولة بحسب مبدأ إقليمية القوانين, صاحبة السلطان المطلق والسيادة التامة في حدود إقليمها وبذلك تكون جميع التشريعات الصادرة عن الدولة تطبق ضمن حدود الإقليم على الأشخاص الذين يقيمون فيه.
ويقوم هذا المبدأ على فكرتين1:
1 ـ تطبق تشريعات الدولة ضمن حدود إقليمها على جميع من يقيمون فيه سواء أكانوا مواطنين أو أجانب.
2 ـ لا تطبق هذه التشريعات ضمن حدود أقاليم الدول الأخرى بالنسبة لمواطني الدولة التي صدرت عنها, بل يخضع هؤلاء المواطنون لتشريعات الدول صاحبة السيادة على الأقاليم التي يقيمون فيها.
مبدأ شخصية القوانين:
$ويقوم هذا المبدأ على فكرتين تناقض تماماً الفكرتين اللتين يقوم عليهما المبدأ السابق وهما2:
1 ـ تطبق تشريعات الدولة على جميع المواطنين الذين ينتسبون إليها, سواء أكانوا يقيمون ضمن حدود إقليمها أم خارج هذا الإقليم.
2 ـ لا تطبق هذه التشريعات على الأجانب الذين يقيمون ضمن إقليم الدولة الصادرة عنها, بل يخضع هؤلاء لتشريعاتهم الوطنية.
مبررات كل من المبدأين:
إن مبدأ إقليمية القوانين ينسجم إلى حد كبير مع فكرة سيادة الدولة وسلطانها ضمن حدود إقليمها.
إلا أن مبدأ إقليمية القوانين لا يشجع كثيراً على نمو العلاقات بين أفراد الدول المختلفة لأن الأجنبي تدفعه تجارته أو مهنته للعيش في بلد غريب قد يكون حريصاً على ألا يخضع لتشريعات هذا البلد كلها.
وتبدو أهمية مبدأ شخصية القوانين بصورة خاصة بالنسبة لأمور الأحوال الشخصية من زواج أو طلاق.... إذ أن أغلب الناس حريصون بالنسبة لهذه الأمور على أن تطبق عليهم تشريعاتهم الوطنية لأنها أقرب إلى طبائعهم وعاداتهم وتقاليدهم.
تطبيق التشريع من حيث المكان بحسب نظامنا القانوني:
إن أغلب النظم في عصرنا الحاضر ومن بينها النظام المطبق في بلادنا تأخذ بالمبدأين معاً, فهي تطبق كل منهما بحسب نوع العلاقات التي يراد تطبيق التشريع عليها.
ولكننا نستطيع القول بأن مبدأ إقليمية القوانين هو الغالب بالنسبة لنظامنا القانوني.
الأمور التي يطبق بالنسبة إليها المبدآن معاً:
تدخل في هذه الزمرة في الواقع, الأمور الجزائية حيث يطبق بالنسبة إليها مبدأ إقليمية القوانين, كما يطبق مبدأ شخصية القوانين.
وذلك لأن التشريعات السورية تطبق بالنسبة لجميع الجرائم التي ترتكب على إقليمها سواء ارتكبها سوري أو أجنبي مبدأ (إقليمية القوانين) وتطبق بالنسبة للجرائم التي يرتكبها المواطنون السوريون خارج الإقليم (الأرض السورية) مبدأ (شخصية القوانين).
والسبب في ذلك هو حرص الدولة على معاقبة كل من يرتكب جريمة على أرضها تهدد سلامتها وأمنها, وتحرص على معاقبة المجرمين من أبنائها وفقاً لقواعدها ولو ارتكبوا جرائمهم خارج أرضها لأنها لا ترضى لهم اقتراف الجرائم.
الأمور التي تطبق بالنسبة إليها مبدأ إقليمية القوانين:
ومن أهم هذه الأمور:
1 - الأمور المتعلقة بالضابطة (البوليس) كتنظيم المرور ومراقبة الأسواق والمحلات...
2- القواعد المتعلقة بالأشياء من عقارات أو أموال منقولة وبما يترتب عليها من حقوق عينية.
3- القواعد المتعلقة بالالتزامات غير التعاقدية.
4- القواعد المتعلقة بالاختصاص القضائي وإجراءات المحاكمة.
5- القواعد المتعلقة بالنظام العام والآداب العامة.
الأمور التي تطبق بالنسبة إليها مبدأ شخصية القوانين:
1- الحالة المدنية للأشخاص وأهليتهم (المادة 12).
2- الشروط الموضوعية لصحة الزواج (المادة 13) وآثار الزواج (المادة 14).
3- الطلاق (المادة 14).
4- الالتزام بالنفقة فيما بين الأقارب (المادة 16).
5- المسائل الموضوعية الخاصة بالولاية والوصاية والقوامة وغيرها من النظم التي تحمي المحجورين والغائبين (المادة 17).
6- الميراث والوصية وسائر التصرفات المضافة إلى ما بعد الموت (المادة 18).
تطبيق التشريع من حيث المكان بالنسبة للعقود1:
بالنسبة للعقود وحسب المادة 20 من القانون المدني يطبق التشريع الذي يختاره المتعاقدان, فإذا لم يتفقا على تشريع معين يطبق التشريع النافذ في موطنهما المشترك, فإذا لم يكن لهما موطن مشترك يطبق التشريع في الدولة التي تم فيها العقد.
أما العقود التي تتعلق بعقار ما فيطبق عليها تشريع موقع هذا العقار.
الفرع الخامس
إلغاء التشريع
أولاً:تعريف الإلغاء
إلغاء التشريع يعني زواله وإنهاء العمل به, فكما أن المشرع يستطيع أن يسن ما يشاء من التشريعات حين تدعو الضرورة فإنه يستطيع إلغاء التشريعات التي يرى أنها لم تعد ملائمة2.
والتشريع إما أن يلغى دون أن يعقبه تشريع جديد يحل محله في التطبيق, وذلك كأغلب التشريعات التي تصدر خلال الظروف الاستثنائية ـ كظروف الحرب ـ والتي تلغى بانتهاء هذه الظروف.
وإما أن يستبدل بالتشريع الملغى تشريع جديد يحل محله في التطبيق.
والإلغاء إما أن يكون عاماً بحيث يشمل جميع أحكام التشريع السابق, أو جزئياً بحيث يقتصر على بعض هذه الأحكام دون بعضها الآخر.
ثانياً:السلطة التي تملك حق إلغاء التشريع
لإلغاء نص تشريعي يجب أن يكون النص الجديد الذي يتضمن هذا الإلغاء صادراً عن السلطة نفسها التي أصدرت النص السابق أو عن سلطة أعلى منها.
فهنالك تسلسل بين أنواع النصوص التي تتضمن القواعد القانونية وتسلسل بين السلطات التي تصدر عنها هذه النصوص.
وعلمنا أن الدستور الصادر عن السلطة التأسيسية هو أعلى هذه النصوص, ثم يليه التشريع الصادر عن السلطة التشريعية ثم المراسيم والقرارات الصادرة عن السلطة التنفيذية.
فكل نص من هذه النصوص يلغى بنص مماثل أو بنص أعلى منه ولكنه لا يمكن أن يلغى بنص أقل منه1.
مثال:
فالنص التشريعي يمكن أن يلغى بنص تشريعي آخر أو بنص دستوري ولكنه لا يلغى بقرار إداري.
وبحسب الرأي الراجح لايعتبر النص التشريعي ملغى بسبب عدم الاستعمال, فعدم الاستعمال إنما يعني في الواقع وجود عرف مخالف لهذا النص, والعرف المخالف للنص التشريعي لا يؤدي لإلغائه.
وبحسب المادة الثانية من القانون المدني:
" لا يجوز إلغاء نص تشريعي إلا بتشريع لاحق... ".
فالنص التشريعي يمكن الاحتجاج به وطلب تطبيقه ما دام المشرع لم يعمد إلى إلغائه.
ثالثاً:أنواع الإلغاء2
نصت المادة الثانية من القانون المدني على ما يلي:
" لا يجوز إلغاء نص تشريعي إلا بتشريع لاحق ينص صراحة على الإلغاء, أو يشتمل على نص يتعارض مع النص التشريعي القديم, أو ينظم من جديد الموضوع الذي سبق أن قرر قواعده ذلك التشريع ".
1- الإلغاء الصريح:
ويكون هنالك إلغاء صريح حين يتضمن التشريع الجديد نصاً يقضي بإلغاء التشريع السابق أو بإلغاء بعض مواده.
وهذا الإلغاء هو أبسط أنواع الإلغاء.
2-الإلغاء الضمني:
ويقع الإلغاء الضمني في إحدى الحالتين التاليتين:
أ ـ أن يشمل التشريع اللاحق على نص يتعارض مع نص التشريع القديم.
ب ـ أن ينظم التشريع اللاحق من جديد الموضوع الذي سبق أن قرر قواعده التشريع القديم.
الحالة الأولى:
إذا تعذر تطبيق النصين في آن واحد والعمل بهما كليهما, فيعتبر أن النص اللاحق قد ألغى ضمناً النص القديم.
أما إذا أمكن التوفيق بين النصين فلا يعتبر أن النص اللاحق قد ألغى السابق وإنما يطبق كل منهما بالنسبة للحالات التي تناولها في أحكامه.
الحالة الثانية:
يعتبر التشريع اللاحق في هذه الحالة قد حل محل التشريع القديم وألغاه وإن لم ينص صراحة على هذا الإلغاء.
ومن أمثلة هذا النوع من الإلغاء حالة الدستور السوري الذي صدر عام 1950 فهو بالرغم من أنه لم ينص صراحة على إلغاء الدستور السابق له فانه يعتبر قد ألغاه ضمناً حتى بالنسبة لما يتضمنه من أحكام لا تتعارض مع أحكامه.
ويلاحظ في أغلب الأحيان أن التشريع اللاحق الذي يصدر لينظم من جديد الموضوع يتضمن عادة نصاً صريحاً بإلغاء التشريع القديم.
الفصل الثاني
المصادر غير التشريعية
تحدثنا في الفصل السابق عن التشريع وهو المصدر الأول من المصادر الرسمية,ونخصص $هذا الفصل لدراسة بقية المصادر سواء منها المصادر الرسمية وهي الشريعة الإسلامية $والعرف ومبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة, أو المصدران التفسيريان وهما الاجتهاد القضائي والفقه.
وعلى هذا فإن الفصل الحالي يتضمن الفروع التالية:
$الفرع الأول: الشريعة الإسلامية
$الفرع الثاني: العرف
$الفرع الثالث: مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة.
الفرع الرابع: الاجتهاد القضائي والفقه
الفرع الأول
الشريعة الإسلامية
أثر الدين كمصدر للقواعد القانونية:
يعرف الدين بأنه: (وحي من عند الله ينزل على نبي من أنبياءه لإرشاد الناس في معاشهم وفي معادهم).
أو: (كل ما يستمد من وحي القوة غير المنظورة وينسب إليها).
وتحدد الأديان للإنسان ثلاث أنواع من الواجبات وهي:
1 ـ واجبه نحو ربه.
2 ـ واجبه نحو نفسه.
3 ـ واجبه نحو مجتمعه.
أثر الدين المسيحي:
نستطيع القول أن المسيحية لم تحاول حين نشأتها تنظيم العلاقات الاجتماعية بين الناس وإيجاد نظام قانوني لهم ولكنها اكتفت بدعوتهم للتمسك بالمثل العليا وحثهم على الفضيلة والسبب في $ذلك يعود كون الذين أنزل عليهم الدين المسيحي كانت لهم قواعد قانونية يتبعونها وهي مستمدة من الديانة اليهودية أو من الشريعة الرومانية ولقد حرصت الكنيسة منذ اشتداد نفوذها $على تنظيم الكثير من العلاقات القانونية بين الناس لذلك يوجد قواعد قانونية تتضمنها الديانة المسيحية ولكن هذه القواعد لم تعرفها المسيحية منذ نشأتها الأولى وإنما هي من وضع رجال الكنيسة ولهذا يطلق عليها القانون الكنسي1.
أثر الدين الإسلامي:
لم يقتصر الإسلام على الدعوة إلى عبادة الله وطاعته وإنما جاء ناظماً لأمور الدنيا والآخرة معاً, وحاول إقامة نظام قانوني واجتماعي شامل يتبعه الناس في معاملتهم وأمورهم2.
ويختلف الإسلام عن المسيحية بأن حركة التشريع فيه رافقت الدولة الإسلامية منذ نشوئها وليس عمل الصحابة والفقهاء سوى امتداد لهذا الحركة, في حين تعتبر القواعد القانونية المسيحية من عمل رجال وفقهاء الكنيسة.
لمحة موجزة عن التطور التاريخي للشريعة:
يقسم هذا التطور إلى عدة مراحل:
1 ـ عصر الرسول (صلعم):
$تولى الرسول (صلعم) جميع أمور الدولة الإسلامية التي أنشأها من دينية أو دنيوية وكانت تعود إليه مهمة التشريع والقضاء وبيان القواعد القانونية التي يجب على الناس إتباعها.
والقواعد القانونية الإسلامية في هذا العصر كان لها مصدران وهما القرآن والسنة.
2- عصر التوسع والازدهار:
وهو يمتد حتى القرن الخامس للهجرة ونشطت فيه الحركة الفقهية وانصرف العلماء والفقهاء إلى استنباط الأحكام الشرعية وتدوينها وأهم خصائص هذا العصر:
جمع القرآن جمعاً صحيحاً وحاول الكثيرين من الفقهاء جمع السنة واعتبر القرآن والسنة المصدرين الرئيسين للشريعة الإسلامية.
لجأ الفقهاء بالإضافة إلى هذين المصدرين إلى مصدرين آخرين هما الإجماع والقياس وذلك $لظهور علاقات اجتماعية جديدة أوجدتها الفتوحات الإسلامية.
وظهرت في هذا العصر مذاهب فقهية ومنها المذاهب الأربعة المعروفة: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، أما القضاء فكان يتولاه كبار الفقهاء ويجرونه وفقاً لمذاهبهم.
3- عصر الركود والجمود:
في هذا العصر اشتد التقيد بالمذاهب والتعصب لها وضعفت الحركة الفقهية والفكرية وتوقف الاجتهاد وصار الفقهاء يكتفون بدراسة المذاهب السابقة وشرحها.
4- عصر الحكم العثماني:
$يعتبر امتداداً للعصر السابق ولكن بدت فيه ظاهرتان تجعلان من الضروري ذكره
وهما:
أ ـ محاولة تقنين الفقه الإسلامي على الأسلوب الحديث وذلك لأن الأحكام الفقهية لم تكن موضوعة بشكل تشريعات ذات مواد متسلسلة إنما كانت منثورة في الكتب الفقهية وكان لا بد للقاضي الذي يريد أن يرجع إلى هذه الكتب ويستخلص الأحكام منها أن يواجه رجوعاً صعباً وبحثاً عسيراً فيها وذلك لكثرة الآراء المتضاربة فيها.
وأضخم عمل قام في هذا الشأن في عهد الدولة العثمانية هو مجلة الأحكام العدلية التي تضمنت الأحكام والقواعد القانونية المتعلقة بأمور المعاملات الدينية وفقاً للمذهب الحنفي والتي كانت تعتبر بمثابة قانون مدني للدولة العثمانية.
ب ـ محاولة وضع تشريعات حديثة مستمدة من التشريعات الأجنبية ويعتبر هذا الاتجاه نقطة تحول بارزة في تاريخ الشريعة الإسلامية.
$وقد قامت هذه المحاولات بسبب تطور المدنية.
وتعقد أساليب الحياة من جهة وازدياد العلاقات والصلات مع البلاد الأجنبية من جهة ثانية
أثر الشريعة الإسلامية كمصدر للقواعد القانونية في نظامنا الحالي:
ينحصر أثر الشريعة الإسلامية حالياً كمصدر للقانون الوضعي في الجمهورية العربية السورية في الناحيتين التاليتين:
أ ـ الشريعة الإسلامية هي وحدها المطبقة بالنسبة للمسلمين في الأمور والأحوال الشخصية من زواج وطلاق ونسب... الخ.
كما أنها تطبق بالنسبة لغير المسلمين في بعض الأمور كالإرث مثلاً. ويصعب الاستعاضة عن الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية بأحكام مستمدة من تشريعات أجنبية لأن هذه القضايا تعتبر ذات صلة بعادات الأمة وتقاليدها ومعتقداتها الدينية.
$ب ـ يعتبر القانون المدني السوري الشريعة الإسلامية بمثابة مصدر ثاني من مصادر القانون بعد نصوص التشريع, وذلك يعني أن الشريعة الإسلامية لم تعد المصدر الرئيسي للقواعد القانونية في بلادنا, ولكنها تعتبر كمصدر مكمل أو متمم للتشريع ويرجع إليها بمختلف مذاهبها لا إلى مذهب واحد منها.
$تعتبر الشريعة الإسلامية من المصادر التاريخية للقانون المدني حيث استمد هذا القانون الكثير من أحكامه منها ومعظم أحكامه الأخرى لا تتعارض مع مبادئها وقواعدها.
الفرع الثاني
العرف
مكانة العرف بالنسبة لبقية المصادر:
يعتبر القانون المدني السوري العرف بمثابة مصدر ثالث من مصادر القانون بعد التشريع والشريعة الإسلامية.
أما القانون المدني المصري فقد قدم العرف على مبادئ الشريعة الإسلامية معتبراً إياه المصدر الثاني.
وكذلك فإن العرف يأتي بالنسبة لأغلب الشرائع بعد التشريع مباشرة في المكانة والمنزلة والأهمية.
إن العرف يعتبر متأخراً في المرتبة عن التشريع بالنسبة لأغلب الشرائع حالياً, ففي الدول المتمدنة هناك هيئات ومجالس مختصة تعود إليها مهمة التشريع وسن القواعد القانونية التي تصدر بشكل تشريعات والتي تعتبر المصدر الأول في القانون.
يعتبر العرف أشد قدماً من التشريع من الوجهة القانونية.
مزايا العرف ومساؤه:
أهم ميزة يتمتع بها العرف هي أنه بسبب نشأته الخاصة عن طريق التعامل بين الناس فيعتبر منبثقاً عن المجتمع نفسه وهو يبدو بالتالي أشد المصادر ملائمة لرغبات المجتمع وحاجته وأكثرها تمشياً معه في سيره وتطوره. كما أن الخضوع للعرف يعتبر أكثر سهولة من الخضوع إلى غيره من المصادر1.
لأن العرف لا يفرض على الناس فرضاً من قبل هيئات خارجة عنهم وإنما هم الذين يخلقونه بأنفسهم ويتبعونه بمحض إرادتهم (فالتشريع وإن يكن يعتبر صادر عن الأمة فهو من الوجهة العملية يبدو للأفراد وكأنه مفروض عليهم من قبل الهيئات التي تصدره خلافاً للعرف الذي يعتبر صادر عن الأفراد أنفسهم).
وأن للعرف مساوئ عديدة تعاكس ما يتمتع به التشريع من مزايا وأهمها2:
1 ـ بطؤه في الانتشار وصعوبة تغييره فالعرف يتطلب فترة من الزمن ريثما يستقر ويثبت.
ومتى ثبت يصعب انتزاعه واستبدال غيره به مما يعيق تطور المجتمع.
2 ـ صعوبة معرفته وإثباته وتحديد تاريخه فالعرف لا يوجد نصوص مكتوبة يمكن الرجوع إليها للتأكد من قواعده ومعرفة تاريخ بدء العمل بها أو زواله. كما يصعب بصورة خاصة تحديد تاريخ صحيح لموعد بدء العمل بهذه القواعد أو انتهاؤه.
3 ـ اختلاف أعراف الدولة الواحدة فالعرف لا يصدر عن هيئة واحدة تضع قواعده وإنما ينشأ عن تعامل الناس وهذا التعامل يختلف باختلاف الفئات التي يصدر عنها أو المناطق التي يطبق فيها مما يؤدي إلى اختلاف القواعد القانونية وتعددها في الدولة.
وبالرغم من هذه المساوئ التي تضعف من قيمة العرف وتدعو لتقديم التشريع عليه فلا تزال للعرف أهمية كبرى بين مصادر القانون لأن التشريع لا يستطيع أن يحوي جميع القواعد القانونية اللازمة ومن المصلحة أيضاً ترك بعض الأمور للعرف لينظمها ويوجد القواعد الملائمة لها.
تعريف العرف وعناصره:
العرف: هو عادة يشعر الناس بأنها ملزمة لهم من الوجهة القانونية.
يبدو للعرف من التعريف عنصرين: مادي ومعنوي.
أما العنصر المادي فهو وجود عادة أو تعامل بين الناس على وجه مخصوص.
أما العنصر المعنوي فهو شعور الناس بأن هذه العادة أو هذا التعامل ملزم لهم من الوجهة القانونية.
أولاً:العنصر المادي
لكي ينشأ العنصر المادي في العرف يجب أن تتوافر في العادة الشروط التالية:
1 ـ يجب أن تكون هذه العادة عامة أي تطبقها فئة كبيرة من الناس وليس ضرورياً أن تكون شاملة لجميع المواطنين وإنما يكفي أن تطبقها فئة منهم.
2 ـ يجب أن تكون العادة قديمة مستقرة ليمكن التأكد من أن الناس قد درجوا عليها وأنها قد استقرت بينهم وليست أمراً عارضاً.
3 ـ يجب أن تكون العادة ثابتة مستقرة بحيث تتبع بصورة مستقرة لا متقطعة ويتأكد تعامل الناس بها وخضوعهم لها.
ونضيف الشرط التالي:
4 ـ أن تكون العادة غير مخالفة للنظام العام والآداب العامة.
وهذه الشروط عبارة عن أمور موضوعية يقدرها القاضي ليرى أن الأمر يستحق أن يعتبر عادة أم لا, وتقدير القاضي في هذا المجال مطلق ولا مجال للرقابة عليه إذ ليس هناك حدود معينة (للقدم والاستقرار مثلاً) عليه أن يتقيد بها.
ثانياً:العنصر المعنوي
لا بد لكي تعتبر العادة عرفاً بالمعنى الصحيح من أن يتوافر فيها عنصر معنوي وهو شعور الناس بأنها ملزمة لهم من الوجهة القانونية, وبهذا تختلف العادة عن العرف فالعرف هو عبارة عن عادة يشعر الناس بأنها ملزمة لهم من الوجهة القانونية.
أما إذا خلت العادة من العنصر المعنوي فإنها تكون مجرد عادة لا عرفاً.
ومن أمثلة العادات التي لم تبلغ مرحلة العرف.
عادة تقديم الهدايا في الأفراح.
والعادة كثيراً ما تنقلب إلى العرف عندما يتوافر لها العنصر المعنوي. كعادة دفع الإكرامية في المطاعم أو الفنادق العامة, فهي تعتبر في كثير من البلاد بمثابة عرف لشعور الناس بأنهم ملزمين بذلك.
إن التمييز بين العادة والعرف أمر دقيق يصعب تحديده.
ـ ومن العسير جداً معرفة مرحلة انقلاب العادة إلى قاعدة عرفية ولكن فكرة التمييز بين العادة والعرف تبنى على فكرة أن العرف يعتبر أحد مصادر القواعد القانونية بينما لا تعتبر العادة كذلك.
أثر العرف بالنسبة لمختلف فروع القانون:
فبالنسبة لبعض فروع القانون كالقانون الجزائي مثلاً لا مجال لتطبيق العرف أبداً, بل التشريع هو وحده واجب التطبيق إذ لا جريمة ولا عقوبة بدون نص تشريعي1.
وبالنسبة للقانون الدولي العام فهنالك مجال كبير لتطبيق العرف, إذ أن الأعراف الدولية تعتبر من أهم مصادر القانون الدولي العام.
أما بالنسبة للقانون الخاص, فإن أثر العرف قوي أيضاً, وتبدو أهميته خاصة في القانون التجاري أكثر منها في القانون المدني لأن القانون التجاري يتطلب شيئاً من المرونة وهو يترك ما ينشأ من أموره إلى ما ينشأ بين التجار من أعراف.
مستند القوة الإلزامية للعرف:
ما الذي يعطي العرف قوته الإلزامية ويدعو إلى اعتباره مصدراً من مصادر القانون ؟
لقد اختلفت الآراء حول هذا الموضوع ونجمل أهمها فيما يلي:
الرأي الأول:
العرف يستمد قوته الإلزامية من نفسه باعتباره صادراً عن الأمة مباشرة لأن الأمة هي صاحبة الحق الأصلي في التشريع.
ونشوء العرف واستقراره هو دليل على رضا الأفراد بهذا العرف وهذا الرضا هو أساس قوته الإلزامية.
الرأي الثاني:
إن العرف يستمد قوته من إرادة المشرع الصريحة أو الضمنية, لأن المشرع هو صاحب الحق الوحيد بالتشريع نيابة عن الأمة وقد حصر هذا الحق به فلا يجوز للأمة أن تمارسه بنفسها إلا برضاه.
ووجه الاختلاف بين الرأيين هو أن الأمة بحسب الرأي الأول تنشئ ما تشاء من القواعد القانونية عن طريق الأعراف لأنها صاحبة الحق الأصلي في التشريع.
أما أصحاب الرأي الثاني فيعتبرون أن الأمة قد تخلت عن هذا الحق للهيئات المختصة التي تمارسه باسمها ولا يجوز لها أن تعود لممارسته بنفسها, بل ينحصر حق إقرار القواعد القانونية اللازمة بالمشرع نفسه ولا تعتبر القواعد العرفية بمثابة قواعد قانونية إلا إذا أقرها المشرع.
دور القضاء بالنسبة للعرف:
القواعد العرفية عبارة عن قواعد تنشأ عن العادات والتعامل وهذه القواعد تظل مبهمة وغير محددة تماماً إلى أن تتبناها المحاكم وتأخذ بها وتطبقها.
وحسب بعض الفقهاء فإن تطبيق القضاء للأعراف هو الذي يسبغ عليها صفتها الإلزامية ويعتبر مستنداً لها. فالقواعد العرفية بحسب هذا الرأي لا تعتبر قواعد قانونية بالمعنى الصحيح إلا بعد تطبيق المحاكم لها وتبنيها إياها لأنها منذ ذلك الحين فقط تعتبر قواعد ملزمة. والرأي الأكثر صواباً هو أن القواعد العرفية تعتبر قواعد قانونية ملزمة قبل أن تطبقها المحاكم.
صلة العرف بالتشريع:
وتقوم هذه الصلة على حالتين1:
أ- توافق العرف مع التشريع:
يبدو هذا التوافق بين العرف والتشريع في حالتين وهما:
الحالة التي يستمد فيها التشريع قواعده من العرف والحالة التي يكمل العرف فيها أحكام التشريع.
الحالة الأولى:
إن الكثير من القواعد التشريعية مستمدة في الواقع من العرف, فالمشرع حين يعمد إلى سن تشريعاته يحرص في أغلب الأحيان على أن يتبنى الأعراف السائدة التي أثبت التطبيق صلاحها فتنقلب القواعد التي تتضمنها هذه الأعراف من عرفية إلى تشريعية ويستمر الناس على إتباعها لأنهم ألفوها من جهة ولأن التشريع قد تبناها من جهة ثانية ويكون التوافق بذلك تاماً بين العرف والتشريع.
الحالة الثانية:
إن التشريع لا يستطيع أن يتضمن جميع الأحكام التي يحتاج إليها الناس في أمورهم ومعاملاتهم, بل إن الكثير من المسائل التفصيلية قد يترك أمر تنظيمها للعرف الذي يكمل التشريع في هذه الحالة ويسد النقص فيه.
والتشريع نفسه يعترف للعرف بهذه السلطة ويعتبر أن القواعد العرفية تقوم مقام القواعد التشريعية حين فقدانها.
والتشريع حين يحيل إلى العرف كأنما هو يتبنى قواعده ويقرها وبذلك نجد أن التوافق تام بينهما في هذه الحالة لأن تطبيق العرف هنا ما هو في الواقع إلا عبارة عن تطبيق للتشريع نفسه الذي يحيل عليه.
ب-تعارض العرف مع التشريع:
قد ينشأ عرف مخالف لقاعدة من القواعد التي نص عليها التشريع فما الذي يجب الأخذ به في هذه الحالة: القاعدة التشريعية أم العرف ؟
في الحالة التي يقضي فيها التشريع نفسه بترجيح العرف المخالف لحكم القاعدة التي يتبناها على هذا الحكم.
فلا شك أن العرف هو الذي يتبع استناداً إلى نص التشريع نفسه.
مثال:
ورد في المادة (432) من القانون المدني: " نفقات تسلم المبيع على المشتري ما لم يوجد عرف أو اتفاق يقضي بغير ذلك ".
فالقاعدة تقضي بتحمل المشتري نفقات تسلم المبيع ولكن لو وجد عرف سائد يقضي بتحمل البائع والمشتري نفقات تسلم المبيع فيتبع حكم العرف وبهمل حكم القاعدة الأصلية.
أما لو كان العرف يخالف قاعدة تشريعية دون أن ينص التشريع نفسه على ترجيحه, فهنا يجدر التفريق بين حالتين:
الحالة الأولى:
أن تكون القاعدة التشريعية التي يخالفها العرف من القواعد الآمرة التي تتعلق بالنظام العام. وفي هذه الحالة يكون الإجماع منعقداً بين الفقهاء على ضرورة تطبيق القاعدة وإهمال العرف لأن القواعد التي تتعلق بالنظام العام تؤثر على المجتمع تأثيراً مباشراً ولا يجوز الحد منها عن طريق الأعراف أو غيرها.
الحالة الثانية:
$أن تكون القاعدة التشريعية التي يخالفها العرف من القواعد التكميلية أو المفسرة وجب عندئذ القاعدة الأخذ، من حيث المبدأ، بالعرف وإهمال القاعدة التشريعية, وفي هذه الحالة يجب التفريق فيما إذا كانت مخالفة العرف للقاعدة التشريعية واقعة في الأمور التجارية أو الأمور المدنية.
ففي الأمور التجارية: إذا خالف العرف القاعدة التشريعية التكميلية أو المفسرة استناداً إلى نص المادة الرابعة من قانون التجارة السوري التي تنص: " على القاضي عند تحديد آثار العمل التجاري أن يطبق العرف المتوطد إلا إذا ظهر أن المتعاقدين قصدوا مخالفة أحكام العرف أو كان العرف متعارضاً مع النصوص التشريعية الإلزامية ".
ونستنتج بمفهوم المخالفة من ذلك إذا لم يكن العرف متعارضاً مع النصوص التشريعية الإلزامية, وإنما كان متعارضاً مع النصوص التشريعية التكميلية أو المفسرة, فإن من الواجب تطبيقه.
أما في الأمور المدنية: هناك رأيان
الرأي الأول:
وفيه يرجح العرف المخالف للقاعدة التشريعية التكميلية أو المفسرة على هذه القاعدة. وذلك لأن القاعدة المفسرة إنما تطبق لأنه يفترض أن المتعاقدين قد أراداها ولكن ما دام قد وجد العرف المخالف فمن الأصح أن نعتبر أن إرادتهما قد انصرفت إليه وعندئذ يطبق العرف لأنه أصدق تعبيراً عن إرادة المتعاقدين.
الرأي الثاني:
وفيه ترجح القاعدة التشريعية التكميلية أو المفسرة على العرف الذي يخالفها وحجة أصحاب هذا الرأي أن نص التشريع مقدم على العرف, لأن العرف لا يجوز تطبيقه إلا في حالة عدم وجود نص تشريعي.
أما إذا وجد نص تشريعي وعرف مخالف فإن النص التشريعي هو الذي يطبق أولاً.
ويضيف أصحاب هذا الرأي حجة أخرى وهي أنه إذا جاز لنا أن نهمل القاعدة التشريعية ونطبق العرف المخالف لها فإن هذا يعتبر إلغاء للقاعدة التشريعية بالعرف المخالف وهو يناقض نص المادة الثانية من القانون المدني: " لا يجوز إلغاء نص تشريعي إلا بتشريع لاحق ".
مثال:
نصت المادة (535) من القانون المدني أن على المؤجر: " أن يجري الأعمال اللازمة للأسطح من تجصيص أو بياض وأن يقوم بنزح الآبار والمراحيض ومصارف المياه ".
وهذه القاعدة ليست من النظام العام بل هي تكميلية أو مفسرة.
ولنفرض وجود عرف يقضي بأن تقع نفقات تجصيص وبياض الأسطح على عاتق المستأجر لا المؤجر.
بحسب الرأي الأول: يطبق العرف إذ يفترض أن المتعاقدين قد أرادا تبنيه عندما تعاقدا.
وبحسب الرأي الثاني: يجب تطبيق القاعدة التشريعية لا العرف إذ لا مجال لتطبيق العرف مع وجود نص تشريعي حول الموضوع, لأن ذلك يعتبر نوع من إلغاء التشريع بالعرف المخالف.
الفرع الثالث
مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة
مفهوم القانون الطبيعي وقواعد العدالة:
رأينا أن مدرسة القانون الطبيعي تقول بوجود مبادئ وقواعد قانونية مثالية ثابتة تفرضها طبيعة الأشياء ويكتشفها المنطق والعقل السليم وهي التي يجب أن تبنى عليها القواعد القانونية الوضعية وأن تستمد منها أحكامها.
وهذه القواعد سواء أكانت ثابتة كما تراها نظرية القانون الطبيعي الأصلية أم متغيرة كما تراها نظرية القانون الطبيعي ذي المضمون المتغير, هي تلك التي أراد المشرع أن يحيل القاضي إليها حين نص في المادة الأولى من القانون المدني على اعتبارها كمصدر أخير من مصادر القانون يلجأ إليه القاضي للحكم بموجبه عند عدم كفاية المصادر الأخرى1.
ويرى بعض الفقهاء أن هنالك نوعين من القانون الطبيعي:
القانون الطبيعي المبدئي: ويشمل مجموعة قليلة من المبادئ الأساسية العامة.
والقانون الطبيعي الثانوي: ويشمل القواعد التفصيلية التي يفرعها العقل على تلك المبادئ لتحقيق العدالة وهذه المبادئ التي تشكل القانون الطبيعي الثانوي يسميها القانون المدني قواعد العدالة.
أثر مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة بالنسبة للمشرع وبالنسبة للقاضي:
إن أثر مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة لا يتناول فقط المشرع حين وضعه للقواعد التشريعية, بل يشمل أيضاً القاضي الذي يستطيع أن يستند عليها مباشرة وأن يقضي بموجبها عند فقدان المصادر الأخرى.
فمبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة يمكن أن يستفاد منها في مجالين: مجال التشريع ومجال القضاء.
أما في مجال التشريع: فمهمتها أن ترشد المشرع إلى القواعد العادلة التي يتوجب عليه أن يتبناها في تشريعاته.
وأما في مجال القضاء: فمهمتها أن تلهم القاضي الحلول الملائمة التي يتوجب عليه أن يطبقها في أحكامه عند عدم وجود حلول أخرى يعتمد عليها.
ولا شك في أن السماح للقاضي بأن يستند في أحكامه إلى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة وأن يقضي بموجبها من شأنه أن يخوله سلطة كبيرة في الاجتهاد
والحكم.
ولكن القاضي لا يستطيع أن يلجأ لهذه المبادئ إلا حين استنفاذه البحث في المصادر الأخرى.
تطبيق القضاء في بلادنا لمبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة:
لقد أصبحت هذه القواعد تعتبر بمثابة قواعد تشريعية بعد أن كانت عبارة عن مجرد تطبيقات قضائية لمبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة.
وهذا يدلنا على أن تطبيق القضاء لهذه المبادئ والقواعد قد يؤثر أحياناً على المشرع نفسه إذ يؤدي به إلى تبنيها والأخذ بها في تشريعاته.
الفرع الرابع
الاجتهاد القضائي والفقه
إلى جانب المصادر التي ذكرناها سابقاً يوجد هنالك مصدران آخران يعتبران حالياً بالنسبة $لأغلب النظم القانونية بمثابة مصدرين تفسيريين وهما: الاجتهاد القضائي والفقه.
أولاً:الاجتهاد القضائي
الاجتهاد بصورة عامة هو إعمال الرأي أو بذل الجهد العقلي للتعرف على الحكم, فإذا كان هذا الاجتهاد يمارس من قبل الفقهاء فهو اجتهاد فقهي, أما إذا كان يمارس من قبل القضاة فهو اجتهاد قضائي.
وكان للاجتهاد القضائي في بعض الشرائع القديمة وبصورة خاصة في الشريعة الرومانية, الأثر الكبير في إيجاد الكثير من القواعد القانونية, كما أن الاجتهاد القضائي لا يزال يتمتع حتى الآن بأهمية بالغة في الشريعة الإنكليزية كمصدر رسمي للقواعد القانونية, حيث تعتبر الأحكام القضائية فيها بمثابة قواعد واجبة التطبيق في القضايا المماثلة.
إلا أن أغلب النظم في العصر الحاضر ومن بينها نظامنا القانوني لا يعتبر الاجتهاد القضائي من المصادر الرسمية للقانون, وإنما هي عبارة عن تطبيق عملي للقواعد القانونية الموجودة وليس لها أية صفة إلزامية إلا بالنسبة للقضايا التي تفصل فيها1.
سبب اعتبار الاجتهاد القضائي من المصادر التفسيرية:
إن اعتبار الاجتهاد القضائي من المصادر التفسيرية هو من نتائج مبدأ الفصل بين السلطات الذي اعتبره رجال الثورة الفرنسية وبصورة خاصة الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية من المبادئ الرئيسية التي يقوم عليها نظامهم الجديد.
ولا شك في أن عدم السماح للقضاة بإصدار قواعد قانونية عامة من شأنه أن يؤدي إلى شيء من الطمأنينة والاستقرار في الحياة القانونية, إذ يكون الناس على ثقة بنتائج أعمالهم ومعرفة بالقواعد التي تطبق عليهم دون أن يكون هنالك مجال لمجابهتهم بقواعد لا يعلمونها يترك أمر تقديرها إلى القضاء.
أهمية الاجتهاد القضائي من الوجهة العملية:
ليس من الممكن بحال من الأحوال أن يقتصر القاضي في عمله على تطبيق القواعد القانونية تطبيقاً آلياً بل لا بد له من أن يلعب دوراً إيجابياً هاماً في إنماء القانون وتطويره.
فالاجتهاد القضائي هو الذي يفسر التشريع ويحدد معناه وهو يؤدي من خلال تفسيره لنصوص التشريع إلى التوسع في تطبيقه بل وإلى تعديل معناه الأصلي أحياناً بحيث يصبح أكثر ملائمة لظروف البيئة وتطور المجتمع.
ويتمتع هذا الاجتهاد القضائي من الوجهة العملية بقوة إلزامية لا تكاد تقل شأناً وأثراً عن تلك القوة التي تتمتع بها المصادر الرسمية للقانون, على الرغم من أنه لا يعتبر ملزماً من الوجهة النظرية إلا بالنسبة للقضايا التي يفصل فيها.
ويعود السبب في هذه القوة الإلزامية من الوجهة العملية إلى عاملين رئيسيين:
أولهما: حرص المحاكم على أن تلتزم في القضايا المماثلة نفس الاجتهاد, وأن تتجنب تعديل هذا الاجتهاد بصورة مستمرة لئلا توصم بالتردد وعدم الاستقرار بل وبالتحيز في بعض الأحيان.
ثانيهما: وجود تسلسل بين أنواع المحاكم ووجود محكمة النقض بصورة خاصة التي تتولى توحيد الاجتهاد في البلد الواحد مما يدفع سائر المحاكم على مختلف أنواعها إلى أن تتقيد بما يصدر عن محكمة النقض هذه من اجتهادات وأن تتوافق معها في أحكامها لئلا تكون هذه الأحكام عرضة للنقض والرد.
ثانياً:الفقـــــــه
يختلف الفقه عن الاجتهاد القضائي في أنه لا يصدر عن هيئات رسمية هي المحاكم, بل هو لا يعدو أن يكون مجرد آراء شخصية تصدر عن رجال القانون.
وإن للفقه أثر كبير لأن المشرع والقاضي كليهما يسترشدان في أغلب الأحيان بآراء الفقهاء ورجال القانون ويحاولان تبنيها سواء فيما يضعه الأول من قواعد تشريعية أو ما يصدره الثاني من أحكام واجتهادات1.
القسم الثاني
الحق
إن دراسة الحق تتناول بصورة رئيسية ركنيه الأساسيين وهما: الأطراف من جهة، والمحل من جهة ثانية.
على أنه لا بد لنا، قبل دراسة هذين الركنين الأساسيين بصورة مفصلة من أن نستهل هذه الدراسة ببحث تمهيدي يتناول الحق نفسه من حيث تعريفه و نسبيته وأقسامه وأركانه.
$لذا، فإن دراستنا للحق ستكون على النحو التالي
تمهيد: تعريف الحق و نسبيته، وأقسامه، وأركانه
الباب الأول: أطراف الحق، أو الأشخاص.
الباب الثاني: محل الحق، أو الأشياء.
تمهيد
تعريف الحق و نسبيته، وأقسامه، وأركانه
أولاً: تعريف الحق
لقد وجد القانون ليكون سبيلاً لتحقيق التوازن الاجتماعي بتحديده الظروف والشروط التي تكون فيها مصلحة الفرد أولى بالرعاية من مصالح غيره من الأفراد الآخرين ولمنحه بالتالي السلطة أو القدرة التي تمكنه من تحقيق مصلحته المشروعة وتحول دون تعدي الآخرين عليها.
والحق: هو هذه السلطة أو القدرة التي يمنحها القانون لشخص من الأشخاص تحقيقاً لمصلحة $مشروعة يعترف له بها ويحميها1. فالمستأجر هو صاحب حق في الانتفاع بالمأجور.
$وقد عرف بعض الفقهاء من أنصار المذهب الفردي - بأنه:
" سلطة أو قدرة إرادية يتسلط بها الشخص على أعمال الغير بموافقة السلطات العامة ومساعدتها ".
وعرفه بعض الفقهاء الآخرين بأنه:
" مصلحة يحميها القانون ".
ولكن التعريف الأول انتقد من عدة وجوه حيث:
لا يمكن أن يمنح الحق بموجبه إلا للشخص الذي تتوافر فيه الإرادة في حين أن الأشخاص جميعاً حتى الذين تنعدم لديهم الإرادة والتفكير كالصغير غير المميز والمجنون.
يمكن أن يكتسبوا الحقوق ويتمتعوا بما تتضمنه من سلطات وإن كان عديمو الإرادة بحيث لا يمارسون هذه السلطات بأنفسهم وإنما يتولى غيرهم ممن تتوافر لهم الإرادة ممارستها باسمهم ولحسابهم.
وبينما التعريف الثاني قد انتقد أيضاً من حيث أنه لا يبين مفهوم الحق وكنهه وإنما يقتصر على بيان غايته فقط لأن المصلحة ليست هي الحق نفسه وإنما هي الغاية التي يهدف إلى تحقيقها صاحب الحق, أما حقه نفسه فيتمثل في السلطة الممنوحة له لتمكينه من تحقيق هذه المصلحة المشروعة التي أقرتها له القواعد القانونية.
ثانياً: نسبية الحق أو نظرية التعسف في استعمال الحق
عدم مسؤولية الشخص مبدئياً عن استعماله لحقه:
رأينا أن الحق عبارة عن سلطة يمنحها القانون للشخص تحقيقاً لمصلحة مشروعة يعترف له بها ويحميها, وهذه السلطة تنظمها قواعد القانون وتحدد مضمونها ومداها.
وصاحب الحق يستطيع أن يستعمل هذه السلطة الممنوحة إليه بالشكل الذي يروق له, دون أن يكون مسؤولاً عما ينجم عنها من ضرر للآخرين طالما أنه لا يتعدى حدودها المرسومة ولا يتجاوز نطاقها المشروع.
ومما لا شك فيه أن استعمال الحق, إذا كان يحقق مصلحة صاحبه, فهو قد يتعارض في أغلب الأحيان مع مصالح الأشخاص الآخرين ويؤدي إلى إلحاق الضرر بهم.
وليس من المعقول أن يسأل صاحب الحق عن هذا الضرر الذي يلحق بغيره جراء استعماله لحقه.
مثال: فصاحب الأرض الذي يستعمل حقه في البناء عليها قد يؤدي إلى الإضرار بأصحاب الأبنية المجاورة بهذا البناء الذي يحدثه على أرضه.
وعلى هذا يقال في عالم القانون أن: " الجواز الشرعي ينافي الضمان ". ومعنى ذلك أن الذي يقوم بما هو جائز له من الوجهة الشرعية أو القانونية لا يكون ضامناً للأضرار التي تنجم للآخرين عن هذا العمل الذي يقوم به إذ لا يعقل أن يمنح الشخص السلطة أو الحق وأن يباح له استعماله ثم يحاسب في نفس الوقت على هذا الاستعمال.
وجوب عدم التعسف في استعمال الحق:
بالإضافة إلى الحدود والقيود التي يرسمها القانون بالنسبة لكل حق من الحقوق, فإن هنالك قيداً عاماً تخضع له هذه الحقوق جميعها ويتوجب على أصحابها مراعاته واحترامه.
فلا يكفي إذن أن يستعمل الشخص حقه ضمن حدوده المرسومة لتنتفي عنه المسؤولية, وإنما يجب أن يكون هذا الاستعمال نفسه مشروعاً, أما لو تعسف الشخص في استعمال حقه ولو كان ذلك دون تجاوز منه أو خروج عن حدود هذا الحق, فإن تعسفه هذا يكون سبباً لمسؤوليته عن الأضرار التي تنجم عنه للغير لأن مجرد التعسف يعتبر نوع من الخطأ وخروجاً عن القيد العام الذي تخضع له الحقوق جميعاً وهو قيد الاستعمال المشروع1.
مثال:
إن مالك الأرض يستطيع بمقتضى حقه في الملكية أن يقيم ما يشاء من الأبنية على الأرض التي يملكها دون أن ينازعه أحد في ذلك ودون أن يكون مسؤولاً عما يصيب الغير من ضرر ولكن لو حاول هذا المالك استغلال حقه لا لتحقيق المصلحة التي منحت من أجله وإنما بقصد إلحاق الضرر بالغير فأقام على أرضه جداراً لا ينفعه وإنما يحجب النور والهواء عن جاره فهو بذلك يكون قد تعسف باستعمال حقه.
تطور نظرية التعسف ومناقشتها:
$نظرية التعسف في استعمال الحق حديثة العهد نسبياً فهي لم تبرز بشكل نظرية كاملة واضحة ولم تأخذ بها التشريعات ويطبقها القضاء كمبدأ عام2 إلا منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وإن كان لهذه النظرية بعض الآراء المتفرقة والمعطيات القضائية في القانون الروماني والشريعة الإسلامية التي تعتمد على هذا المفهوم دون أن تنشأ من ذلك نظرية كاملة واضحة يتفق عليها ويأخذ بها في جميع الأحوال.
وحول هذه النظرية قد تنازع الفقه والقضاء وظهر بصورة عامة اتجاهان متعاكسان.
الاتجاه الأول:
وهو يرفض الأخذ بفكرة التعسف في استعمال الحق, ويرى عدم مؤاخذة الشخص الذي يستعمل حقه عن الأضرار التي يسببها للغير بأي حال من الأحوال حتى ولو كان استعماله لهذا الحق يتضمن معنى الإساءة والتعسف لأن صاحب الحق الذي يمارس السلطة التي يخوله إياها حقه لا يمكن أن يعتبر كمن يتصرف دون حق أو كمن يرتكب عمل غير مشروع.
وتعتبر النظم القانونية التي تغلب عليها النزعة الفردية هي الأميل للأخذ بهذا الاتجاه.
الاتجاه الثاني:
وهو الاتجاه الذي تغلب عليه النزعة الاجتماعية فلا يرى أن ينظر إلى الحقوق هذه النظرة $التقديسية التي تنظرها - المذاهب الفردية: وإنما هو يؤمن بضرورة تقييدها ومراقبة استعمالها لأن هذه الحقوق لم تمنح لأصحابها إلا لتمكينهم من تحقيق مصالحهم المشروعة. لا لتتخذ معولاً للهدم والإساءة وسبيلاً إلى الإضرار والإيذاء.
ولا يكفي بحسب هذا الاتجاه أن يكون الشخص قد استعمل حقه لينجو من المسؤولية وإنما يجب أن يكون استعماله لهذا الحق مشروعاً وأن يخلو من الإساءة والتعسف لأن من يسيء أو يتعسف في استعمال حقه هو كمن يعمل دون حق, مخطئ ومسؤول.
موقف قانوننا المدني من نظرية التعسف:
أخذ القانون المدني السوري بنظرية التعسف في استعمال الحق ونظم أحكامها في الباب التمهيدي له1.
وقد أفرد في القانون المدني السوري المادتان 5 و6 لتنظيم أحكام التعسف في استعمال الحق.
فورد في نص المادة الخامسة ما يلي:
" من استعمل حقه استعمالاً مشروعاً لا يكون مسؤولاً عما ينشأ عن ذلك من ضرر ".
بينما عددت المادة السادسة من القانون المدني الحالات التي يكون استعمال الحق فيها غير مشروع أو مشوباً بالتعسف فنصت على ما يلي:
" يكون استعمال الحق غير مشروع في الأحوال التالية:
أ. إذا لم يقصد به سوى الإضرار بالغير.
ب. إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها قليلة الأهمية, بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها.
ج. إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها غير مشروعة".
حالات التعسف التي نص عليها القانون المدني:
لقد نص القانون المدني على ثلاث حالات يعتبر فيها صاحب الحق متعسفاً باستعمال حقه2:
3. قصد الإضرار بالغير:
وهذه الحالة هي أبرز حالات التعسف في استعمال الحق وفيها يستعمل الشخص حقه لا لتحقيق مصلحته ولكن ليلحق الضرر بالغير ويسيء إليه.
مثال (1):
الشخص الذي يقيم جداراً عالياً في أرضه لا يعود عليه بأية فائدة ولكن لمجرد حجب النور والهواء عن جاره إذ يكون هذا الشخص مسؤولاً عن الأضرار التي تصيب جاره بسبب تعسفه في استعمال حقه والذي يستنتج من وجود قصد الإضرار لديه مع عدم وجود مصلحة له في هذا الاستعمال.
ويعتبر التعسف حاصلاً إذا كان قصد الإضرار هو العامل الرئيسي أو الأصلي الذي دفع صاحب الحق إلى استعمال حقه وكان عامل المنفعة ثانوياً بالنسبة إليه.
مثال (2):
كمن يقيم في أرضه برجاً للحمام إلى جانب حظيرة للمواشي تعود إلى جاره بقصد الإضرار بهذا الجار والناتج عن تساقط ريش الحمام في علف مواشيه حيث يعتبر صاحب البرج متعسفاً في استعمال حقه ما دام قصد الإضرار هو العامل الرئيسي الذي دفعه إلى إقامة البرج بقرب الحظيرة, وبالرغم من المنفعة الثانوية التي تحققها له إقامة هذا البرج وتربية الحمام فيه.
3. التفاوت الكبير بين المصلحة والضرر:
وفي هذه الحالة إذا كان استعمال الحق يؤدي إلى تحقيق مصلحة قليلة الأهمية لصاحبه ويسبب في نفس الوقت ضرراً للغير لا يتناسب البتة مع هذه المصلحة الناجمة عنه.
فإن هذا الحق يكون مشوباً بالتعسف ويستوجب مسؤولية صاحب الحق ولو لم يثبت لديه قصد الإضرار أو الإيذاء.
فالتعسف هنا يستخلص من مجرد التفاوت الكبير بين المصلحة والضرر ودون النظر إلى النية والقصد.
ويعتبر هذا التفاوت الكبير بين المصلحة والضرر قرينة أو دليل على وجود قصد الإضرار لدى صاحب الحق.
لأن من يستعمل حقه ويسبب للغير ضرراً بالغاً مع ضآلة المصلحة التي تعود عليه إما أن يكون عابثاً مستهتراً أو يكون متعمداً إحداث الضرر الذي أصاب الغير بسبب استعماله حقه.
ويعود ذلك إلى القاضي الذي يتوجب عليه أن يوازن بين المصلحة والضرر في كل حالة من الحالات.
3. تحقيق مصلحة غير مشروعة:
وفي هذه الحالة يعتبر التعسف قائماً لا بقصد الإضرار بالغير لدى صاحب الحق أو بسبب التفاوت الكبير بين المصلحة التي يجنيها من استعمال حقه والضرر الذي يصيب الغير من جراء ذلك ولكن بسبب استعماله لحقه ابتغاء تحقيق مصلحة غير مشروعة.
ويستنتج من المذكرة الإيضاحية للقانون المدني أن المصلحة تعتبر غير مشروعة " إذا كانت تخالف حكماً من أحكام القانون أو تتعارض مع النظام العام والآداب ".
مثال ذلك:
صاحب الأرض المجاورة لإحدى المطارات الذي يقيم الأعمدة العالية على أرضه أو يحيطها بالأسلاك الشائكة لعرقلة هبوط الطائرات وإرغام أصحاب المطار بالتالي على شراء أرضه بأسعار مرتفعة, وهذه المصلحة تعتبر من المصالح غير المشروعة التي تدل على وجود التعسف.
ثالثاً: أقسام الحق
تعداد أقسام الحق1:
1 ـ الحقوق العامة والحقوق الخاصة:
فالحقوق العامة هي السلطات التي تقررها قواعد القانون العام للدولة أو الأفراد.
والحقوق الخاصة: هي السلطات التي تقررها لهم قواعد القانون الخاص.
ويدخل في زمرة الحقوق العامة نوعان هامان من الحقوق يطلق عليهما اسم الحقوق السياسية وحقوق الشخصية.
أما الحقوق السياسية فهي الحقوق التي تمنح للشخص باعتباره عضواً في الدولة لتمكنه من الإسهام في حكم بلاده وإدارته كحق الانتخاب والترشح مثلاً أو حق تولي الوظائف العامة.
وأما حقوق الشخصية فهي عبارة عن حقوق تتصل بالشخصية الإنسانية وتعتبر ضرورية لحماية الفرد في ذاته ومقومات وجوده وتمكينه من العيش بصورة حرة كريمة وذلك كحق الإنسان في الحياة والحرية1.
ويطلق على هذه الحقوق أيضاً اسم حقوق الإنسان باعتبار أن الطبيعة نفسها تفرض منحها للإنسان لمجرد كونه إنساناً.
2 ـ حقوق الأسرة والحقوق المالية:
كسلطة الأب على ابنه في تربيته أو كسلطة الزوج تجاه زوجته والزوجة تجاه زوجها فيما يتمتعان من حقوق عائلية2.
أما الحقوق المالية فهي سلطات تمنحها قواعد القانون الخاص لأصحابها تمكيناً لهم من تحقيق مصالح تعود إليهم يمكن تقويمها بالمال. كحق المالك والدائن والبائع.
وهذه الحقوق تدخل في ذمة الشخص المالية ويجوز التعامل فيها والحجز عليها بعكس الحقوق السياسية وحقوق الشخصية.
3 ـ الحقوق العينية والحقوق الشخصية (والحقوق الأدبية والمعنوية):
تقسم الحقوق المالية إلى قسمين رئيسيين هما الحقوق العينية والحقوق الشخصية:
1 ـ الحق العيني:
يعرف الحق العيني بأنه سلطة مباشرة لشخص على شيء معين بالذات يستطيع هذا الشخص ممارستها دون واسطة3.
ونلاحظ أن السلطة التي يتمتع بها صاحب الحق العيني هي سلطة مباشرة على الشيء الذي يتعلق به هذا الحق.
فصاحب حق الملكية له سلطة مباشرة على الشيء الذي يملكه وهو يستطيع أن يمارس هذه السلطة باستعمال الشيء أو استغلاله أو التصرف فيه دون وساطة أي شخص آخر.
وتقسم الحقوق العينية إلى قسمين: حقوق عينية أصلية وحقوق عينية تبعية:
أما الحقوق العينية الأصلية:
فهي التي يكون لها وجود مستقل بحيث لا ترتبط أو تتعلق بأي حق آخر وأهمها: حق الملكية وحق الانتفاع وحق الارتفاق.
وحق الملكية هو أهم أنواع الحقوق العينية لأن صاحبه يتمتع بسلطة استعمال الشيء واستغلاله والتصرف فيه بشتى أنواع التصرف وهذه المكنات الثلاث لا تجتمع سوى بحق الملكية وحده, أما حق الانتفاع فتقتصر سلطة صاحبه على الاستعمال والاستغلال دون التصرف, وحق الارتفاق ليس لصاحبه سوى سلطة محدودة في استعمال الشيء بحسب ما يقتضيه نوع حقه كحق المرور في أرض الغير.
وأما الحقوق العينية التبعية:
فهي التي لا يمكن أن توجد بصورة مستقلة وإنما تتبع حقاً آخراً ترتبط به وتكون ضامنة له.
ومن أهم أنواع الحقوق العينية التبعية حق الرهن وهو حق عيني لأن لصاحب حق الرهن سلطة مباشرة على المال المرهون وهو تبعي لأنه لا يمكن أن يوجد بصورة مستقلة إذ لا يمكن أن ينشأ حق الرهن إلا إذا كان هنالك دين يراد إيجاد ضمان للوفاء به.
2- الحق الشخصي:
يعرف الحق الشخصي بأنه سلطة مقررة لشخص تجاه آخر تخول الأول وهو صاحب الحق الشخصي أو الدائن أو الملتزم له أن يجبر الثاني وهو المكلف أو المدين على أن يقوم له بعمل أو يمتنع لأجله عن عمل1.
فللبائع مثلاً حق شخصي على المشتري فيما يتعلق بدفع الثمن وللمشتري حق شخصي على البائع فيما يتعلق بتسليم المبيع.
وللمتضرر من فعل غير مشروع حق شخصي على مرتكب الفعل بالتعويض عليه.
فإن على المشتري والبائع ومرتكب الفعل الغير مشروع التزاماً بالقيام بعمل وهو أداء الثمن بالنسبة للمشتري وتسليم المبيع بالنسبة للبائع ودفع التعويض بالنسبة لمرتكب الفعل غير المشروع.
المقارنة بين الحق العيني والحق الشخصي:
يمكننا التفريق بين الحق العيني والحق الشخصي من ثلاثة وجوه1:
أ- من حيث الأطراف:
يختلف الحق العيني عن الحق الشخصي من حيث أن الحق العيني لا يوجد فيه سوى طرف واحد موجب وهو صاحب الحق بينما لا بد من وجود طرفين بالنسبة للحق الشخصي أحدهما موجب وهو صاحب الحق أو الدائن والآخر سالب وهو المكلف أو المدين.
ولقد حاول بعض الفقهاء أن يزيلوا هذا الفارق بين الحق العيني والحق الشخصي معتبرين أن الحق العيني يوجد فيه كالحق الشخصي طرفان: موجب وسالب, وأما الطرف الموجب فهو صاحب الحق, وأما الطرف السالب فيتمثل في الناس كافة التي يقع عليهم واجب احترام الحق العيني والامتناع عن كل ما من شأنه عرقلة استعماله من قبل صاحبه, فالناس جميعاً بحسب أصحاب هذا الرأي يمكن اعتبارهم الطرف السالب بالحق العيني.
ويمكن الرد على هذا الرأي بأن التزام الناس بالامتناع عن عرقلة ممارسة الحق العيني لا يشابه التزام المدين أو المكلف في الحق الشخصي, فالتزام المدين أو المكلف بالحق الشخصي هو التزام بالامتناع عن عمل هو نفسه موضوع هذا الحق, أما التزام الناس بعدم عرقلة ممارسة الحق العيني فليس هو موضوع هذا الحق, وإنما هو من قبيل الواجب السلبي العام.
وإذا اعتبرنا أن أطراف الحق العيني هم صاحب الحق العيني من جهة والناس كافة من جهة ثانية, فإن أطراف الحق الشخصي هم صاحب الحق الشخصي من جهة, والناس كافة من جهة أخرى والملتزم أو المدين المكلف تجاه صاحب الحق الشخصي من جهة ثالثة.
ب- من حيث المضمون:
ويتبين اختلاف الحق العيني عن الحق الشخصي من حيث المضمون من التعريف الذي أوردناه لكل منهما فقد رأينا أن الحق العيني عبارة عن سلطة مباشرة لشخص على شيء معين بالذات, أما الحق الشخصي فعبارة عن سلطة مقدرة لشخص تجاه آخر موضوعها القيام بعمل أو الامتناع عن عمل.
وأن الحق الشخصي قد يزول ويحل محله حق عيني وذلك حين يكون الالتزام المقابل لهذا الحق الشخصي يتعلق بإعطاء شيء ويقوم المدين أو الملتزم بإعطاء ما التزم به وعندها تنتهي العلاقة بين الدائن والمدين وتحل محلها علاقة جديدة بين الدائن والشيء الذي تم إعطاؤه فيصبح الدائن مالكاً لهذا الشيء.
كما أنه من الممكن أن يزول الحق العيني ويحل محله حق شخصي كالمالك الذي أتلف له شخص آخر الشيء الذي يملكه, إذ تزول ملكية المالك عن الشيء بعد تلفه وزواله وينشأ له بدلاً عن ذلك حق شخصي تجاه المتلف بالتعويض عليه.
وقد يمكن أن ينشأ أحياناً حول شيء واحد حق عيني وحق شخصي معاً, فالشخص الذي غصب منه شيء يملكه له حق عيني على هذا الشيء لأنه يظل مالكاً له بعد اغتصابه منه, وله في نفس الوقت حق شخصي على الغاصب يخوله إجباره على القيام بعمل وهو إعادة الشيء المغصوب إليه.
ت- من حيث النتائج والآثار:
الحق العيني يخول صاحبه امتيازين هامين لا يخولهما الحق الشخصي وهما: حق التتبع وحق الأولوية أو الرجحان.
فحق التتبع:
من مقتضاه أن يستطيع صاحب الحق العيني تتبع الشيء الذي يقع عليه حقه واللحاق به لاسترداده من أي يد وقع فيها وذلك نتيجة لسلطته المباشرة عليه.
وحق الأولوية والرجحان:
معناه أن صاحب الحق العيني يستطيع أن يتقدم على غيره للحصول على حقه وهو يرجح على سائر الدائنين العاديين.
وتبدو هذه الأولوية بصورة خاصة في الحقوق العينية التبعية, فالدائن الذي استحصل على رهن من مدينه يكون له حق عيني تبعي على المال المرهون ولهذا يرجح على سائر الدائنين الآخرين في استيفاء دينه من هذا المال لأن له عليه سلطة مباشرة.
الحق الأدبي أو المعنوي:
يعرف الحق الأدبي أو المعنوي بأنه سلطة مخولة لشخص على نتاجه الفكري أو الأدبي أو الفني لتمكينه من الاحتفاظ بنسبة هذا النتاج إلى نفسه واحتكار المنفعة المالية التي تنتج عن استغلاله.
وهذا الحق في الواقع كحق الملكية إلا أنه لا يقع على شيء مادي بل على شيء معنوي, فالمؤلف مثلاً له حق الملكية الأدبية أو المعنوية بالنسبة للكتاب الذي يؤلفه.
وهذه الملكية لا تقع على عين الكتاب أو الآلة المخترعة وإنما هي تقع على الأفكار التي يتضمنها هذا الكتاب والابتكار الذي أدى لهذا الاختراع.
ومن خصائص هذا الحق أن له طابعاً مالياً ومعنوياً فهو من جهة يخول صاحبه استثمار نتاجه الفكري واستغلاله والتصرف فيه وجني الأرباح التي تنتج عنه, ومن جهة ثانية يخوله نسبة هذا النتاج إليه وعدم الاعتداء عليه أو انتحاله من قبل غيره حفظاً لسمعته أو شهرته الأدبية أو العلمية أو الفكرية.
رابعاً:أركان الحـــــــق: تعداد أركان الحق
يرى بعض الفقهاء أن للحق ركنين أساسيين وهما:الأطراف من جهة والمحل من جهة ثانية.
ويضيف البعض الآخر أركاناً ثلاثة أخرى وهي1:المضمون والسبب والمؤيد أو الجزاء.
الأطراف: أطراف الحق هم الأشخاص سواء أكانوا أشخاصاً اعتباريين أو طبيعيين لأن الأشخاص هم أصحاب الحقوق وأربابها وهم الذين تقع الواجبات على عاتقهم وأطراف الحقوق على نوعين:
أطراف إيجابيون وهم أصحاب هذه الحقوق, وأطراف سلبيون وهم الأشخاص الذين تقع عليهم الالتزامات المقابلة لهذه الحقوق.
المحل: وهو الشيء المادي أو المعنوي الذي يتعلق به هذا الحق سواء مباشرة كما في الحقوق العينية, أو بصورة غير مباشرة كما في الحقوق الشخصية.
المضمون: مضمون الحق هو السلطة التي يخولها هذا الحق لصاحبه وهذه السلطة تختلف من حق إلى آخر إلا أننا نستطيع أن نجملها في الحقوق العينية الأصلية بأنها سلطة استعمال الشيء واستغلاله والتصرف به.
السبب: سبب الحق أو مصدره هو الواقعة القانونية التي تولد عنها هذا الحق وأدت إلى نشوئه.
فسبب حق الوارث في تملك الإرث مثلاً هو وفاة المورث الذي تربطه به قرابة معينة يحددها القانون.
المؤيد أو الجزاء: هو الحماية التي يسبغها القانون على الحقوق لتمكين أصحابها من التمتع بها وممارستها ومنع الغير من الاعتداء عليها.
الباب الأول
الأشخاص
الأشخاص هم أطراف الحق، سواء أكانوا يمثلون الطرف الموجب فيه أم الطرف السالب. فكل من يصلح لأن يكون صاحب حق أو مكلفاً بالتزام يعتبر شخص من الوجهة القانونية.
والشخص على نوعين: طبيعي واعتباري
أما الشخص الطبيعي فهو الإنسان نفسه، وأما الشخص الاعتباري أو المعنوي فهو ينشأ عن تكتل مجموعة من الأشخاص أو رصد مجموعة من الأموال لغرض معين وضمن شروط معينة، فتكون لهذه المجموعة من الأشخاص أو الأموال شخصية مستقلة عن الأشخاص الذين يؤلفونها أو يديرونها وهي تدخل بهذه الصفة – بصفتها شخصية مستقلة –كطرف موجب أو سالب من أطراف الحق.
ودراستنا في هذا الباب تتناول هذين النوعين من الأشخاص معاً، وهي بالتالي تقسم إلى فصلين
الفصل الأول: الشخص الطبيعي
الفصل الثاني:الشخص الاعتباري أو المعنوي
الفصل الأول
الشخص الطبيعي
إذا كان الشخص الطبيعي هو الإنسان أو الكائن البشري، فإن دراسة الشخص الطبيعي إنما هي في الواقع دراسة لهذا الإنسان نفسه في حياته، وفي الخصائص التي تتصل بشخصيته وتحدد معالمها1.
و خصائص الشخصية تشمل الاسم الذي يعرف الإنسان به ويؤدي إلى تمييزه عن غيره، وحالة الشخص التي تبين مركزه في أسرته من حيث القرابة ومركزه في الدولة التي ينتسب إليها من حيث الجنسية، والأهلية التي تبين قابليته لاكتساب الحقوق والالتزام بالواجبات كما تحدد قدرته على ممارسة التصرفات القانونية بنفسه، والذمة المالية التي تمثل ثروته $ومقدرته المالية وتضم جميع حقوقه والتزاماته التي يمكن تقويمها بالمال، والموطن الذي $يرتبط به عادة ويتحدد بواسطته مكان وجوده من الوجهة القانونية.
وعلى هذا فإن دراسة الشخص الطبيعي تشمل الفروع التالية:
الفرع الأول: وجود الشخص الطبيعي
الفرع الثاني: الاسم
الفرع الثالث: حالة الشخص
الفرع الرابع: الأهلية.
الفرع الخامس: الذمة المالية
الفرع السادس: الموطن
الفرع الأول
وجود الشخص الطبيعي:
ارتباط الشخصية بالصفة الإنسانية:
الإنسان لمجرد كونه إنساناً, يعتبر شخصاً طبيعياً من الوجهة القانونية ويكون بذلك صالحاً لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات والشخصية الطبيعية لا تكون إلا للإنسان وحده.
وعلى هذا فالحيوان والجماد لا يتمتعان بالشخصية القانونية لا الطبيعية ولا الاعتبارية.
ولكن الإنسان لا يتمتع بالشخصية القانونية إلا خلال فترة حياته ووجوده ووجود الإنسان إنما يتحدد بواقعتين هامتين هما: الولادة من جهة, والوفاة من جهة ثانية.
بدء الشخصية1:
الولادة:
إن شخصية الإنسان تبدأ من الوجهة القانونية بالولادة أي من نفس اللحظة التي ينفصل فيها عن أمه ويصبح ذا وجود مستقل.
إلا أن مجرد الولادة لا يكفي, بل لا بد من أن يولد الإنسان حياً ولو كان سيموت بعض لحظات.
أما إذا ولد ميتاً فإنه لا يكتسب في هذه الحالة الشخصية القانونية.
ولكن متى يعتبر الإنسان قد ولد حياً؟
لقد ورد في قانوننا المدني وفي المادة 31 منه أن شخصية الإنسان تبدأ (بتمام ولادته حياً).
وتتأكد الحياة في المولود بالأعراض التي تدل عليها كالبكاء والشهيق ونحو ذلك وإذا لم تثبت هذه الأعراض فإنه من الممكن الرجوع إلى الخبرة الطبية في هذا الشأن.
بينما تشترط بعض القوانين كالقانون الفرنسي شرطين لاكتساب المولود الشخصية القانونية وهما:
1 ـ أن يولد حياً من جهة.
2 ـ وأن يكون قابلاً للحياة من جهة ثانية.
فإذا ولد حياً وكانت وفاته محتومة لنقص في أعضائه وتكوينه فلا يكتسب بذلك الشخصية القانونية.
حالة الجنين:
الجنين يعتبر جزءاً متصلاً بأمه ولا يتمتع بشخصية مستقلة ولهذا لا يكون أهلاً من حيث المبدأ لاكتساب الحقوق أو تحمل الالتزامات إلا أن الجنين سينفصل عن أمه ذات يوم ليصبح شخصاً مستقلاً من الوجهة القانونية.
ولذلك وبحسب الشريعة الإسلامية وقانون الأحوال الشخصية يعترف للجنين بأربعة حقوق $إحداها عائلي وهو النسب, والثلاثة الأخرى مالية وهي: الإرث والوصية والوقف.
فللجنين الحق في أن يُنسب إلى أبيه كما أن له الحق في الإرث الذي يؤول إليه والوصية التي يوصى له بها والوقف الذي يوقف عليه.
ويفترض الجنين ذكراً حين تكون له مصلحة في ذلك, ففي الإرث الشرعي مثلاً حيث للذكر مثل حظ الأنثيين يحتفظ له بنصيب الذكر, فإذا ظهر ذكراً بعد الولادة أعطي النصيب الذي حفظ له, وإذا ظهر أنثى أعيد توزيع التركة على هذا الأساس ووزع الفرق على مستحقيه.
أما إذا مات الجنين قبل الولادة ولم يكتسب الشخصية القانونية اعتبر كأنه لم يكن موجوداً ولم يكون له أي حق في ملكية تلك الأموال.
وهنالك فائدة من معرفة إذا كان المولود قد اكتسب الشخصية أم لا.
فلو ولد الإنسان حياً واكتسب الشخصية بحسب قانوننا المدني ثم مات بعد لحظات, فإن الأموال التي حفظت له في مرحلة الحمل تكون قد آلت إليه وأصبحت ملكاً له بصورة نهائية وهي توزع بالتالي على ورثته.
أما إذا لم يكتسب المولود الشخصية, فإنه لا يكتسب شيئاً من أمواله:
انتهاء الشخصية:
الوفاة:
تنتهي الشخصية عادة بالوفاة التي تضع حداً لحياة الإنسان ووجوده, وقد عرفنا في بعض الأنظمة السابقة أسباباً أخرى لزوال الشخصية غير الوفاة كالرق مثلاً, أو عقوبة الموت المدني, إلا أن هذه الأسباب لم تعد قائمة في عصرنا الحاضر, وكما أن من الضروري تحديد زمن الولادة لمعرفة تاريخ بدء الشخصية للإنسان فكذلك من الضروري تحديد زمن الوفاة لمعرفة تاريخ زوال شخصيته وليمكن بالتالي حصر ورثته الذين سيخلفونه في تركته وأمواله1.
$لكن في بعض الحالات يموت عدد من الأشخاص معاً دون -تحديد زمن وفاة كل منهم كما في حالات الكوارث الطبيعية فاعتبرت الشريعة الإسلامية أنه إذا تعذر تحديد من مات أولاً ومعرفة ترتيب الوفاة بينهم فيجعلون كأنهم ماتوا جميعاً في وقت واحد ولا يرث أحد منهم الآخر.
حالة المفقود:
تعريف المفقود:
المفقود هو الشخص الذي غاب وانقطعت أخباره ولا يعرف أحياً هو أم ميتاً.
والمفقود يختلف بهذا المعنى عن الغائب ذلك أن الغائب هو الشخص الذي غاب عن موطنه ولكن حياته محققة ولا يقوم الشك حولها1.
فكل مفقود يعتبر غائباً ولكن لا يعتبر كل غائب مفقوداً إلا إذا انقطعت أخباره وقام الشك حول حياته أو موته.
وقد نصت المادة 202 من قانون الأحوال الشخصية على أن الإنسان يعتبر مفقوداً في حالتين:
1 ـ إذا كان لا تعرف حياته أو مماته.
2 ـ إذا كانت حياته محققة ولكن لا يعرف له مكان.
وبينما نصت المادة 203 من القانون المذكور على أن الغائب هو الشخص (الذي منعته ظروف قاهرة من الرجوع إلى مقامه أو إدارة شؤونه بنفسه أو إقامة وكيل عنه مدة أكثر من سنة وتعطلت بذلك مصالحه أو مصالح غيره).
أحكام المفقود:
يظل مصير المفقود مجهولاً والشك قائماً حول حياته أو مماته إلى أن يعود هذا المفقود إلى الظهور ثانية أو يثبت موته بدليل قاطع.
وعلى هذا فإن النظم والتشريعات القانونية تحدد سناً معينة للمفقود, فإذا لم يعد قبلها يسمح باعتباره ميتاً ولو لم يقم الدليل على موته, وتختلف هذه السن باختلاف التشريعات والنظم وبحسب قانون الأحوال الشخصية لدينا هذه السن هي سن الثمانين.
ولا بد لنا للتعمق في هذا الموضوع من دراسة أحكام المفقود.
أولاً: حالة الشك حول حياة المفقود أو مماته:
تمتد هذه الحالة منذ غياب المفقود وانقطاع أخباره إلى أن يظهر ثانية للوجود أو يثبت موته أو يحكم باعتباره في عداد الأموات.
$الأحكام التي تنظم الوضع القانوني للمفقود في هذه الحالة:
أ ـ إن الآثار والنتائج القانونية التي تترتب على انتهاء حياة الإنسان وزوال شخصيته ـ كانحلال زواجه مثلاً أو تصفية تركته وتوريث أمواله ـ لا يقع منها شيء بالنسبة للمفقود باعتبار أن وفاته لم تتحقق بعد.
وهذا الحكم بالرغم من انسجامه مع المنطق القانوني يبدو على جانب من القسوة وخاصة بالنسبة لزوجة المفقود التي قد لا يعود زوجها إلى الظهور أبداً فتضطر إلى انتظار بلوغه سن الثمانين وتتمكن من الزواج بغيره.
ولكن قانون الأحوال الشخصية قد راعى هذا الأمر فأجاز للزوجة التي غاب عنها زوجها بدون عذر مقبول أن تطلب إلى القاضي بعد سنة من غياب الزوج الحكم بالتفريق بينها وبينه, ولو كان له مال تستطيع الإنفاق منه.
ويحق للزوجة طلب التفريق لعلة الغياب فقط, أما إذا طلبت التفريق لسبب آخر اعتبر الزواج مستمراً حتى عودة المفقود أو الحكم بوفاته.
ب. وأما بالنسبة للآثار والنتائج القانونية التي يشترط لحدوثها وجود الشخص الذي تترتب لمصلحته على قيد الحياة ـ كحقه في الإرث من غيره أو الوصية ـ فإنها تترتب بالنسبة للمفقود ولكن معلقة على شرط التحقق من حياته, فالمفقود لا يحرم من الحقوق التي تؤول إليه خلال هذه الفترة لعدم ثبوت موته, كما أنه لا يكتسبها بصورة نهائية لأن حياته غير محققة, بل تحفظ له هذه الحقوق بصورة مؤقتة.
وتدار أموال المفقود وشؤونه خلال فترة غيابه إذا كان قد عين وكيلاً عنه وفي حال عدم تعيينه وكيلاً تعين له المحكمة وكيلاً يدعى بالوكيل القضائي.
ثانياً: حالة الحكم بوفاة المفقود:
إذا عاد الشخص إلى الظهور حياً بعد فقده فإن حالة الفقدان تنتهي بالنسبة إليه ويزول الشك الذي كان قائماً حول مصيره ويعود بالتالي إلى استلام أمواله وممارسة حقوقه.
وكذلك تنتهي حالة الفقدان فيما إذا ثبتت وفاة المفقود بالدليل القاطع إذ يتحدد مصيره بتاريخ حدوثها وتصفى حقوقه وعلاقاته وأمواله تبعاً لذلك, فأمواله التي اكتسبها قبل فقده توزع على من كان يستحقها وقت وفاته وإن الأموال التي آلت إليه بعد فقده تصبح ملكيتها له وتدخل في تركته مع أمواله المكتسبة, وأما الأموال التي آلت إليه بعد وفاته فإنها لا تعتبر ملكه وترد لمن يستحقها حين آلت إليه
والحكم بالوفاة يؤدي إلى زوال شخصية المفقود وتصفية علاقاته وحقوقه فينقضي زواجه وتوزع تركته وأمواله على ورثته.
وحين صدور الحكم بالوفاة, هل تعتبر الوفاة واقعة بتاريخ هذا الحكم أم بتاريخ غياب المفقود وانقطاع أخباره؟
إذا اعتبرنا الوفاة واقعة بتاريخ الفقدان فإن تركة المفقود يجب أن توزع في هذه الحالة على من كان يستحقها بذلك التاريخ, كما أن الأموال التي آلت إليه من غيره وأوقفت على ذمته خلال فقده لا تدخل في التركة وإنما ترد إلى من كان يستحقها حين آلت إلى المفقود, أما إذا اعتبرنا أن تاريخ الحكم هو تاريخ الوفاة فإن تركة المفقود توزع على ورثته الموجودين بتاريخ الحكم, كما أن الأموال التي أوقفت على ذمته خلال فقده تعتبر ملكاً خالصاً له وتدخل بالتالي في تركته.
ولقد اختار المسلمون حلاً وسطاً بين هاتين الحالتين:
فقرروا أن الحكم بالوفاة يؤدي إلى اعتبار المفقود ميتاً منذ تاريخ فقده بالنسبة لبعض الأمور, ومنذ تاريخ الحكم بالنسبة لأمور أخرى, ففيما ينفعه ويضر غيره كاستحقاقه الإرث أو الوصية مثلاً يعتبر المفقود ميتاً منذ تاريخ الفقد, أما فيما يضره وينفع غيره, كاستحقاق غيره الإرث منه, فيعتبر ميتاً بتاريخ الحكم.
$وبالنسبة للأموال التي آلت إلى المفقود بعد فقده والتي أوقفت على ذمته ريثما تتحقق حياته, لا يكتسب المفقود منها شيئاً لأنه يعتبر ميتاً حين آلت إليه ولا تدخل هذه الأموال بالتالي في تركته بل ترد إلى من كان يستحقها لو تأكدت من الأصل وفاة المفقود.
أما الأموال التي كان المفقود قد اكتسبها قبل فقده, فإنها توزع على من يستحق الإرث منه بتاريخ الحكم لا بتاريخ الفقد, لأن المفقود يعتبر حياً بالنسبة إليها خلال فقده ولا يعتبر ميتاً إلا بتاريخ الحكم.
$ثالثاً: حالة عودة المفقود إلى الظهور أحياناً بعد الحكم بوفاته:
إذا عاد المفقود إلى الظهور ثانية بعد فقده والحكم بوفاته, فينهار الافتراض الذي بني عليه الحكم وتتأكد حياة المفقود من جديد.
وفي هذه الحالة تعاد إلى المفقود حقوقه وأمواله, كما لو ظهر حياً قبل الحكم بالوفاة
ونختلف هنا بين حالتين:
$إن المفقود الذي يعود إلى الظهور قبل الحكم بوفاته لا تكون حقوقه قد صفيت بعد, ولا تكون أمواله قد وزعت على غيره, بل تبقى هذه الحقوق والأموال محفوظة له انتظاراً للبت في مصيره, فيستعيدها كاملة دون نقصان.
أما المفقود الذي يظهر بعد الحكم بوفاته, فإنه يجد أن حقوقه وأمواله قد تمت تصفيتها ووزعت على من يستحقها نتيجة لصدور الحكم بالوفاة, وربما تصرف الذين آلت إليهم أموال المفقود بهذه الأموال كلها أو بعضها, أو ربما هلكت لديهم أو استهلكت من قبلهم فلا يستطيع المفقود استعادتها كاملة بل يكون له الحق فقط في استرداد ما بقي منها في يد من آلت إليهم.
إثبات الشخصية:
إن إثبات وجود الشخصية أو انتهائها أمر بالغ الأهمية, لما يترتب على ذلك من نتائج وآثار من الوجهة القانونية1.
واثبات وجود الشخصية القانونية للإنسان يكون بإثبات واقعة الولادة, كما أن إثبات انتهاء شخصيته يتم بإثبات واقعة الوفاة.
ولقد كان الإثبات يقوم منذ القديم على أحكام الشريعة الإسلامية التي تكتفي بالشهادة وحدها.
$أما في العهد العثماني فلقد انتشرت موجة من التنظيمات الإدارية التي تناولت قضايا الأحوال المدنية.
ثم صدرت تشريعات متعاقبة تتضمن إنشاء سجلات للأحوال المدنية وتبين كيفية تنظيمها وأصول الإثبات بواسطتها ونصت هذه التشريعات على ضرورة التبليغ عن الولادة والوفاة وتسجيلهما وبالنسبة للوفاة لا يسمح بدفن المتوفى إلا بعد استكمال إجراءات التبليغ القانونية والحصول على إذن بالدفن.
وتظل سجلات الأحوال المدنية معتبرة إلى أن يثبت عكسها أو بطلانها أو تزويرها بحكم قضائي.
وقد تبنى قانوننا المدني هذه الطريقة في المادة 32 منه ولكن نظراً لكثرة عدد المكتومين في $بلادنا وعدم دقة هذه السجلات فقد أجاز في الفقرة الثانية من المادة المذكورة, الإثبات بأي طريقة أخرى, إذا تعذر الحصول على دليل من سجلات الأحوال المدنية أو تبين عدم صحة ما أدرج فيها.
الفرع الثاني
الاسم
لكل شخص اسم يعرف به ويتميز بواسطته عن غيره ويتألف اسم الشخص عادة من اسمه العائلي أو لقبه ومن اسمه الشخصي أو الصغير ويمكن أن يضيف الشخص لهذين الاسمين اسماً مستعاراً له.
الاسم العائلي أو اللقب:
تعريفه وفائدته:
الاسم العائلي أو اللقب هو اسم العائلة التي ينتسب إليها الشخص وينحدر منها وهو اسم مشترك يحمله جميع أفراد العائلة الواحدة.
ولم يكن الاسم العائلي أو اللقب منتشراً بين العرب في عصورهم الماضية, بل كان الشخص يعرف باسمه واسم أبيه وربما أضيف إلى ذلك اسم القبيلة أحياناً.
وإن أول من اهتم بالاسم العائلي وعمد إلى استعماله هم الرومان.
واستعمال الاسم العائلي أو اللقب يساعد على تمييز الأشخاص بعضهم عن بعض تمييزاً يتصف بالكثير من الدقة والوضوح, وهذا ما دعا قانوننا المدني إلى الأخذ بالاسم العائلي أو اللقب وفرض استعماله بالإضافة للاسم الشخصي.
اكتسابه:
نصت المادة 40 من القانون المدني على أنه: " يكون لكل شخص اسم ولقب, ولقب الشخص يلحق أولاده ".
والأولاد الذين تعنيهم المادة المذكورة هم الأولاد الشرعيون فقط, أما الأولاد الطبيعيون أو غير الشرعيون فلا يعترف لهم بأية حقوق تجاه آبائهم الذين ولدوا منهم وليس لهم بالتالي اكتساب ألقابهم.
والابن الشرعي يكتسب حكماً لقب أبيه بمجرد ولادته, وهذا اللقب ليس منحة يمنحها الأب لابنه بحيث يستطيع إذا شاء أن يحجبها عنه لان اللقب حق مباشر للابن, وأما اللقيط الذي لا يعرف أبواه فيمنح لقباً منتحلاً يطلقه عليه أمين السجل المدني إلى أن تثبت بنوته الشرعية, سواء بإقرار الأب أو بحكم قضائي.
وبينما النظام الفرنسي لا يشترط البنوة الشرعية لاكتساب اللقب بل يعتمد إلى جانبها البنوة الطبيعية, فالبنوة الطبيعية تنشأ عنها بعض الآثار القانونية لمصلحة الابن غير الشرعي الذي لم يقترف ذنباً يؤاخذ عليه, ومن هذه الآثار حقه في اكتساب لقب من تثبت بنوته إليه أولاً من أبويه.
ويأخذ النظام الفرنسي بطريقتين إضافيتين في اكتساب اللقب لا مجال للأخذ بهما في نظامنا القانوني وهما: التبني من جهة والزواج من جهة ثانية.
ففي التبني يكتسب المتبنى لقب الشخص الذي تبناه إضافة إلى لقبه الأصلي أحياناً أو بدلاً عنه, أما في بلادنا فإن التبني لا ينتج أي أثر من الوجهة القانونية بل يحتفظ هذا المتبنى بلقبه الأصلي وحده.
وأما في الزواج فقد جرت العادة في فرنسا على أن تحمل الزوجة لقب زوجها إضافة إلى لقبها الأصلي وهي عادة تأيدت بالقانون المدني الفرنسي الذي ضمن للزوجة استعمال هذا اللقب إضافة للقبها الأصلي.
وقد كان مشروع القانون المدني المصري أن يأخذ هذا الأمر إلا أن هذا النص قد حذف من القانون حين مناقشته من قبل المجالس التشريعية المختصة, باعتبار أن العرف في بلادنا لم يستقر على إلحاق لقب الزوج بزوجته بصورة إلزامية.
ومع ذلك قد نجد بعض النساء يستعملن ألقاب أزواجهن بالإضافة إلى ألقابهن الأصلية.
طبيعته القانونية:
اختلف الفقهاء في تحديد طبيعة الاسم العائلي أو اللقب ونوع حق الشخص فيه1.
النظرية الأولى:
تستمد هذه النظرية جذورها من اجتهادات القضاء الفرنسي العادي التي تميل إلى اعتبار وجود حق للشخص على لقبه وهو حق الملكية.
وينتج عن هذا أن الشخص يستطيع أن يطالب بمنع الغير من الاعتداء على لقبه وانتحاله لنفسه دون أن يكون مضطراً لإثبات الضرر الذي يلحق به من جراء ذلك أو المصلحة التي تعود عليه من دعواه, لأن مجرد الاعتداء على لقبه هو اعتداء على حق الملكية العائد إليه بحيث يجب منعه وإزالته.
وقد انتقدت هذه النظرية من عدة وجوه:
فمن حيث المفهوم: نجد أن ملكية الأشياء تثبت للشخص إما على وجه الاستقلال أو على وجه الشيوع, أما بالنسبة للقب فلا يمكن أن يعتبر حق الشخص فيه من قبيل الملكية المستقلة, لأن هذا الشخص لا يملكه وحده وإنما يشاركه فيه جميع أفراد عائلته الذين يحملون نفس اللقب ويتمتعون به بل وجميع أفراد العائلات الأخرى التي تتشابه ألقابها مع لقب عائلته.
ولا يمكن اعتبار الحق في اللقب من الملكية الشائعة, لأن الملكية الشائعة يكون عدد المالكين فيها محصوراً ويتمتع كل منهم بنصيب من الشيء المملوك يتناسب مع حصته منه, بالإضافة إلى أن كل واحد ممن يحملون هذا اللقب يتمتع به كاملاً لا بنسبة حصته منه بينما لا سبيل إلى حصر الذين يحق له اكتساب اللقب والتمتع به.
أما من حيث الاكتساب: لا يمكن اعتبار اكتساب اللقب أول مرة نوعاً من التملك بالاستيلاء أو الحيازة, لأن اللقب إنما يستمد ويكوّن من حروف اللغة ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه سبق غيره إلى الاستيلاء على هذه الحروف التي يتكون منها لقبه أو إلى حيازتها كما أن انتقال اللقب العائلي إلى الأبناء لا يمكن أن يعتبر نوعاً من الإرث الذي تنتقل به الملكية لأن الإرث $لا يقع إلا بعد وفاة المورث بينما يكتسب الأبناء لقب أبيهم بمجرد ولادتهم.
وأما من حيث الخصائص: هناك اختلاف بين خصائص الحق في اللقب وخصائص حق الملكية ويبرز هذا الاختلاف في قابلية التعامل أو عدمها بالنسبة لكل منهما فمن أهم خصائص اللقب أنه غير قابل للتعامل لانتفاء الصفة المالية عنه بينما يعتبر حق الملكية في طليعة الحقوق المالية.
النظرية الثانية:
وقد نادى بها خصوم نظرية الملكية وهي ترى أن اللقب أو الاسم بصورة عامة العائلي والشخصي ليس ملكاً لصاحبه ولاحقاً من حقوقه وإنما هو عبارة عن طريقة إدارية تأخذ بها الدولة لتسهيل تمييز الناس بعضهم عن بعض وتعريف كل منهم أو هو بمثابة مؤسسة أمن تساعد على حسن سير المجتمع بإقامة تنظيم إداري فيه يتيح تمييز كل فرد من أفراده تمييزاً واضحاً.
واللقب في هذه النظرية أشبه ما يكون بلوحة إدارية أو رقم مميز يعطى للشخص دون أن يكون لهذا الشخص عليه من حقوق أكثر مما يكون للجندي على رقمه العسكري, أي لا يكون للشخص أي حق على لقبه أياً كان نوع هذا الحق.
ولا يستطيع بالتالي أن يطالب بمنع الغير من الاعتداء عليه وانتحاله لنفسه إلا إذا أثبت وجود الضرر الذي يلحق به من جراء ذلك وفقاً لقواعد المسؤولية التقصيرية.
وقد انتقدت هذه النظرية بسبب مغالاتها في تجريد الشخص من كل رابطة قانونية تربطه بلقبه, فالشخص لا ينظر إلى لقبه على أنه مجرد رقم يحمله ليميزه وإنما هو جزء من كيانه الشخصي وأن له مصلحة بالتمسك به والدفاع عنه.
النظرية الثالثة:
$دفعت الانتقادات التي وجهت إلى النظريتين السابقتين الفقهاء للبحث عن نظرية جديدة تتمثل باعترافهم بوجود حق للشخص على لقبه غير أنهم لا يرون الأخذ بما ذهبت إليه النظرية الأولى من اعتبار هذا الحق من قبيل حق الملكية.
والرأي الراجح بين الفقهاء حالياً هو اعتبار حق الشخص في لقبه من الحقوق الملازمة لشخصيته الإنسانية التي تدعى بحقوق الشخصية وهناك رأي آخر يميل إلى اعتبار الحق في اللقب من الحقوق التي تتصل بحالة الشخص المدنية في زمرة حقوقه العائلية ومما لا شك فيه أن اللقب ذو طبيعة مزدوجة.
فهو واجب من جهة لأن الشخص ملزم بحمله ولا يستطيع التخلي عنه ما لم يعمد إلى تصحيحه أو تغييره وفقاً للأصول القانونية وإذا كان هذا الشخص يستطيع أن يتخذ لنفسه اسماً مستعاراً يشتهر به بين الناس فإن ذلك لا يعفيه من استعمال لقبه الحقيقي في علاقاته الرسمية.
وهو حق من جهة ثانية, لأن للشخص مصلحة مشروعة في حمله واستعماله والتمتع بكافة السلطات التي يخوله إياها ولأن القانون يعترف له بهذه المصلحة ويحميها من كل اعتداء.
حماية اللقب:
لقد قررت المادة 52 من القانون المدني المبدأ العام المتضمن حماية الحقوق الملازمة لشخصية الإنسان من كل اعتداء إذ نصت على أن: " لكل من وقع عليه اعتداء غير مشروع في حق من الحقوق الملازمة لشخصيته أن يطلب وقف هذا الاعتداء مع التعويض عما يكون قد لحقه من ضرر ".
ثم جاءت المادة 53 من القانون نفسه بتطبيق خاص لهذا المبدأ فيما يتعلق بالاسم واللقب فنصت على أن: " لكل من نازعه الغير في استعمال اسمه أو لقبه أو كليهما بلا مبرر,, من انتحل الغير اسمه أو لقبه أو كليهما دون حق, أن يطلب وقف هذا الاعتداء مع التعويض عما يكون قد لحقه من ضرر ".
وقد نصت المادة 53 من القانون المدني على صورتين مختلفتين للاعتداء على اللقب وهما:
$المنازعة في اللقب: أي اعتراض الغير بلا مبرر على حمل اللقب من قبل صاحبه.
$الانتحال: أي حمل الغير لهذا اللقب دون حق.
وفي هاتين الحالتين معاً لا حاجة لإثبات وقوع الضرر وإنما يكتفى بثبوت حق صاحب اللقب $في لقبه, لتسمع دعواه ويحكم بوقف الاعتداء الواقع عليه. وبالإضافة إلى طلب وقف الاعتداء يستطيع صاحب اللقب أيضاً أن يطالب بالتعويض عما أصابه من ضرر من جراء هذا الاعتداء ولا بد له في هذه الحالة من إثبات الضرر الذي أصابه ليمكن الحكم له بالتعويض, فإثبات الضرر شرط لطلب التعويض.
خصائصه1:
عدم قابلية اللقب للتعامل:
وتقتضي منع صاحبه من التنازل عنه للغير أو التصرف فيه, سواء أكان هذا التصرف بعوض كالبيع مثلاً أو بدون عوض كالهبة أو الوصية على أن الشخص قد يستعمل لقبه أحياناً بمثابة اسم تجاري له يطلقه على محله.
عدم خضوع اللقب للتقادم: ومن مقتضاه عدم سقوط حق صاحبه فيه مهما مر من زمن على توقفه عن حمله واستعماله كما أن من مقتضاه أيضاً عدم إمكان اكتسابه بمجرد حمله فترة معينة من الزمن ممن لا حق له أصلاً فيه.
أما الاسم التجاري الذي يتخذ عنواناً للمتجر ويؤلف عنصراً من عناصره المالية فهو يخضع للتقادم بصفته حقاً مالياً.
$عدم قابلية اللقب للتغيير: وهذا نتيجة لما يتخلل طبيعته من مفهوم الواجب بالإضافة إلى مفهوم الحق على أن ذلك لا يعني استحالة تغيير اللقب إطلاقاً وإنما يقصد به فقط أن الشخص لا يستطيع أن يغير لقبه على مشيئته وهواه بل هو يخضع في ذلك لبعض القيود والشروط.
تصحيحه وتفسيره: هناك فارق بين تصحيح اللقب وتغييره, فالتصحيح يكون في حالة وجود خطأ في سجل الأحوال المدنية يتعلق باللقب.
أما التغيير فيكون في حالة رغبة الشخص في الاستعاضة عن لقبه الأصلي.
وأما التصحيح فيجري بحسب الأحوال المدنية بحكم قضائي تصدره محكمة الصلح المختصة بعد أن تتثبت من خطأ القيد.
وأما التغيير فقد نصت المادة 41 من قانوننا المدني على أنه: " ينظم بتشريع خاص كيفية اكتساب الألقاب وتغييرها ". إلا أن هذا التشريع لم يصدر بعد في بلادنا.
الاسم الشخصي أو الصغير:
الاسم العائلي أو اللقب لا يكفي لتمييز الشخص تمييزاً صحيحاً بل لا بد من أن يحمل الشخص بالإضافة إليه اسماً خاصاً به يميزه عن سواه ممن يحملون نفس لقبه من أفراد عائلته وهو ما يسمى بالاسم الشخصي أو الصغير.
الاسم المستعار:
يتخذ بعض الأشخاص أحياناً أسماء مستعارة يطلقونها على أنفسهم ويستعملونها في مجالات نشاطهم وعملهم فيشتهرون بين الناس بهذه الأسماء التي قد تطغى في كثير من الأحيان على أسمائهم الحقيقية حتى لا يكادون يعرفون إلا بها والاسم المستعار ليس له أية صفة رسمية وهو لا يمكن أن يحل في علاقات صاحبه مع الدولة ودوائرها محل اسمه الحقيقي على أن الشخص قد يستعمل هذا الاسم في علاقاته مع الأشخاص الآخرين, ومثل هذا الاستعمال جائز طالما أنه لا يهدف إلى التضليل والاحتيال, كما أن الصكوك التي يوقعها صاحبه باسمه المستعار تعتبر صحيحة ومنتجة لجميع آثارها القانونية بالنسبة إليه كالصكوك التي يوقعها باسمه الأصلي1.
ويعتبر الاسم المستعار خاصاً بصاحبه فلا يلحق أولاده كاللقب.
الفرع الثالث
حالة الشخص
$يوجد الشخص في المجتمع مرتبطا بأسرته من جهة وبالدولة التي ينتمي إليها من جهة ثانية، $وصلات الشخص بأسرته عن طريق القرابة التي تربطه بأفرادها هي التي تحدد بما يسمى $بالحالة المدنية لهذا الشخص كما أن صلاته بالدولة التي ينتمي إليها ويحمل جنسيتها هي التي تحدد ما يدعى بالحالة السياسية للشخص.
الأسرة والقرابة:
أنواع القرابة: إن رابطة القرابة بين الأشخاص إما أن تكون رابطة الزوجية أو النسب أو المصاهرة1.
$1- رابطة الزوجية: هي التي تجمع بين الزوجين وتعين مركز كل منهما بالنسبة للآخر وتحدد حقوقهما وواجبا تهما المتبادلة.
2- رابطة النسب: وهي الرابطة التي تنشأ بين كل من يجمعهم أصل مشترك سواء أكانت صلتهم عبارة عن قرابة مباشرة أو غير مباشرة (قرابة حواشي).
فالقرابة المباشرة: بحسب المادة /37/ من القانون المدني السوري هي ((الصلة ما بين الأصول والفروع)) أي هي قرابة الآباء والأمهات والأجداد والجدات مهما علوا بالأبناء والبنات والأحفاد والحفيدات مهما نزلوا لأنهم ينحدرون بعضهم عن بعض بخط مستقيم فقرابة $الشخص بجده هي قرابة مباشرة لاجتماعهما بعمود نسب واحد يربط الشخص وأبيه وجده.
$أما القرابة غير المباشرة: فهي بحسب المادة المذكورة (( الرابطة بين أشخاص يجمعهم أصل مشترك دون أن يكون أحدهم فرعاً للآخر))
كالقرابة بين الأخوة والأخوات أو بين كل منهم وذرية الآخر وبين ذرية كل منهم وذرية الآخر ذكوراً كانوا أم إناثاً.
وتدعى هذه القرابة قرابة غير مباشرة لأن الأقارب لا ينحدرون بعضهم عن بعض على خط مستقيم وإنما يوزعون على عمودين مستقلين للنسب يلتقيان معاً عند الأصل المشترك كقرابة ابن الأخ بعمته مثلاُ.
وقرابة النسب سواء أكانت مباشرة أو غير مباشرة إنما تكون على نوعين هما:
القرابة العصبية أو قرابة العصبات: وهي التي تكون عن طريق الأب كقرابة الشخص لجده لأبيه أو لعمه.
القرابة الرحمية: فهي التي تكون عن طريق الأم كقرابة الشخص لجده لأمه أو لخاله.
رابطة المصاهرة: هي الرابطة التي تنشأ بين كل من الزوجين وأقارب الزوج الآخر وحسب القانون المدني يعتبر أقارب أحد الزوجين (( في نفس القرابة والدرجة بالنسبة للزوج الأخر))
درجات القرابة:
نصت المادة /38/ من القانون المدني على انه (( يراعى في حساب درجة القرابة المباشرة اعتبار كل فرع درجة عند الصعود للأصل بخروج هذا الأصل وعند حساب درجة الحواشي $تعد الحواشي صعوداً من الفرع إلى الأصل المشترك ثم نزولا منه إلى الفرع الأخر، وكل فرع فيما عدا الأصل المشترك، يعتبر درجة))
لمعرفة درجة القرابة المباشرة التي تربط بين شخصين ينحدر أحداهما من الآخر يصعد من الفرع إلى الأصل ويعطى كل فرع درجة عند الصعود ولا يعطى الأصل أية درجة فالقرابة التي تربط الابن بابيه هي قرابة مباشرة من الدرجة الأولى1.
لدينا المثال التالي للتوضيح:
ما هي درجة قرابة الحفيد بجده؟
هي قرابة مباشرة ومن الدرجة الثانية
أما تحديد درجة القرابة غير المباشرة أو (قرابة الحواشي):
فتكون بالصعود من أحد الشخصين إلى الأصل المشترك ثم النزول من الأصل المشترك إلى الشخص الآخر مع إعطاء كل فرع صعوداً أو نزولاً درجة واحدة دون إعطاء الأصل المشترك أية درجة فقرابة الأخ بأخيه هي قرابة غير مباشرة من الدرجة الثانية.
مثال:
ما هي درجة القرابة التي تربط بين الشخص وبين أبن خالته؟
هي قرابة غير مباشرة من الدرجة الرابعة.
أما درجة قرابة المصاهرة التي تكون بين أحد الزوجين وأفراد أسرة الزوج الآخر فهي بحسب م /39/: نفس الدرجة التي تكون عليها قرابة الزوج الآخر بأفراد أسرته فإذا كانت قرابة الزوج بأبيه مثلاً هي قرابة مباشرة من الدرجة الأولى فان قرابة الزوج بوالد زوجته هي قرابة مصاهرة من الدرجة الأولى أيضاً.
مثال:
ما هي درجة قرابة زوجة الشخص بابن عم زوجها ؟
قرابة مصاهرة من الدرجة الرابعة
مثال:
إن قرابة الزوجة بابن خالة زوجها قرابة مصاهرة من الدرجة الرابعة
آثار القرابة:
من الآثار التي تنشأ عن رابطة الزوجية: حق الزوج في طاعة زوجته له وحق الزوجة في $نفقة زوجها عليها، وحق كل منهما في أن يرث الأخر وعدم جواز شهادة أحد الزوجين للآخر.
من الآثار التي تترتب على رابطة النسب:
1- حق الابن في حمل لقب أبيه واسمه العائلي وحق الولاية للأب أو الجد على الابن أو الحفيد وأفضلية الأقرباء في الوصاية على من كان قاصراً.
2- تحريم الزواج بين الأصول والفروع أياً كانت درجة قرابتهم.
3- تحريم الزواج بين الإخوة والأخوات وبين كل منهم وذرية الآخر وحق الأقرباء في الإرث من بعضهم.
4- منع القاضي من النظر في الدعاوى التي يكون له مع احد الخصوم فيها قرابة حتى الدرجة الرابعة وعدم جواز شهادة الأصول للفروع أو الفروع للأصول في القضايا المدنية.
وأما الآثار المترتبة على رابطة المصاهرة: فهي محدودة جداً وأهمها تحريم زواج الزوجة $بابن زوجها أو زواج الزوج بأم زوجته وأما الحق في الإرث ونحو ذلك من الآثار الهامة التي تتصل بالقرابة فلا يترتب شيء منها على قرابة المصاهرة.
الجنسية:
تحديد الجنسية واكتسابها:
تعرف الجنسية بأنها(( الرابطة التي تقوم بين الشخص ودولة معينة وتجعله تابعاً لها)).
ولابد لكل شخص من أن تكون له جنسية محددة كما لا تكون للشخص إلا جنسية واحدة إلا انه من الممكن وجود أشخاص لا يحملون أية جنسية وكذلك قد يحمل بعض الأشخاص استثناء أكثر من جنسية. وتكتسب الجنسية إما بصورة أصلية بحكم الولادة أو بصورة استثنائية بطريق التجنس.
واكتساب الجنسية1 بحكم الولادة يخضع إلى أحد المبدأين التاليين:
1- مبدأ الدم: يكتسب الشخص جنسية دولة معينة لولادته من أب يحمل جنسية هذه الدولة.
2- مبدأ الأرض يعتبر من رعايا الدولة ويحمل جنسيتها كل من يولد على أرضها دون النظر إلى جنسية أبيه وقد نصت المادة /35/ من القانون المدني على أن (( الجنسية السورية ينظمها قانون خاص ))حيث نظمها المرسوم التشريعي رقم 276 الصادر بتاريخ 24/11/1969.
وتدل أحكامه على أن مبدأ الدم هو الأصل الغالب في اكتساب الجنسية حيث ينص على أنه يعتبر عربيا ًسوريا ًحكماً (( من ولد في القطر أو خارجه من والد عربي سوري)).
والمرسوم التشريعي السابق يفسح المجال لتطبيق مبدأ الأرض في اكتساب الجنسية في بعض الحالات الاستثنائية.
أما اكتساب الجنسية بطريق التجنس فيخضع لبعض الشروط المذكورة في المرسوم السابق
زوال الجنسية:
$تزول الجنسية عن صاحبها إما بفقدانه إياها، أي التخلي عنها بإرادته وفق شروط معينة، أو تجريده منها واهم حالات فقدان الجنسية هي حالة تجنس المواطن بجنسيه أجنبية وكذلك في حالة رغبة المرأة السورية التي تتزوج بأجنبي في التخلي عن جنسيتها الأصلية لاكتساب جنسية زوجها.
أما التجريد من الجنسية فيكون إما بحكم قضائي أو بمرسوم بناء على اقتراح معلل من وزير الداخلية وذلك في بعض الحالات مثل:
1- دخول المواطن باختياره في الخدمة العسكرية لدى دولة أجنبية دون ترخيص سابق يصدر عن وزير الدفاع.
2- مغادرة الأراضي السورية بصورة غير مشروعة إلى بلد هو في حالة حرب مع القطر.
آثار الجنسية:
تظهر أهم هذه الآثار في نطاق القانون العام:
عدم قبول غير المواطن للاشتراك في الحكم أو العمل السياسي سواء عن طريق الانتخاب أو التصويت أو الترشيح أو التمثيل وعدم السماح له بتولي الوظائف العامة في الدولة، وعدم تكليفه بالخدمة العسكرية الإلزامية وخضوعه لشروط إقامة معينة.
على أن بعض آثار الجنسية تنعكس أيضاً على حياة الشخص المدنية ومن ذلك تقييد حرية $الأجانب في تملك العقارات والتصرف فيها وتقييد حريتهم في إقامة الشركات واستثمارها وفي مزاولة أعمالهم.
الفرع الرابع
الأهليـــــــة
تعتبر الأهلية من أهم خصائص الشخصية حيث يتوقف عليها تحديد فعالية الشخص من حيث قدرته على اكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات من جهة وعلى ممارسة الأعمال والتصرفات المتعلقة بهذه الحقوق والالتزامات على وجه يعتد به من الوجهة القانونية من جهة ثانية وأحكام الأهلية قد نظمها بصورة رئيسية قانون الأحوال الشخصية وهي مستمدة إلى حد كبير من مبادئ الشريعة الإسلامية.
نوعا الأهليـة:
تقسم الأهلية إلى نوعين1: أهلية الوجوب أو تمتع وأهلية الأداء أو ممارسة.
1- أهلية الوجوب: تعرف بأنها صلاحية الشخص لثبوت الحق له أو عليه أو صلاحيته لاكتساب الحقوق والتمتع بها والالتزام بالواجبات وتحملها وتقوم أهلية الوجوب على عنصرين هما:
أ- صلاحية الشخص أو قدرته على التمتع بالحقوق أي صلاحيته لأن يكون صاحب حق كصاحب حق الملكية.
ب- صلاحية اشخص أو قدرته على الالتزام بالواجبات أي صلاحيته لأن يكون مكلفاً بالتزام.
وتثبت أهلية الوجوب للإنسان لمجرد كونه إنساناً دون أن يتوقف اعتبارها على أي أمر آخر فهي تبدأ ناقصة محدودة بالنسبة للجنين ثم تتم لدى الشخص بعنصريها منذ ولادته وتلازمه طول حياته.
وهنا يمكن أن نطرح السؤال التالي لماذا تعد أهلية الوجوب لدى الجنين ناقصة ؟
لأن الجنين لا يمكنه تحمل أي التزام تجاه غيره ولكنه يحتفظ ببعض الحقوق التي منحها القانون له.
أهلية الأداء: تعرف أهلية الأداء بأنها: صلاحية الشخص لممارسة الأعمال والتصرفات القانونية بنفسه على وجه يعتد به قانوناً.
وهذه الأهلية لا تثبت كاملة بالنسبة لجميع الأشخاص بل تكون بالنسبة لبعضهم معدومة أو ناقصة.
والسبب في هذا أن صلاحية الشخص لإجراء الأعمال والتصرفات ذات النتائج القانونية ومباشرتها بنفسه لا تتعلق بصفته الإنسانية وحدها بل يتوجب لثبوتها أن يكون هذا الشخص على قدر كاف من العقل والإدراك يسمح له بمعرفة نتائج أعماله والتبصر فيها وبهذا تختلف أهلية الوجوب عن أهلية الأداء فالأولى لا يشترط لتمامها وجود العقل أو الإدراك لدى الإنسان بل هي تتم لديه بمجرد ولادته ولا يؤثر فيها أي عارض من العوارض وأما أهلية الأداء فيتوقف اكتمالها على اكتمال العقل وهي تختلف قوة وضعفاً تبعاً له وعلى ذلك قد لا يتمتع الإنسان في بعض الحالات بأهلية الأداء بينما تكون له أهلية وجوب كاملة.
مراحل تطور الأهلية1:
1- طور الحمل: في هذه المرحلة يكون الإنسان جنينا في بطن أمه لم يخرج إلى عالم الوجود ومن العبث أن نبحث عن أهلية الأداء بالنسبة إليه أما بالنسبة لأهلية الوجوب فمن المفروض مبدئياً إلا يكون لها وجود بالنسبة للجنين لان الأهلية بعنصريها تعتبر صفة من صفات الشخصية والجنين لا يتمتع بالشخصية القانونية ولكن يؤخذ بعين الاعتبار أن الجنين سيولد في يوم ما وتصبح له شخصيته لذلك يعترف له منذ كونه جنيناً ببعض الحقوق الضرورية ويعتبر للجنين أهلية وجوب بالقدر الذي يستلزمه الحفاظ على مصالحه الضرورية والحقوق الضرورية التي يعتبر الجنين أهلاً لاكتسابها أربعة وهي: النسب والإرث والوصية والوقف ويحفظ نصيب الجنين من الوصية والإرث والوقف لحين ولادته حياً.
2- طور عدم التمييز:
وهو يبدأ منذ الولادة ويمتد حتى سن السابعة، وبالولادة تكتمل أهلية الوجوب لدى الإنسان ويصبح صالحاً لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات وتظل أهلية الوجوب كاملة في مختلف أطوار الحياة.
وأما أهلية الأداء فتكون معدومة لدى الطفل غير المميز لأن هذه الأهلية تبنى على العقل والإدراك والطفل غير المميز يفترض فيه انعدام العقل والإدراك في المعاملات والأمور القانونية و على هذا فجميع ما يباشره الطفل غير المميز بنفسه من الأعمال والتصرفات القانونية أياً كان نوعها لا عبرة له لأنه ليس أهلاً لإجرائه وقد نصت م /111/ على أنه:
$ (( ليس للصغير غير المميز حق التصرف في ماله، وتكون جميع تصرفاته باطلة)) ولكن الأعمال والتصرفات المتعلقة بحقوقه والتزاماته يستطيع ممارستها عنه ولحسابه نائب شرعي من ولي أو وصي.
3. طور التمييز:
وهو يمتد من سن السابعة حتى الثامنة عشر.
وفي هذا الطور يعتبر الإنسان في مرحلة وسط بين الإدراك التام من جهة وعدم الإدراك المطلق من جهة ثانية ويراعى بالنسبة لأهلية الصغير المميز هذان الاعتباران معاً: والقدر الذي يتمتع به الصغير من الإدراك يدعو ألا تحجب عنه كل ثقة وأن يسمح له مبدئياً بإجراء الأعمال والتصرفات ليستطيع اكتساب الخبرة إلا أن عدم اكتمال إدراكه ووعيه يدعو إلى ألا يسمح له بإجراء هذه التصرفات بصورة كاملة ومطلقة ولهذا يعتبر أن للإنسان في طور التمييز أهلية أداء ناقصة
وتقسم التصرفات القانونية إلى ثلاثة أقسام1:
تصرفات ضارة ضرراً محضاً:
وهي التي تعود على صاحبها بضرر أكيد دون أن تكسبه نفعاً لقائه وذلك كتبرع الإنسان بهبة لغيره.
تصرفات نافعة نفعاً محضاً:
وهي التي تعود على صاحبها بنفع أكيد دون مقابل يخسره.
وذلك كقبول الإنسان للهبة التي يتبرع له بها.
تصرفات دائرة بين النفع والضرر:
وهي التي يحتمل أن تجلب لصاحبها الربح كما يحتمل أن تجلب له الخسارة دون أن يدل نوعها بصورة أكيدة على نتائجها وذلك كالبيع أو الإجارة.......
ويمكن أن تقسم التصرفات الدائرة بين النفع والضرر إلى قسمين منها ما يرمي إلى المحافظة على المال وصيانته واستثماره أو الانتفاع به دون استهلاكه والتخلي عنه وهذه التصرفات $تدعى بأعمال الإدارة ومنها ما يؤدي إلى التصرف بالمال على وجه يجاوز حدود استثماره العادي وقد يعرض صاحبه بالتالي إلى ضرر يفوق الضرر الذي تعرضه إليه أعمال الإدارة ويسمى هذا النوع من التصرفات بأعمال التصرف.
أما حدود الأهلية للصغير المميز بالنسبة لهذه الأنواع من التصرفات فهي:
1- بالنسبة للتصرفات الضارة ضرراً محضاً:
لا يستطيع الصغير المميز إجرائها بحال من الأحوال وإذا صدرت عنه تعتبر باطلة ولا يترتب عليها أي أثر أي أن أهليته بالنسبة لهذه التصرفات معدومة كأهلية الصغير غير المميز.
2- بالنسبة للتصرفات النافعة نفعاً محضاً:
يحق للصغير المميز إجراؤها مطلقا وتعتبر صحيحة ونافذة متى صدرت عنه دون التوقف على أي أمر آخر أي أن أهليته بالنسبة لهذه التصرفات كاملة كأهلية الكبير الراشد.
3- بالنسبة للتصرفات الدائرة بين النفع والضرر:
يستطيع الصغير المميز إجراءها مبدئياً لأن له حداً من العقل والإدراك إلا أن عدم خبرته في المعاملات القانونية وقلة بصيرته توجبان حمايته مما قد تلحق به هذه التصرفات من ضرر.
ولهذا يحفظ له الحق في أن يعيد بعد بلوغه سن الرشد واكتمال أهليته النظر في تصرفاته هذه وأن يطلب إبطالها إذا شاء ( كما أن لنائبه الشرعي الحق في إجازة هذه التصرفات فتصبح صحيحة بصورة نهائية وغير قابلة للإبطال من قبل الصغير المميز بعد بلوغه سن الرشد، أو إبطالها فتنعدم ولا يعود هنالك مجال لإجازتها من أحد).
فأهلية الصغير المميز بالنسبة لهذه التصرفات تختلف إذن عن أهلية الصغير غير المميز كما تختلف في نفس الوقت عن أهلية الكبير الراشد, فهي تختلف عن أهلية الصغير $غير المميز من حيث أن التصرفات المحتملة للنفع والضرر التي يجريها الصغير المميز تعتبر منعقد لا باطلة بينما تعتبر تصرفات الصغير غير المميز باطلة أصلاً ولا ينتج عنها أي أثر قانوني, وهي تختلف عن أهلية الكبير الراشد من حيث أن هذه التصرفات تكون قابلة للإبطال, سواء من قبل نائبه الشرعي خلال نيابته عنه في فترة نقص أهليته أو من قبل الصغير المميز نفسه بعد بلوغه سن الرشد بينما لا يحق لأحد أن يطلب لنفس السبب إبطال التصرفات التي يجريها الشخص بعد رشده واكتمال أهليته.
ويزول حق الصغير المميز في طلب إبطال تصرفاته المحتملة للنفع والضرر بعد سنة من بلوغه سن الرشد حرصاً على استقرار المعاملات القانونية كما أنه يستطيع منذ بلوغه سن الرشد إجازة تصرفاته القابلة للإبطال وتثبيتها.
وإذا كانت أهلية الأداء لدى الصغير المميز ناقصة بالنسبة للتصرفات المحتملة للنفع والضرر بحيث تكون هذه التصرفات رغم انعقادها قابلة للإبطال, فإن هنالك نوعين من الحالات تعتبر فيها أهلية الأداء كاملة لديه بالنسبة لطائفة من هذه التصرفات:
فقط منحت المادة /169/ من قانون الأحوال الشخصية للصغير المميز الذي بلغ الثالثة عشر من عمره الحق في أن يتولى إدارة ماله الذي كسبه من عمله الخاص وتكون تصرفاته في هذا الشأن كتصرفات الكبير الراشد غير قابلة للإبطال على أن الصغير في هذه الحالة لا يكون ضامنا لديونه التي نشأت عن هذه الإدارة إلا بقدر ذلك المال الذي كسبه من عمله الخاص.
ومنحت المادتان /113/ من قانوننا المدني والمادة 164 من قانون الأحوال الشخصية للصغير المميز الذي بلغ الخامسة عشرة من عمره الحق في إدارة أمواله أيا ً كان منشأها.
متى أذن له بذلك من قبل القاضي. وكذلك يستطيع أيضاً مزاولة التجارة وهي من أعمال التصرف لا الإدارة شريطة أن يحوز على موافقة القاضي بالسماح له بمزاولتها.
على أن أهلية الصغيرين المذكورين لا تكون كاملة إلا بالنسبة للتصرفات التي يحددها لهما القانون وأما أهليتهما بالنسبة للتصرفات المحتملة للنفع والضرر الخارجة عن هذا النطاق فتظل ناقصة بحيث تكون هذه التصرفات قابلة للإبطال كما تظل أهليتهما بالنسبة للتصرفات الضارة ضرراً محضاً معدومة بحيث لا يحق لهما إجراءها بحال من الأحوال.
4- طــــور الرشــــد:
ويبدأ من الثامنة عشرة من العمر ويستمر لبقية الحياة وخلال هذا الطور يستطيع الشخص أن يجري.
1- التصرفات النافعة نفعاً محضاً كما في الطور السابق.
2- التصرفات الدائرة بين النفع والضرر بنوعيها سواء كانت أعمال الإدارة أو أعمال التصرف.
3- يستطيع إجراء التصرفات الضارة ضررا ًمحضاً التي كان يمتنع عليه إجراؤها سابقاً فيهب أو يتبرع فيما يشاء من أمواله.
وجميع ما يجريه من هذه التصرفات لا يكون باطلا ًأبداً لأنه يستند إلى أهليته ولا قابلاً للإبطال.
كما أن التصرفات المحتملة للنفع والضرر التي كان قد أجراها في طور التمييز ولم يبت بها نائبه الشرعي فيقرر إجازتها أو يطالب بإبطالها.
وقد أختار القانون المدني المصري سن (21) لبدء طور الرشد ولعل سن الثامنة عشرة التي اختارها القانون السوري هي الأكثر ملائمة لأنها السن التي يحق فيها للشخص تولي الوظائف العامة في الدولة فمن غير المعقول أن يتولى الوظائف العامة في الدولة أشخاص ناقصين الأهلية.
عوارض الأهلية:
تطرأ على الإنسان بعد اكتمال أهليته بعض العوارض التي تؤثر فيها فتحد منها أو تزيلها وينحصر أثر هذه العوارض في أهلية الأداء دون أهلية الوجوب وسنستعرض فيما يلي هذه العوارض.
1- المجنون والمعتوه:
هو الشخص الذي أصابه خلل في توازنه العقلي وانعدم تمييزه ويختلف أحدهما عن الآخر من حيث أن العته لا يرافقه اضطراب الجنون فهو أشبه ما يكون بنوع من الجنون الهادئ. وحكمهما هو حكم الصغير غير المميز وتنعدم لديهما أهلية الأداء تبعاً لانعدام تمييزهما فلا $يستطيع أي منهما إجراء أي نوع من التصرفات بنفسه وكل ما يجريه منها يعتبر باطلا ولا يعتد به من الوجهة القانونية1.
وتشترط المادة /115/ من القانون المدني لاعتبار تصرفات المجنون والمعتوه باطلة أن يكون التصرف قد صدر بعد صدور قرار بالحجر عليهما وشهره أما إذا صدر التصرف قبل شهر الحجر فلا يكون باطلاً إلا إذا كانت حالة العته أو الجنون شائعة وقت التعاقد أو كان الطرف الآخر على بينة منها.
واعتبرت المادة 200 من قانون الأحوال الشخصية أن المجنون والمعتوه محجوران لذاتهما دون أن يكون هنالك حاجة لصدور قرار بالحجر عليهما وبذلك تعتبر تصرفاتهما باطلة كتصرفات الصغير غير المميز لمجرد حدوث الجنون أو العته لا اعتباراً من شهر قرار الحجر.
2-السفيه والمغفل1:
السفيه بحسب م /200/ من قانون الأحوال الشخصية هو الشخص الذي (( يبذر أمواله ويضيعها في غير مواضعها بإنفاقه ما يعد من مثله تبذيراً)) سواء أكان هذا التبذير في وجوه الخير أو وجوه الشر.
أما المغفل بحسب المادة /200/ السابقة فهو الشخص الذي تغلب عليه الغفلة في أخذه وعطائه ولا يعرف أن يحتاط في معاملاته لبلاهته.
والسفيه والمغفل كلاهما لا يعتبران فاقدي التمييز والوعي كالصغير غير المميز أو المجنون $أو المعتوه وإنما هما يدركان الأمور والمعاملات القانونية ويميزان بينها ولكنهما لا يحسنان التصرف في أمورهما وحكم السفيه والمغفل هو حكم الصغير المميز غير أنه يشترط لاعتبارهما ناقصي الأهلية صدور قرار بالحجر عليهما من قبل القاضي الشرعي أما قبل صدور قرار الحجر وشهره فتكون جميع تصرفاتهما صحيحة وغير قابلة للإبطال إلا إذا كانت هذه التصرفات قد تمت نتيجة استغلال أو تواطؤ وهذا الحكم هو الذي نصت عليه المادة /116/ من القانون المدني وتطبيق حكم الصغير المميز على السفيه والمغفل يقتضي بطلان تصرفاتهما الضارة ضرراً محضاً وصحة تصرفاتهما النافعة نفعاً محضاً وقابلية تصرفاتهما الدائرة بين النفع والضرر للإبطال.
إلا أن للسفيه والمغفل خلافاً للصغير المميز الحق في إجراء الوصية أو الوقف متى أذنت لهما $المحكمة بذلك، هذا وقد أشارت المادة /117/ من القانون المدني إلى اعتبار (أعمال الإدارة الصادرة عن المحجور علية لسفه، المأذون له بتسلم أمواله، صحيحة بالحدود التي رسمها القانون ).
3- المحكوم عليه بعقوبة جنائية:
نصت المادة /50/ من قانون العقوبات أن كل محكوم عليه بالأشغال الشاقة أو الاعتقال يكون في حالة الحجر خلال تنفيذ عقوبته وكل عمل وإدارة وتصرف يقوم به المحكوم عليه ما عدا الأعمال المتعلقة بممارسة حقوقه الملازمة لشخصه يعتبر باطلا ً1.
فالمحكوم عليه بعقوبة جنائية لا يستطيع خلال تنفيذ عقوبته إجراء أي نوع من أنواع التصرفات والأعمال القانونية, وإذا أجرى شيئاً منها تعتبر تصرفاته باطلة ويستثنى من ذلك التصرفات المتعلقة بالحقوق الملازمة لشخص المحكوم عليه كالطلاق مثلاً والإقرار بالبنوة حيث تعتبر صحيحة متى صدرت عنه وتكون أهليته كاملة بالنسبة إليها.
وسبب انعدام الأهلية لدى المحكوم عليه بعقوبة جنائية لا يعود إلى سوء إدارته لأموره أو عدم إدراكه وإنما هو إجراء تأديبي يتفرع عن عقوبته الأصلية.
ولا شك أن هذا الإجراء ينطوي على شيء من القسوة وخاصة من حيث اعتبار المحكوم عليه بعقوبة جنائية في منزلة الصغير غير المميز والمجنون والمعتوه.
الأصم والأبكم والأعمى2:
نصت المادة: /118/ من القانون المدني على ما يلي:
(( إذا كان الشخص أصم أبكم، أو أعمى أصم، أو أعمى أبكم وتعذر عليه بسبب ذلك التعبير $عن إرادته، جاز للمحكمة أن تعين له مساعداً قضائياً يعاونه في التصرفات التي تقتضي مصلحته فيها ذلك. ويكون قابلا ًللإبطال كل تصرف من التصرفات التي تقررت المساعدة القضائية فيها متى صدرت من الشخص الذي تقرر مساعدته قضائياً إذا صدر التصرف بعد شهر قرار المساعدة )).
هذه الحالة ليست من حالات عوارض الأهلية ولهذا يعتبر الإنسان في هذه الحالة ذا أهلية أداء كاملة بحيث يستطيع أن يجري بمحض إرادته ومشيئته كافة التصرفات والأعمال القانونية أياً كان نوعها بما ذلك التصرفات الضارة ضرراً محضاً على أن يساعده في التعبير عن إرادته مساعد قضائي.
والتصرفات التي يجريها المصاب بعاهتين من هذه العاهات الثلاث بغير معاونة المساعد القضائي تكون قابلة للإبطال فيما إذا صدرت بعد شهر قرار المساعدة وكانت داخلة في حدود التصرفات التي تقررت المساعدة القضائية فيها, أما إذا كانت التصرفات قد تمت قبل صدور قرار المساعدة وشهره أو كان لا يشملها هذا القرار فلا مجال لإبطالها لنفس السبب.
النيابة الشرعية:
رأينا أن الإنسان لا يستطيع أبداً في حالة انعدام أهليته أن يتولى بنفسه إدارة شؤونه وأمواله أو إجراء أي نوع من التصرفات والأعمال القانونية المتعلقة بها وهو يستطيع ذلك في حالة نقص أهليته ولكن ضمن حدود وقيود.
والإنسان في جميع هذه الحالات بحاجة إلى أن يتولى شخص آخر كامل الأهلية رعاية مصالحه وشؤونه والإشراف عليها وأن ينوب عنه في إجراء التصرفات والأعمال القانونية أو أن يجيز ما يجريه منها إذا كانت من التصرفات التي تصح إجازتها ويسمى الشخص الذي يعهد إليه بالإشراف على شؤون غيره في هذه الحالات بالنائب الشرعي.
أنواع النيابة الشرعية:
الولاية: تكون الولاية على الصغير القاصر، وهو الذي لم يبلغ سن الرشد سواء أكان مميزا ًأو غير مميز1.
وهي تقسم إلى قسمين:
ولاية على النفس:
وتهدف إلى الإشراف على شؤون القاصر الشخصية وتعليمه وتطبيبه وتأديبه ونحو ذلك.
ولاية على المال:
وتهدف إلى الإشراف على شؤون القاصر المالية كإدارته ممتلكاته وأمواله واستثمارها.
وتعود الولاية على النفس والمال إلى الأب وفي حال عدم وجوده إلى الجد العصبي.
وفي حال عدم وجود الأب أو الجد العصبي تنفصل الولاية على النفس عن الولاية على المال وتنقلب الولاية على المال إلى وصاية وتبقى الولاية على النفس التي تعود حينئذ إلى الأقارب العصبات بأنفسهم بحسب ترتيبهم بالنسبة للإرث من الصغير فمن كان مقدما ًعلى غيره بالإرث كان مقدما ًعليه في الولاية على النفس.
الوصاية: وتكون على القاصر بالنسبة لأموره المالية لا الشخصية ولا تسمى الوصاية بهذا الاسم إلا إذا كانت لا تعود إلى الأب أو الجد العصبي أما إذا عادت إليهما فتسمى بالولاية على المال.
وتعود الوصاية على مال القاصر إلى الشخص الذي يعينه الأب أو الجد قبل وفاتهما على أن تثبت المحكمة بعد الوفاة هذه الوصاية.
وإذا لم يكن هنالك وصي فإن المحكمة الشرعية هي التي تعين الوصي وليس ضرورياً أن يكون الوصي على مال القاصر هو الولي نفسه وإن يكن من الممكن في أغلب الأحيان أن يعين الولي على النفس وصياً في نفس الوقت.
ويجوز بحسب المادة 19 من قانون الأحوال الشخصية تعيين ناظر مع الوصي المختار لمراقبته في شؤون القاصر.
القوامة: وتكون على المجنون والمعتوه والسفيه والمغفل.
الوكالة القضائية: وتكون على المفقود والغائب.
صلاحيات النائب الشرعي:
تختلف حدود هذه الصلاحيات بحسب أنواع التصرفات والأعمال القانونية التي يرغب النائب الشرعي في إجرائها وبحسب ما إذا كان هذا النائب الشرعي ولياً أو وصياً أو قيماً أو وكيلاً قضائياً1.
فالنسبة للتصرفات النافعة نفعاً محضاً يستطيع النائب الشرعي أياً كان إجرائها بينما لا يستطيع أحد من النواب الشرعيين إجراء التصرفات الضارة ضرراً محضاً بحال من الأحوال.
وأما بالنسبة للتصرفات الدائرة بين النفع والضرر فيستطيع النواب الشرعيون جميعاً إجرائها إلا أن بعض هذه التصرفات يحتاج النائب الشرعي لإجرائه إلى إذن من المحكمة.
والتصرفات التي لا يستطيع النائب الشرعي إجراءها بمفرده بل لا بد من أجلها من إذن المحكمة هي أكثر بالنسبة للوصي والقيم والوكيل القضائي منها بالنسبة للولي على المال الذي هو الأب أو الجد العصبي فهما يستطيعان مثلاً أن يجريا مبدئياً ودون الحاجة إلى إذن المحكمة أعمال التصرف بالنسبة لأموال القاصر بينما لا يستطيع الوصي أو القيم أو الوكيل القضائي ذلك إلا بإذن من المحكمة.
وعلى هذا نلاحظ:
أولاً: إن التصرفات النافعة نفعاً محضاً يحق للنائب الشرعي إجراءها ويحق أيضاً لناقص الأهلية أما عديم الأهلية فليس له مثل هذا الحق.
ثانياً: إن التصرفات الضارة ضرراً محضاً لا يحق لأحد إجراءها مطلقاً ويتساوى في ذلك عديم الأهلية وناقصها والنائب الشرعي والمحكمة.
ثالثاً: إن التصرفات الدائرة بين النفع والضرر يحق للنائب الشرعي إجراؤها ولا يحق لعديم الأهلية ذلك.
فبالنسبة لعديم الأهلية إذن يتولى نائبه الشرعي إجراء التصرفات النافعة نفعاً محضاً والتصرفات الدائرة بين النفع والضرر دون أن يستطيع عديم الأهلية إجراء شيء منها.
وأما ناقص الأهلية فيستطيع نائبه إجراء هذه التصرفات عنه كما يستطيع ناقص الأهلية أن يتولى إجراء هذه التصرفات تحت إشراف نائبه الشرعي الذي يكون له الحق في إجازتها أو إبطالها فيما إذا كانت دائرة بين النفع والضرر.
وإذا أجاز النائب الشرعي التصرفات الدائرة بين النفع والضرر التي يكون ناقص الأهلية قد أجراها بنفسه فإن هذه التصرفات تصبح صحيحة.
وأما إذا رفض النائب الشرعي إجازتها فتصبح باطلة ولا يعود لناقص الأهلية بعد اكتمال رشده إبطالها أو إجازتها.
والتصرفات التي يجريها النائب الشرعي إنما تعود آثارها ونتائجها على عديم الأهلية أو ناقصها الذي تجري هذه التصرفات لمصلحته وحسابه وهو وحده الذي يكتسب ما ينشأ عن التصرفات من حقوق ويتحمل ما يترتب عليها من التزامات بينما تنحصر مهمة النائب الشرعي في إجراء هذه التصرفات لحساب من ينوب عنه فقط دون أن يكون له نصيب في نتائجها وآثارها.
$وفي الختام ننوه إلى الملاحظتين الآتيتين:
الملاحظة الأولى:الأصل في الشخص كمال أهليته:
نصت عليه المادة /110/ من القانون المدني على أن: " كل شخص أهل للتعاقد ما لم تسلب أهليته أو يحد منها بحكم القانون".
وهذا يعني أن كمال الأهلية لدى الشخص هو الحالة الطبيعية وأن عدم الأهلية أو نقصانها عبارة عن حالات استثنائية.
كما أنه يعني أن التصرفات التي يجريها الشخص يفترض مبدئيا ًأنها قد صدرت عنه وهو كامل الأهلية وإذا ادعى أحد خلاف ذلك سواء أكان المدعي هو الشخص نفسه الذي أجرى التصرفات أو غيره فإنه يقع عليه عبء إثبات ما يدعيه.
فإذا طالب شخص بإبطال تصرف من تصرفاته الدائرة بين النفع والضرر بحجة أنه كان حين إجرائها ناقص الأهلية وادعى المتعاقد الآخر معه أن هذا التصرف قد أجراه صاحبه وهو كامل الأهلية فيؤخذ مبدئياً بقول من يدعي كمال الأهلية لأن هذا هو الأصل في الشخص.
الملاحظة الثانية: أهلية الشخص من النظام العام:
إن للمجتمع مصلحة أكيدة في تحديد أهلية كل فرد من أفراده ومدى صلاحيته لإجراء التصرفات والأعمال القانونية إضافة لتطبيق أحكام الأهلية بحذافيرها تطبيقاً دقيقاً.
ولهذا تعتبر الأهلية بحسب المادة /50/ من القانون المدني من النظام العام بحيث لا يجوز لأحد التنازل عنها أو التعديل في أحكامها فلا يستطيع كامل الأهلية مثلاُ أن يتفق مع آخر على التنازل عن أهليته واعتبار تصرفاته التي يجريها باطلة أو قابلة للإبطال لأن الشخص لا يملك الحق في أن يتصرف في أهليته كما يشاء.
الفرع الخامس
الذمــة الماليــة
مفهوم الذمة المالية:
تعرف الذمة المالية بأنها "مجموعة الحقوق والالتزامات المالية الحاضرة والمستقبلة التي تعود للشخص"1.
وهي تتألف من عنصرين:
عنصر ايجابي:
ويتضمن الحقوق المالية التي تكون للشخص سواء أكانت هذه الحقوق عينية كملكية الأشياء أو شخصية كالديون التي تترتب لصاحبها لدى غيره من الأشخاص.
عنصر سلبي:
وهو يتضمن الالتزامات المالية التي تترتب على الشخص كالالتزام مثلا بمبلغ من المال أو القيام بعمل.
_ والذمة المالية ليست عبارة عن الرصيد بين عنصري الحقوق والالتزامات وإنما هي عبارة عن مجموعهما معاً, فكأن هذه الحقوق والالتزامات جميعاً تؤلف وحدة قائمة بذاتها أو مجموعة قانونية يطلق عليها اسم الذمة المالية.
كما أن الذمة المالية لا تقتصر على الحقوق والالتزامات المالية العائدة للشخص في وقت من الأوقات فقط بل تتضمن أيضاً الحقوق والالتزامات المقبلة. فهي أشبه بوعاء تنصب فيه الحقوق والالتزامات التي تتغير باستمرار فيزول بعضها ويتغير بعضها لكن دون أن يؤثر ذلك على مفهوم الذمة المالية نفسها.
والذمة المالية لا تشمل سوى جانب من الحقوق والالتزامات التي تعود للشخص وهي الحقوق والالتزامات ذات القيمة المالية فقط, أما الحقوق والالتزامات غير المالية فلا تعتبر من عناصر الذمة المالية.
صلة الذمة المالية بالشخصية وخصائصها:
$ترتبط الذمة المالية بالشخصية ارتباطاً وثيقاً وتعتبر خاصة من خصائصها ومن أهم خصائص الذمة المالية ما يلي1:
أولاً: الذمة المالية لا توجد إلا تبعاً لوجود الشخصية وليس هنالك من ذمة مالية بدون شخص تتعلق به وتعود إليه الحقوق والالتزامات التي تحويها.
وقد ناقش الفقهاء الألمان هذا الموضوع وبينوا أنه قد توجد هنالك مجموعات من الأموال تؤلف ذمماً مالية مستقلة دون أن تعود لشخص من الأشخاص وبالرغم من افتراض وجود $شخصية اعتبارية لهذه المجموعات، كما هو الحال بالنسبة للمؤسسات مثلاً أو الوقف فمن الممكن أحياناً اعتبارها ذات ذمة مالية دون حاجة لمنحها الشخصية القانونية.
ثانياً: كما أنه لا يمكن وجود ذمة مالية دون شخصية قانونية ترتبط بها وتعود إليها فكذلك لا يمكن وجود شخصية قانونية دون ذمة مالية تضم حقوقها والتزاماتها وتمثل الجانب المالي منها.
وفي الواقع لا بد لكل شخص من أن يتمتع حتماً بالذمة المالية ولا يمكن انعدام هذه الذمة لدى أحد من الأشخاص.
فمن الوجهة العملية نلاحظ أن الشخص مهما قلت موارده وتناقصت الحقوق التي يتمتع بها أو الالتزامات التي تترتب عليه لا بد له لاستمرار بقائه ووجوده من أن يكون له أو عليه بعض الحقوق أو الالتزامات.
وأما من الوجهة النظرية: فلو فرضنا خلو الذمة المالية من الحقوق والالتزامات في فترة من الفترات فإنها لا تنعدم بانعدام هذه الحقوق والالتزامات لأن الذمة المالية لا تشمل الحقوق و الالتزامات القائمة فقط بل تشتمل أيضاً الحقوق والالتزامات المقبلة.
ثالثاً:وإذا كان لا بد لكل شخص من ذمة مالية فإن هذه الذمة لا يجوز التنازل عنها بكاملها أو عن جزء شائع منها وإن يكن من الممكن التنازل عن بعض أعيانها ومفرداتها أو عن جميع هذه الأعيان والمفردات دفعة واحدة، حيث يستطيع الشخص أن يتخلى عن جزء من الحقوق والالتزامات التي تحويها ذمته أو عن جميع الحقوق والالتزامات القائمة في وقت من الأوقات دون أن يكون قد تخلى عن ذمته لأنها تبقى قائمة بالرغم من خلوها من محتوياتها ومفرداتها.
ومن هنا يظهر أن الشخص لا يمكن أن يكون له خلال حياته إلا خلف خاص، أما بعد الوفاة فيمكن أن يكون له خلف خاص وخلف عام.
والخلف الخاص: هو الذي يتلقى عن سلفه ملكية شيء معين مادي أو معنوي أو حقاً عينياً على هذا الشيء.
والخلف العام: فهو الذي يخلف السلف في ذمته المالية أو في جزء شائع منها.
ولما كان لا يجوز التنازل عن الذمة المالية أو عن جزء شائع منها أثناء حياة صاحبها فإن $الشخص لا يكون له خلال حياته خلف عام وإنما يكون له خلف خاص كالمشتري الذي يعتبر خلفاً خاصاً للبائع في ملكية الشيء المبيع، أما بعد الوفاة فتتحدد الذمة المالية وتنقلب إلى تركة تؤول إلى مستحقيها من الورثة, والموصى لهم, فالوارث والموصى له بجزء شائع من التركة كالموصى له بربع التركة مثلاً أو ثلثها, يعتبران بمثابة خلف عام للمورث لأنهما يخلفانه في ذمته المالية التي انقلبت إلى تركة أو في أجزاء شائعة منها, أما الموصى له بأعيان معينة من التركة فيعتبر خلفاً خاصاً للمتوفى لأنه لا يخلفه في ذمته المالية أو في جزء شائع منها وإنما هو يخلفه في بعض أعيانها ومفرداتها.
رابعاً: كما أن الشخص لا يمكن أن يكون بدون ذمة مالية أو بذمة مالية ناقصة وكذلك لا يمكن أن تكون له أكثر من ذمة مالية واحدة.
حيث أنه حتى لو تعددت فعاليات الشخص ونشاطه القانوني ومشاريعه فلا يمكن أن يخصص لكل مشروع منها ذمة مالية خاصة به وإنما تكون له ذمة مالية واحدة تنصب فيها جميع حقوقه والتزاماته المالية أياً كان مصدرها.
فائدة الذمة المالية وآثارها:
يستخلص أنصار فكرة الذمة المالية من افتراض وجودها الأثرين التاليين1:
أولاً: إن الديون والالتزامات التي تترتب على الشخص لا تتعلق بقسم معين من أمواله بل هي تتعلق بذمته كلها التي تعتبر ضامنة لوفائها.
أو بعبارة أصح: إن ديون الشخص أو التزاماته المالية التي تؤلف العنصر السلبي من ذمته إنما تكون مضمونة كلها بجميع أمواله التي تشكل العنصر الإيجابي في هذه الذمة. ولما كانت $الذمة المالية تشمل أموال الشخص جميعها, فإن حق الدائن في استيفاء دينه لا يقتصر على مال معين للمدين, وإنما هو يشمل أمواله جميعها أياً كان تاريخ ترتب ذلك الدين أو اكتساب هذه الأموال كما يشاركه في هذا الحق جميع أصحاب الديون الأخرى.
فلو فرضنا أن أموال المدين تنقص عن ديونه، فإن هذه الأموال توزع على الدائنين جميعاً بنسبة ديونهم إلا إذا كان لأحد الدائنين حق عيني تبعي على بعض أموال مدينه كحق الرهن مثلاً, فإن لصاحب الحق العيني التبعي الأفضلية في استيفاء دينه من المال الذي يقع عليه حقه العيني باعتبار أن دينه بالإضافة إلى تعلقه بذمة المدين المالية بصورة عامة قد تعلق أيضاً ببعض مفردات هذه الذمة.
ثانياً: لما كانت الديون والالتزامات التي ترتب على الشخص تتعلق بذمته المالية لا بأعيانها ومفرداتها، فإن الشخص يستطيع أن يتصرف بأمواله كما يشاء دون أن تحد ديونه من حريته في التصرف.
غير أن المدين الذي يملك حرية التصرف بأمواله قد يسيء أحياناً هذا التصرف إما عن تهاون منه أو تواطؤ مع غيره فيؤدي إلى إفقار نفسه والإنقاص من ذمته المالية وهذا يؤثر على حقوق الدائنين المتعلقة بهذه الذمة لذلك يحفظ لهؤلاء الحق في مثل تلك الحالات باتخاذ بعض التدابير التي تكفل لهم المحافظة على حقوقهم وصيانتها.
انقضاء الذمة المالية:
تنقضي الذمة المالية مبدئياً بوفاة صاحبها التي تؤدي إلى انقضاء شخصيته القانونية وبذلك تتحدد نهائياً أموال الشخص وديونه فتخصص هذه الأموال لوفاء ديون المتوفى أولاً ثم يوزع الفائض على الموصى لهم والورثة ويؤول إليهم بشكل تركة.
أما إذا زادت ديون المتوفى على أمواله فتوزع على الدائنين بحسب نسبة ديونهم ولا يتحمل الورثة بحسب الشريعة الإسلامية أياً من تلك الديون.
الفرع السادس
المـــــوطن
تعريف الموطن وأهميته:
يعرف الموطن بأنه ((مكان معين تكون للشخص صلة به تسمح باعتباره موجوداً فيه بصورة دائمة، بحيث يجوز لمن يريد أن يعامله قانونيا ًأو قضائياً أن يوجه إليه الخطاب في ذلك المكان فيعتبر عالماً بذلك الخطاب ولو لم يعلم به بالفعل))1.
أو بتعبير آخر هو: " المقر الذي يكون للشخص في نظر القانون ".
ويقسم الموطن إلى:
موطن عام: يشمل كافة أمور الشخص ومعاملاته القانونية.
وموطن خاص: يقتصر على بعض هذه الأمور والمعاملات
ويعتبر الموطن عنصراً هاماً من عناصر الشخصية إذ أنه يمكن من تحديدها بصورة دقيقة وتعيين مقرها وتبدو فائدة الموطن من الجهة القانونية في نواحي عديدة:
أولاً:إن المحكمة المختصة للنظر في الدعاوى المتعلقة بالمنقولات أو بالحقوق الشخصية هي في الأصل المحكمة التي يقع في دائرتها موطن المدعى عليه وعلى هذا لو أراد الدائن مثلاً أن يرفع الدعوى على مدينه فعليه أن يرفعها أمام محكمة موطن هذا المدين.
ثانياً: إن التبليغات القانونية، كالمذكرات والإنذارات ونحوها تبلغ عادة إلى الشخص الموجهة إليه في موطنه فيعتبر عالماً بها ولو لم تسلم إليه بالذات.
ثالثاً: وإلى جانب ما ذكرنا هنالك فوائد أخرى للموطن مثل أن استيفاء الديون وتأديتها يجريان في الأصل في المكان الذي يكون فيه موطن المدين وقت الوفاء وأن التركات والتفليسات يجري فتحها أمام السلطة المختصة التي يقع في دائرتها موطن المتوفى أو موطن أعمال التاجر المفلس.
تحديد الموطن العادي وتغييره:
اختلفت الشرائع في كيفية تحديد الموطن وفي جواز تعدده أو عدمه:
فالشرائع الانكلوسكسونية:
تعتبر أن لكل شخص موطناً أصلياً وهو الموطن الذي ينتسب إليه بحكم القانون منذ ولادته، ويمكن للشخص الاحتفاظ بهذا الموطن ويمكن له تغييره، وبحسب هذه الشرائع فإن للشخص موطن ينسب له ولا يمكن أن يكون له أكثر من موطن واحد.
أما الشرائع اللاتينية:
فتعتبر أن موطن الشخص هو المكان الذي يوجد فيه مركز أعماله الرئيسي وهي بذلك تفرق بين الموطن من جهة ومحل الإقامة من جهة, كما أنها تعتبر أنه لا يمكن أن يكون للشخص أكثر من موطن واحد ومع ذلك فقد حاول القضاء الاعتراف بتعدد المواطن في بعض الحالات.
وأما الشريعة الألمانية:
فهي أكثر واقعية إذ تعتبر أن موطن الشخص هو المكان الذي يقيم فيه عادة أي هو محل الإقامة نفسه وهي ترى أنه يمكن أن يكون للشخص الواحد عدة مواطن.
وقد تبنى القانون المدني السوري والمصري المبدأ الذي أخذت به كل من الشريعتين والإسلامية والألمانية فنص في المادة 42 أن: ((الموطن هو المكان الذي يقيم فيه الشخص عادة، ويجوز أن يكون للشخص في وقت واحد أكثر من موطن، كما يجوز أن لا يكون له موطن ما)).
ويلاحظ من ذلك أنه لا يكفي أن يقيم الشخص في مكان ما ليعتبر هذا المكان موطناً له بل يجب أن تكون لديه نية الاستيطان أو الإقامة، فالشخص الذي يقضي عطلته في مكان معين لا يعتبر أنه قد اتخذ من هذا المكان موطناً له ما دام لا يبغي فيه سوى الإقامة المؤقتة.
غير أن إقامة الشخص بنية الاستيطان في مكان ما لا يعني أن هذا الشخص عليه أن يقيم في ذلك المكان بصورة مستمرة ودائمة دون أن يغادره أبداً.
أما إذا لم يعد الشخص يقيم فعلاً في المكان الذي كان يقيم فيه أو لم تعد لديه نية الاستيطان فتزول عندها عن هذا المكان صفة الموطن.
وأما إذا انتقل الشخص إلى موطن جديد, ولكن دون أن يترك الإقامة في موطنه السابق فلا يعتبر أنه غير موطنه القديم بل يكون قد اتخذ لنفسه موطناً جديداً إضافة لموطنه القديم.
الموطن القانوني:
للشخص ملء الحرية في أن يختار لنفسه الموطن الذي يريد وأن يغير موطنه متى يريد إلا أن القانون قد يتولى أحياناً وبالنسبة لبعض الأشخاص تحديد مواطن لهم يفرضها عليهم ويلزمهم بها.
وتحديد الموطن القانوني أمر استثنائي لا يجوز أن يتم إلا بنص صريح في القانون وتفرض الشرائع المختلفة المواطن القانونية على الأشخاص استناداً إلى اعتبارات متعددة ومنها بصورة خاصة ارتباط الشخص بمكان معين (كارتباط الموظف بمكان وظيفته) أو ارتباطه بشخص آخر يتولى شؤونه (كارتباط القاصر بنائبه الشرعي) كما أن بعض هذه الشرائع تعتبر أن الموطن القانوني للزوجة هو موطن زوجها والأشخاص الذين فرض عليهم القانون المدني السوري المواطن القانونية هم:
1 ـ الموظفون العامون.
2 ـ الأشخاص الحائزون على كامل الأهلية الذين يشتغلون عند الغير ويقيمون معه.
3 ـ القاصرون ومن في حكمهم.
أولاً: الموطن القانوني بالنسبة للموظفين العامين:
نصت الفقرة الثانية من المادة /43/ من القانون المدني على أن (( موطن الموظفين العامين هو المكان الذي يمارسون فيه وظائفهم)).
ويبنى الموطن في هذه الحالة على ارتباط الموظف بمكان معين هو المكان الذي يمارس فيه وظيفته، ولو لم يكن يقيم فيه بالفعل.
ويلاحظ أن هذا النص لا يشمل إلا الموظفين العامين أي موظفي الدولة فقط أما موظفو الشركات والمؤسسات الخاصة فليس لهم موطن قانوني وإنما لهم موطن عادي يحدد تبعاً لمحل إقامتهم ويمكن الاستغناء عن هذا النص واعتبار أن الموظفين العامين غالباً ما يقيمون في نفس المناطق التي يمارسون فيها وظائفهم.
ثانياً: بالنسبة لكاملي الأهلية الذين يشتغلون عند الغير ويقيمون معه:
نصت الفقرة الثالثة من المادة السابقة على أن (( الأشخاص الحائزون على كامل الأهلية الذين يخدمون أو يشتغلون عند الغير يعتبر موطنهم موطن من يستخدمهم إذا كانوا يقيمون معه في منزل واحد)).
ويبنى الموطن في هذه الحالة على ارتباط المستخدم الحائز على الأهلية الكاملة بشخص آخر هو الشخص الذي يشتغل عنده من جهة وعلى إقامته معه في منزل واحد من جهة ثانية، أما إذا كان هذا المستخدم لا يقيم مع الشخص الذي يشتغل عنده في منزل واحد لا يكون له موطن قانوني عند هذا الشخص وإنما يكون له موطن عادي في المحل الذي يقيم فيه.
ويلاحظ في هذه الحالة أن تحديد الموطن القانوني إنما يتوقف على إقامة المستخدم مع من يعمل معه في منزل واحد فلو لم نفترض وجود موطن قانوني للمستخدم لكان له موطن عادي هو نفس المحل الذي يقيم فيه.
ثالثاً: بالنسبة للقاصرين ومن في حكمهم:
نصت المادة /44/ من القانون المدني على ما يلي:
" 1 ـ موطن القاصر والمحجور عليه والمفقود والغائب هو موطن من ينوب عن هؤلاء قانوناً.
2 ـ ومع ذلك يكون للقاصر الذي بلغ خمس عشرة سنة ومن في حكمه موطن خاص بالنسبة إلى الأعمال والتصرفات التي يعتبره القانون أهلاً لمباشرتها)).
وقد تضمنت الفقرة الثانية من المادة السابقة استثناءً يتعلق بالقاصر الذي بلغ خمس عشرة سنة $ومن في حكمه حيث اعتبرت له موطناً خاصاً بالنسبة للأعمال والتصرفات التي يعتبره القانون أهلاً لمباشرتها.
فقد مر معنا في بحث الأهلية أن القاصر الذي بلغ خمسة عشرة سنة من عمره قد يؤذن له باستلام أمواله أو بعضها وبإجراء بعض التصرفات الدائرة بين النفع والضرر بنفسه دون مساعدة النائب الشرعي.
فيعتبر أن للقاصر في هذه الحالة (ولمن في حكمه كالسفيه والمغفل والقاصر الذي بلغ الثالثة عشرة من عمره) موطناً خاصاً مستقلاً عن موطن نائبه الشرعي فيما يتعلق بهذه الأعمال والتصرفات التي يعتبر أهلاً لمباشرتها بنفسه.
وأما الأعمال والتصرفات التي لا يشملها الإذن الشرعي فيظل لهذا القاصر ومن في حكمه موطن قانوني بالنسبة إليها هو موطن نائبه الشرعي.
موطن الأعمال:
نصت الفقرة الأولى من المادة /43/ من القانون المدني على أنه:
(( يعتبر المكان الذي يباشر فيه الشخص تجارة أو حرفة موطناً بالنسبة إلى إدارة الأعمال المتعلقة بهذه التجارة أو الحرفة)).
ومعنى ذلك أن التجار وأصحاب الحرف لهم بالإضافة إلى موطنهم العادي العام الذي يحدد في محل إقامتهم موطن خاص في المكان الذي يباشرون فيه تجارتهم أو حرفتهم.
فلو فرضنا أن شخصاً يقيم في دمشق مثلاً وله متجر في الزبداني، فيكون لهذا الشخص موطنان، موطن خاص في الزبداني فيما يتعلق بأعمال تجارته فقط، وموطن عام في دمشق $بالنسبة لسائر شؤونه ومعاملاته وبذلك فإن القانون المدني لم يجز فقط تعدد الموطن بل أجاز تجزئته بأن جعل بعض المواطن قاصرة على نوع معين من الأعمال دون غيره.
الموطن المختار:
تعريفه وأهميته:
نصت المادة /45/ من القانون المدني على أنه:
(( يجوز اتخاذ موطن مختار لتنفيذ عمل قانوني معين))
فالموطن المختار عبارة عن موطن خاص يتعلق بعمل معين وهو بهذا يشابه موطن الأعمال الذي يعتبر بدوره من المواطن الخاصة.
وللموطن المختار فائدة كبرى في تسهيل الإجراءات والمعاملات القانونية1.
كما لو تعاقد تاجر من دمشق فرضاً مع تاجر آخر من حلب على صفقة لشراء كمية من القطن, واتفقا في العقد على أن موطن شخص معين في دمشق يعتبر الموطن المختار بالنسبة لهذه الصفقة, فحين يقوم نزاع قانوني بين التاجرين الدمشقي والحلبي حول الصفقة المذكورة لا يكون التاجر الدمشقي مضطراً إلى أن يجري التبليغات القانونية إلى موطن التاجر الآخر في حلب أو أن يرفع عليه دعوى أمام محاكمها, بل يستطيع أن يجري التبليغات إلى الموطن المختار لدى الشخص المعين في دمشق, كما يستطيع أن يرفع الدعوى أمام محاكم دمشق باعتبارها المحاكم التي يقع في دائرتها هذا الموطن المختار.
آثار الموطن المختار:
نصت الفقرة الثالثة من المادة 45 على أن:
" الموطن المختار لتنفيذ عمل قانوني يكون هو الموطن بالنسبة إلى كل ما يتعلق بهذا العمل بما في ذلك إجراءات التنفيذ الجبري, إلا إذا اشترط صراحة قصر هذا الموطن على أعمال دون أخرى ".
فالموطن المختار بالنسبة لعمل يشمل أثره إذن كل ما يتعلق بهذا العمل إلا ما استثني صراحة منه.
$وأهم آثار الموطن المختار وهما: الأثران اللذان لاحظناهما في المثال السابق:
1 ـ إن المحكمة التي يقع في دائرتها الموطن المختار تكون مختصة للنظر في الدعاوى المتعلقة بالعمل الذي اختير لأجله هذا الموطن.
2 ـ إن التبليغات القانونية والقضائية المتعلقة بهذا العمل يمكن أن تجري في الموطن المختار بدلاً من الأصلي.
إثبات الموطن المختار:
نصت الفقرة الثانية من المادة /45/ من القانون المدني على أنه:
((لا يجوز إثبات وجود الموطن المختار إلا بالكتابة)).
الفصل الثاني
الشخص الاعتباري
إذا كان كل إنسان في عصرنا يتمتع بالشخصية القانونية التي تؤهله لأن يكون طرفاً موجباً أو سالباً من أطراف الحق، فإن هذه الشخصية لا تثبت للإنسان وحده. بل هناك إلى جانب الإنسان، كشخص طبيعي، شخص من نوع آخر يطلق عليه اسم الشخص الاعتباري أو المعنوي، وهو ينشأ عن تكتل جماعات من الناس حول هدف معين كالجمعيات الخيرية والشركات أو تخصيص مجموعات من الأموال لغرض محدد كالمؤسسات.
وسنحاول فيما يلي دراسة هذا الشخص الاعتباري الذي يؤلف النوع الثاني من الأشخاص أطراف الحق. فندرس أولاً مفهومه وفائدته وطبيعته القانونية ومقومات وجوده، ثم نعرض بعد ذلك الحقوق والخصائص التي يتمتع بها والتي تسلتزمها شخصيته كما نبين أخيراً أنواعه المختلفة وخاصة ما يتصل بالقانون المدني.
وبذلك يتضمن هذا الفصل الفروع التالية:
الفرع الأول: مفهوم الشخصي الاعتباري وطبيعة وجوده
الفرع الثاني: حقوق وخصائص الشخص الاعتباري
الفرع الثالث: أنواع الشخص الاعتباري
الفرع الأول
مفهوم الشخص الاعتباري وفائدته:
الشخص الاعتباري يسمى شخصاً لأنه في نظر القانون بمثابة الشخص العادي من حيث أنه يستطيع أن يكون طرفاً موجباً أو سالباً من أطراف الحق، ولكنه اعتباري أو معنوي لأن شخصيته ليست حقيقية أو طبيعية كشخصية الإنسان1.
وتظهر فائدة فكرة الشخصية الاعتبارية التي تسبغ على مجموعات الأشخاص والأموال من حيث أنها تحقق لهذه المجموعات كياناً مستقلاً قائماً بذاته وتمكنها من إجراء الأعمال والتصرفات القانونية باسمها مباشرة لا باسم أعضائها أو مؤسسيها. فلو لم تكن الجمعية مثلاً شخصاً اعتبارياً لكان من الواجب أن تجرى التصرفات باسم أعضائها جميعاً وأن ترفع الدعاوى من قبل هؤلاء الأعضاء أو عليهم جميعاً و لاختلطت أموال الجمعية بأموال أعضائها واعتبرت جزءاً من ذممهم المالية يستطيع دائنوهم الشخصيون الحجز عليها واستيفاء ديونهم منها وهذا كله يؤدي إلى تعقيد وتشابك كبيرين في معاملات الجمعية وعلاقاتها القانونية لا سبيل إلى تجنبهما إلا بمنحها الشخصية المستقلة
وفكرة الشخصية الاعتبارية تنطوي على شيء من الخطورة التي جعلت المشرع يقف تجاهها موقف الحذر والشك ويعمل على الحد منها وتضييقها وذلك لأن التكتلات التي تنشأ عن اجتماع عدد من الأشخاص قد تؤدي إلى التأثير في الحياة الاجتماعية بل وفي الحياة السياسية نفسها داخل الدولة.
الطبيعة القانونية للشخص الاعتباري:
نستطيع دراسة هذا الموضوع من خلال الثلاث نظريات التالية:
1 - نظرية الافتراض القانوني:
وتقوم هذه النظرية على الاعتقاد بأن الشخصية الطبيعية التي يتمتع بها الإنسان هي وحدها التي تعتبر حقيقة واقعة, أما الشخصية الاعتبارية فليس لها وجود حقيقي وإنما هي مجرد افتراض قانوني مفيد.
فالشخص الذي يصلح أن يكون طرفاً من أطراف الحق هو الكائن ذو الإرادة وليس هنالك من كائن يتمتع بالإرادة الحقيقية سوى الإنسان.
ويتبع ذلك أن أمر الشخصية الاعتبارية منوط بكامله بإرادة المشرع وحده، فالمشرع هو الذي يوجد الشخصية الاعتبارية ويفترضها وإذا لم يقرر المشرع منح هذه الشخصية لمجموعة من الأشخاص أو الأموال فلا يمكن أن تعتبر هذه المجموعة شخصاً اعتبارياً.
والمشرع يستطيع أن يحدد مدى هذه الشخصية الاعتبارية ونشاطها وحقوقها وأهليتها، وهي لا تتمتع من ذلك مبدئياً إلا بمقدار ما يمنحها إياه هذا المشرع.
كما أن المشرع يستطيع أخيراً أن يسلب هذه الشخصية الاعتبارية بعد منحها وأن يمحوها ويزيلها من الوجود.
وقد وجهت لهذه النظرية عدة انتقادات1:
1- إن الأساس الذي قامت عليه هذه النظرية أساس خاطئ فقد اعتبرت أن الشخص من الوجهة القانونية هو الكائن ذو الإرادة ورفضت بالتالي اعتبار الشخص الاعتباري شخصاً حقيقياً لعدم توافر هذه الإرادة، بينما نجد أن عنصر الإرادة ليس ضرورياً لاكتساب الشخصية، فالمجنون والصغير متمتعان بالشخصية الكاملة بالرغم من انعدام إرادتهما.
2- إن هذه النظرية تبدو غير صحيحة عندما نفسر بها كيف اكتسبت الدولة شخصيتها الاعتبارية، فلا نستطيع أن نقول أن المشرع هو الذي منحها إياها، لأن الدولة تتمتع بهذه الشخصية من قبل أن يوجد المشرع وهذا يناقض ما تراه هذه النظرية.
3- إن هذه النظرية تؤدي إلى منح الدولة سلطات مطلقة للتحكم في أمر الشخص الاعتباري وهذا من شأنه التضييق والحد من انتشار هذا الشخص الاعتباري الذي تزداد أهميته وضرورته بصورة مستمرة في عصرنا الحاضر.
2 - نظرية الشخصية الحقيقية:
إن الشخص الاعتباري بحسب هذه النظرية ليس مجرد وهم وافتراض لا يقوم إلا بإرادة المشرع، وإنما هو حقيقة واقعة تفرض نفسها على المشرع نفسه وتعتبر موجودة من تلقاء ذاتها دون أن تنتظر منه الاعتراف بوجودها وقد سلك أنصار هذه النظرية في تبرير هذه النظرية مذهبين وهما:
1- مذهب الإرادة المشتركة:
ويرى فقهاء هذا المذهب أن تعريف الشخص بحسب المذهب الفردي على أنه الكائن ذو الإرادة لا ينطبق فقط على الإنسان وحده وإنما ينطبق أيضاً على الشخص الاعتباري الذي يتمتع بالإرادة الحقيقية كما يتمتع بها الشخص الطبيعي.
فالشخص الاعتباري له كيان قائم بذاته وإرادة مستقلة هي الإرادة المشتركة لمجموع أعضائه. وهذه الإرادة المشتركة ليست إرادة كل منهم ولا مجموع إرادتهم، وإنما هي إرادة خاصة بالشخص الاعتباري تختلف عن كل إرادة سواها.
2- مذهب المصالح المشتركة:
انطلق أنصار هذا المذهب من تعريف للحق يختلف عن تعريف أصحاب المذهب الفردي, فالحق ليس القدرة الإرادية وإنما هو مصلحة مشروعة يحميها القانون فحيثما توجد مصلحة مشروعة يكون هنالك حق لصاحب هذه المصلحة ويكون صاحب هذه المصلحة نفسه شخصاً من الأشخاص باعتباره صاحب حق أو طرفاً من أطرافه.
غير أن المصالح القائمة في المجتمع ليست كلها مصالح فردية تعود إلى الشخص الطبيعي وإنما هنالك أيضاً مصالح مشتركة يحرص على تحقيقها الشخص الاعتباري وهذه المصالح المشتركة ليست عبارة عن مجموع المصالح الفردية للأشخاص الذين يؤلفون الشخص الاعتباري, وإنما هي مصالح خاصة بهذا الشخص الاعتباري نفسه ومتميزة عن مصالح أفراده بل هي قد تخالف مصالح هؤلاء الأفراد أحياناً وتناقضها.
وما دامت هنالك مصالح مشتركة فيجب أن تكون لمجموعة الأشخاص أو الأموال التي تعود إليها هذه المصالح شخصية مستقلة كشخصية الإنسان التي تقتضيها المصالح الفردية وعلى هذا فإن الشخصية الاعتبارية والشخصية الطبيعية ليس بينهما اختلاف لأن كلاً منهما تبنى على فكرة المصلحة.
والنتيجة الرئيسية التي تسعى هذه النظرية للوصول إليها هي الاعتراف بوجود الشخصية الاعتبارية بمجرد توافر عناصرها دون أن يتوقف ذلك على إرادة المشرع.
3 - نظرية الملكية المشتركة:
لا تستهدف هذه النظرية إيجاد تفسير لطبيعة الشخص الاعتباري وإنما هي تنفي وجود هذا الشخص من أساسه وتعتبره مفهوم غير ضروري يمكن الاستغناء عنه.
فبرأي أصحاب هذه النظرية أن فكرة الشخص الاعتباري قد افتُرضت لكي يمكن أن تسند إلى هذا الشخص الأموال المخصصة لغرض معين.
وقد بين أصحاب هذه النظرية أن فكرة الملكية المشتركة التي يأخذون بها في هذا المجال هي فكرة مختلفة عن الملكية الفردية من جهة وعن الملكية الشائعة من جهة ثانية ففي الملكية الفردية يستطيع المالك أن يتصرف بأمواله وفي الملكية الشائعة يستطيع المالك أيضاً أن يتصرف في حصته الشائعة كما يستطيع أن يطالب بقسمة المال لإنهاء حالة الشيوع والاستعاضة عنها بالملكية الفردية، أما في الملكية المشتركة فليس لأحد من المالكين شيء من ذلك1.
وقد وجهت عدة انتقادات لهذه النظرية أهمها:
أ- أخطأت هذه النظرية حين اقتصرت في نظرها إلى الشخص الاعتباري على ناحيته المالية فقط، ولم تجد فيه إلا مالكاً لمجموعة من الأموال.
ب- لو فرضنا أنه من الممكن الاستعاضة عن فكرة الشخص الاعتباري بفكرة الملكية المشتركة فإن هذه الفكرة الأخيرة نفسها غامضة وغير واقعية, إذ كيف نستطيع أن نخص أو نحدد الأشخاص المالكين ملكية مشتركة للأموال التي تخصص لغرض معين.
ج - إن التخلي عن فكرة الشخص الاعتباري والاستعاضة عنها بفكرة الملكية المشتركة يعني التخلي عن جميع المزايا والفوائد التي تبنى على الاعتراف بوجود هذا الشخص الاعتباري.
مقومات الشخص الاعتباري ووجوده
مقومات الشخص الاعتباري:
لكل شخص اعتباري سواء اعتبرناه حقيقة واقعة أو مجرد افتراض قانوني مقومات لا يتم كيانه ووجوده بدونها وهذه المقومات هي:
أولاً: وجود مجموعة من الأشخاص كما في الجمعيات مثلاُ أو مجموعة من الأموال كما في المؤسسات.
ثانياً: أن يكون لهذه المجموعة من الأشخاص أو الأموال غرض ثابت معين يتكتل حوله أفراد المجموعة أو ترصد الأموال لتحقيقه ويجعل من هذه المجموعة وحدة متماسكة تشكل كياناً قائماً بذاته.
ثالثاً: أن تكون لهذه المجموعة من الأشخاص أو الأموال تنظيم خاص تعين بموجبه الهيئة أو الهيئات التي تمثلها وتعبر عن إرادتها وتعمل باسمها ولحسابها وبدون هذا التنظيم لا تستطيع هذه المجموعة من الأشخاص أو الأموال الدخول في الحياة القانونية وإجراء التصرفات بصورة مستقلة.
نشوء الشخص الاعتباري وزواله:
إن هذا النشوء يتم بعمل إرادي يتبعه إعلان وشهر ويتخلله تدخل من قبل الدولة في كثير من الأحيان1.
1-دور الإرادة في إنشاء الشخص الاعتباري:
بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة تكون الإرادة التي تؤدي إلى إنشائها هي إرادة المشرع.
وأما بالنسبة للأشخاص الاعتبارية الخاصة فالإرادة الفردية هي العنصر الأساسي في إنشائها، وذلك لأن هذه الأشخاص الاعتبارية إما أن تكون عبارة عن مجموعة من الأشخاص يتكتلون حول غرض معين أو تكون مجموعة أموال ترصد لهدف ما.
وقد تسبق نشوء الشخص الاعتباري أحياناً مرحلة تمهيدية أو تأسيسية تستلزم القيام ببعض الإجراءات القانونية المؤدية لتكوين الشخص الاعتباري.
وتظهر ضرورة هذه المرحلة بصورة خاصة في الشركات المساهمة حيث لا بد فيها من طرح الأسهم على الاكتتاب الشعبي وإجراء بعض النفقات الضرورية ويعتبر أن الأموال التي تجمع في هذه الحالة والنفقات التي تبذل تعود للشخص الاعتباري مباشرة الذي هو في دور التكوين وتتم لحسابه.
2 ـ الإعلان والشهر:
يكون الإعلان والشهر بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة بنشر التشريع الذي يقضي بإنشائها في الجريدة الرسمية وفقاً للمبدأ العام في نشر التشريعات، وأما بالنسبة للأشخاص الاعتبارية الخاصة فيكون الشهر عادة بتسجيل هذه الأشخاص في سجلات رسمية خاصة بها بحسب كل نوع منها.
ويختلف مفعول شهر الأشخاص الاعتبارية الخاصة باختلاف النظام القانوني المتبع ومدى أخذه بمبدأ حرية تكوين الشخص الاعتباري أو تقييده لهذه الحرية.
فبالنسبة للأنظمة التي تأخذ بحرية إنشاء الشخص الاعتباري لا يعتبر الشهر شرطاً لنشوء هذا الشخص وإنما هو شرط لإمكان الاحتجاج بشخصيته تجاه الغير فقط.
ـ أما بالنسبة للأنظمة التي تقيد حرية إنشاء الشخص الاعتباري فالشهر هو إحدى الوسائل التي تحقق تدخل الدولة و مراقبتها في هذا المجال وهو شرط أساسي لنشوء هذا الشخص واكتسابه الشخصية القانونية.
3 ـ تدخل الدولة:
إن تدخل الدولة بالنسبة لإنشاء الأشخاص الاعتبارية أمر بديهي لأن هذه الأشخاص لا تنشأ إلا بتشريع يعبر عن موافقة الدولة على إحداثها أو عن موافقة المشرع في هذه الدولة.
زوال الشخص الاعتباري:
بما أن الأشخاص الاعتبارية العامة لا تنشأ إلا بنص تشريعي فهي لا تزول إلا بنص تشريعي مماثل يعبر فيه المشرع عن إرادته في إزالتها وسلبها الشخصية القانونية.
أما الأشخاص الاعتبارية الخاصة فتزول إما بصورة طبيعية أو بصورة اختيارية أو إجبارية.
فالشخص الاعتباري يزول بصورة طبيعية إذا فقد أحد عناصره أو مقوماته الأساسية.
ويزول بصورة اختيارية ( إذا كان مجموعة الأشخاص) باتفاق مجموع أعضاءه على حله أو $باتفاق أغلبية معينة منهم يحددها القانون أو يحددها النظام الأساسي للشخص الاعتباري وفقاً لأحكام القانون.
وهو يزول بصورة إجبارية إما بتشريع أو بقرار إداري بالنسبة لبعض أنواع الأشخاص الاعتبارية كالجمعيات والمؤسسات, أو بحكم قضائي تصدره المحكمة المختصة في الأحوال وبالشروط التي يحددها القانون ومن أهم الحالات التي تدعو إلى حل الشخص الاعتباري خروجه عن أهدافه أو عجزه عن الوفاء بتعهداته أو ممارسته نشاطاً مخالفاً للنظام العام والآداب.
وحين يزول الشخص الاعتباري تصفى ذمته المالية وتعتبر شخصيته بحكم المستمرة ريثما تتم أعمال التصفية.
الفرع الثاني
حقوق وخصائص الشخص الاعتباري
تعداد حقوق وخصائص الشخص الاعتباري1:
نصت المادة / 55/ من القانون المدني:
((1- الشخص الاعتباري يتمتع بجميع الحقوق إلا ما كان منها ملازماً لصفة الإنسان الطبيعية وذلك في الحدود التي قررها القانون:
2- فيكون له:
أ. ذمة مالية مستقلة.
ب. أهلية في الحدود التي يعينها سند إنشائه أو التي يقررها القانون.
جـ - حق التقاضي.
د – موطن مستقل.
3- ويكون له نائب يعبر عن إرادته )).
ففيما عدا الحقوق الملازمة لصفة الإنسان الطبيعية كحقوق الأسرة مثلاً, فإن الشخص الاعتباري يتمتع بكافة الحقوق والخصائص التي يتمتع بها الشخص الطبيعي والتي تستلزمها شخصيته القانونية.
اسم الشخص الاعتباري:
بما أن الشخص الاعتباري يتمتع بشخصية مستقلة وكيان قائم, فلا بد للشخص الاعتباري من اسم يساعد على تعينه وتميزه ويستطيع هذا الشخص الاعتباري بواسطته إجراء الأعمال والتصرفات القانونية2.
ويختلف اسم الشخص الاعتباري عن اسم الشخص العادي من حيث عدم وجود لقب أو اسم عائلي يدخل في تكوينه وهو يستمد غالباً من غايته أو غرضه الذي أنشئ لأجله أو من أسماء مؤسسيه أو غير ذلك من الاعتبارات المختلفة.
ولا يحد من حرية مؤسسي الشخص الاعتباري في اختيارهم لاسمه سوى ضرورة عدم مخالفة هذا الاسم للنظام العام.
ويتمتع الشخص الاعتباري بالحماية القانونية التي يتمتع بها الشخص الطبيعي.
ويمكن تغيير اسم الشخص الاعتباري على أن تغييره يعتبر بمثابة تعديل لنظام الشخص الاعتباري الذي حدد فيه اسمه ويجب أن يتم وفقاً للأصول القانونية التي يمكن أن يجري بها هذا التعديل.
جنسية الشخص الاعتباري:
اختلف الفقهاء حول إمكان تمتع الشخص الاعتباري بالجنسية أو عدم إمكان ذلك، فالبعض يرى أن الجنسية لا تثبت إلا للشخص الطبيعي باعتبار أن هذه الجنسية هي رابطة تربط بين الدولة ورعاياها، والشخص الاعتباري عبارة عن تركيب قانوني وليس فرداً من الأفراد وقد يخضع هذا الشخص الاعتباري لقوانين دولة من الدول دون أن يكتسب جنسيتها.
ويرى بعض الفقهاء أنه ما دام لا بد من وجود رابطة ما تربط بين الشخص الاعتباري ودولة من الدول تجعله خاضعاً لأنظمتها وقوانينها، فليس هنالك ما يمنع من أن نطلق على هذه الرابطة اسم الجنسية.
$وقانوننا المدني لم يشر إلى أي شيء من ذلك بحسب المادة السابقة ولكن قانون التجارة السوري قد اعترف بهذه الجنسية.
فقد نصت المادة /99/ من القانون التجاري على أن: (( جميع الشركات التي تؤسس في سورية تكون جنسيتها سورية رغم كل نص مخالف )).
$ على أن هنالك نص تضمه الفقرة 2 من المادة 12من القانون المدني يقضي بأن:
(( النظام القانوني للأشخاص الاعتبارية الأجنبية، من شركات وجمعيات ومؤسسات وغيرها، يسري عليه قانون الدولة التي اتخذت فيها هذه الأشخاص مركز إدارتها الرئيسي الفعلي، ومع ذلك فإذا باشرت نشاطها الرئيسي في سورية، فإن القانون السوري هو الذي يسري)).
وحاول بعض الفقهاء أن يستخلصوا أن الشخص الاعتباري يكتسب جنسية الدولة التي يتخذ فيها مركز إدارته، بينما رأى غيرهم أن جنسية الشخص الاعتباري تحدد تبعاً للدولة التي يؤسس فيها ولو مارس أعماله ونشاطه واتخذ مركز إدارته خارج هذه الدولة.
الذمة المالية للشخص الاعتباري:
للشخص الاعتباري ذمة مالية مستقلة تتألف من مجموع حقوقه والتزاماته الحاضرة والمستقبلة التي يمكن تقويمها بالمال1.
والذمة المالية من أهم خصائص الشخص الاعتباري ولها فائدة كبيرة من حيث أنها تؤدي إلى الفصل بين أمواله والتزاماته من جهة وأموال أعضائه أو مؤسسيه من جهة ثانية.
فأموال الشخص الاعتباري تعود إلى هذا الشخص الاعتباري نفسه لا إلى أعضائه، وبذلك لا يستطيع دائنو هؤلاء الأعضاء، ما دام الشخص الاعتباري قائماً الحجز على أمواله واستيفاء ديونهم منها ولو تم دفعها إليه من قبل مدينهم أو حتى ولو كان هؤلاء المدينون قد ساهموا بها في رأسماله، ففي الجمعية مثلاً تعتبر الأموال التي تقدم إليها من قبل أعضائها ملكاً لهذه الجمعية نفسها وجزءاً من ذمتها المالية ولا يعود للأعضاء أية علاقة بهذه الأموال التي قدموها كما لا يكون لدائنيهم أية سلطة عليها.
وإن الأموال التي يساهم بها الشركاء في الشركة تعد ملكاً للشركة وجزءاً من ذمتها المالية ولا يكون للشريك سوى حصة في رأسمالها ولكنه لا يملك ما يقابل هذه الحصة من رأس المال خلال وجود الشركة بل تملكه هذه الشركة نفسها, وأما حصة الشريك فتخوله اقتسام أموال الشركة وموجوداتها بما يعادل هذه الحصة بعد حل الشركة وتصفيتها أو انسحابه منها.
وأما بالنسبة لالتزامات الشخص الاعتباري فهي تقع عليه وحده دون أن يشاركه في تحملها أحد إلا في شركات التضامن حيث يعتبر الشركاء المتضامنون مسؤولون بأموالهم الشخصية عن ديون الشركة.
وتترتب على الذمة المالية للشخص الاعتباري نفس الآثار والنتائج التي تنجم عن الذمة المالية للشخص الطبيعي.
موطن الشخص الاعتباري:
موطن الشخص الاعتباري، كجميع الخصائص التي تتصل بشخصيته، فمن الضروري أن يكون له موطن يحدد مكان وجوده من الوجهة القانونية, وتترتب عليه نفس الآثار التي تترتب على الموطن بصورة عامة كتعيين المحاكم المختصة مكانياً للنظر في الدعاوى التي ترفع عليه أو التبليغات الموجهة إليه.
وتعتبر المادة /55/ من القانون المدني أن موطن الشخص الاعتباري بصورة عامة هو: (( المكان الذي يوجد فيه مركز إدارته والشركات التي يكون مركزها الرئيسي في الخارج ولها نشاط في سورية يعتبر مركز إدارتها بالنسبة إلى القانون الداخلي المكان الذي توجد فيه الإدارة المحلية))
ويمكن أن ترفع الدعاوى من الشخص الاعتباري أو عليه بحسب المادة /83/ من قانون أصول المحاكمات (( إلى المحكمة التي يقع في دائرتها فرع الشركة أو الجمعية وذلك في المسائل المتصلة بهذا الفرع)).
وليس هنالك ما يمنع من وجود موطن مختار يتخذه الشخص الاعتباري بإرادته بالنسبة لعمل معين من الأعمال وله نفس الآثار التي تتعلق بالموطن المختار للشخص الطبيعي.
أهلية الشخص الاعتباري:
أهلية الشخص الطبيعي فيما عدا بعض الاستثناءات، مطلقة غير محدودة إذ أنها تخوله اكتساب جميع أنواع الحقوق وممارسة مختلف أنواع التصرفات أما أهلية الشخص الاعتباري فلا تثبت له إلا ضمن الحدود التي يعينها سند إنشائه أو التي يقررها القانون بالإضافة إلى القيود التي تنجم عن طبيعته الخاصة من حيث عدم توافر الصفة الإنسانية فيه1.
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن الشخص الاعتباري لا يتمتع من الأهلية إلا بما يمنحه القانون منها، وأما الفقهاء المعاصرون فيعتبرون أن الأصل لدى الشخص الاعتباري هو وجود الأهلية وأن مهمة القانون ليست تعيين ما يتمتع به منها وإنما تحديد ما لا يتمتع به,
على أن القيود التي تحد من أهلية الشخص الاعتباري هي غير ضئيلة وهذه القيود تصيب أهلية الوجوب لديه كما تصيب أهلية الأداء، لأن عدم أهلية الشخص الاعتباري لاكتساب بعض الحقوق تجعله في نفس الوقت غير أهل لإجراء التصرفات المتعلقة بها.
وتقييد أهلية الشخص الاعتباري تنشأ:
إما بسبب عدم ملائمة هذه الحقوق والتصرفات لطبيعته الخاصة.
أو بسبب منافاة هذه الحقوق والتصرفات للغرض الذي أنشئ هذا الشخص لتحقيقه وتخصص به.
نائب الشخص الاعتباري ودوره في التعبير عن إرادته:
أهلية الأداء التي يتمتع بها الشخص الاعتباري تجعله قادراً على مباشرة الأعمال والتصرفات وإجرائها بنفسه.
غير أنه لا يوجد له وجود مادي محسوس كالشخص الطبيعي فهو لذلك لا يستطيع إجراء هذه الأعمال والتصرفات إلا بواسطة من ينوب عنه أو يمثله من الأشخاص الطبيعيين.
وقد اختلف الفقهاء في تحديد طبيعة نائب الشخص الاعتباري وممثله سواء أكان هيئة من الهيئات أو شخصاً من الأشخاص الطبيعيين.
فبعضهم ذهب إلى أن النائب عن الشخص الاعتباري هو كالنائب الشرعي لعديمي الأهلية وناقصيها من الأشخاص الطبيعيين، بينما يرى بعضهم الآخر أن هذا النائب ليس سوى عضو من أعضاء الشخص الاعتباري أو جهاز من أجهزته, وأن مهمته تقتصر على إظهار إرادة الشخص الاعتباري والتعبير عنها.
وإن الرأي الثاني هو السائد حالياً بحسب المادة /55/ من القانون المدني فنصت على أن للشخص الاعتباري ((نائب يعبر عن إرادته)).
فالأفعال الضارة التي يرتكبها ممثل الشخص الاعتباري باسمه (كانتحال علامة فارقة), تعتبر مرتكبة من قبل هذا الشخص مباشرة ويلتزم الشخص الاعتباري بالتعويض عنها أي أن الشخص الاعتباري يكون مسؤولاً من الوجهة المدنية على أساس أنه هو الذي أرتكب هذا الفعل لا على أساس أن الفعل قد ارتكب من أحد تابعيه.
حق التقاضي بالنسبة للشخص الاعتباري:
يعتبر هذا الحق من أبرز حقوق الشخص الاعتباري إذ هو الذي يمكنه من المثول أمام القضاء كمدع أو مدعى عليه باسمه الشخصي، وبصورة مستقلة عن مؤسسيه أو أعضائه, ولو لم يعترف له بهذا الحق لكان من الواجب أن ترفع الدعاوى المتعلقة به باسم أعضائه جميعاً أو عليهم جميعاً دون أن يكون للشخص الاعتباري كشخص مستقل حق المثول فيها.
ويمثل الشخص الاعتباري في الدعاوى التي ترفع باسمه أو عليه نائبه الذي يعمل لحسابه ويحق له تمثيله من الوجهة القضائية كما يحق للنائب أن يقوم بالإقرار عن الشخص الاعتباري أو حلف اليمين.
الفرع الثالث
أنواع الأشخاص الاعتبارية:
$جاء ذكر ذلك في المادة /54/ من القانون المدني على الشكل التالي:
((الأشخاص الاعتبارية هي:
1- الدولة والمحافظات والبلديات بالشروط التي يحددها القانون، والمؤسسات العامة وغيرها من المنشآت التي يمنحها القانون شخصية اعتبارية.
2- الهيئات والطوائف التي تعترف لها الدولة بشخصية اعتبارية.
3- الأوقاف.
4- الشركات المدنية والتجارية.
5- الجمعيات والمؤسسات المنشأة وفقاً للأحكام التي ستأتي فيما بعد.
6- كل مجموعة من الأشخاص أو الأموال تثبت لها الشخصية الاعتبارية بمقتضى نص القانون))
وإن هذا التعداد حصري وإن الشخصية الاعتبارية لا تثبت إلا للأنواع المذكورة فيه1.
$ويلاحظ: أن الأنواع المذكورة تقسم إلى فئتين: أشخاص اعتبارية عامة وأشخاص اعتبارية خاصة.
الأشخاص الاعتبارية العامة:
هي الدولة والمحافظات والبلديات والمؤسسات العامة التي يرى المشرع أن يعترف لها باستقلال ذاتي وميزانية خاصة يساعدانها على تحقيق أهدافها.
الأشخاص الاعتبارية الخاصة:
هي الهيئات والطوائف التي تعترف لها الدولة بشخصية اعتبارية و الأوقاف والشركات المدنية والتجارية والجمعيات والمؤسسات.
الجمعيات:
كان القانون المدني السوري قد خصص بعض مواده لتنظيم أحكام الجمعيات والمؤسسات، غير أن هذه المواد ألغيت بالمرسوم التشريعي رقم/ 93/ لعام 1958 كما ألغيت أيضاً بعض القوانين الخاصة الأخرى المتعلقة بهذا الموضوع.
تعريف الجمعية:
عرفتها المادة /56/ من القانون المدني بأنها ((جماعة ذات صفة دائمة مكونة من عدة أشخاص طبيعية أو اعتبارية لغرض غير الحصول على ربح مادي)).
$أما قانون الجمعيات فيعرفها بأنها: ((جماعة ذات تنظيم مستمر تتألف من أشخاص طبيعية أو اعتبارية لغرض غير الحصول على ربح مادي)).
ومنه نرى أن مفهوم الجمعية يرتكز على:
1- وجود مجموعة من الأشخاص تتألف منهم الجمعية.
2- أن يكون للجمعية غرض مشروع هو غير الحصول على ربح مادي.
3- أن يكون للجمعية تنظيم مستمر.
نشوء الجمعية وبدء شخصيتها الاعتبارية:
لا بد لنشوء الجمعية بحسب قانون الجمعيات من اتفاق مؤسسيها على إنشائها ووضع نظام مكتوب موقع من قبلهم ومن شهر نظامها بتسجيله لدى الجهات الإدارية المختصة1.
ويجب أن يشتمل نظامها المكتوب على ما يلي:
1- اسم الجمعية والغرض منها ومركز إدارتها على أن يكون هذا المركز في قطرنا.
2- اسم كل من الأعضاء المؤسسين ولقبه وسنه وجنسيته ومهنته وموطنه.
3- موارد الجمعية وكيفية استغلالها والتصرف فيها.
4- الهيئات التي تمثل الجمعية واختصاصات كل منها وتعيين الأعضاء الذين تتكون منهم وطرق عزلهم.
5- حقوق الأعضاء و واجباتهم.
6- طرق المراقبة المالية.
7- كيفية تعديل نظام الجمعية وكيفية إدماجها أو تقسيمها أو تكوين فروع لها.
8- قواعد حل الجمعية والجهة التي تؤول إليها أموالها.
أما الشهر فلم يكن يعتبر بحسب القانون المدني شرطاً لاكتساب الجمعية الشخصية الاعتبارية، ولكن لا يحتج بهذه الشخصية قبل الغير إلا بعد أن يتم شهر نظام الجمعية وأما بحسب قانون الجمعيات فالشهر شرط لاكتساب الجمعية الشخصية الاعتبارية.
ويتم شهر نظام الجمعية بمجرد قيده في السجل وتقوم الجهة المختصة بشهره خلال ستين يوماً من تاريخ طلبه فإذا لم يتم ذلك اعتبر الشهر واقعاً بحكم القانون.
وللجهة الإدارية حق رفض الشهر بقرار تصدره خلال المدة المحددة.
إدارة الجمعية وأعمالها:
يتولى إدارة الجمعية نوعان من الهيئات هما: الهيئة العامة ومجلس الإدارة ؟
وتتألف الهيئات العامة من جميع الأعضاء العاملين الذين وفوا بالتزاماتهم المفروضة عليهم $ومضى على عضويتهم مدة سنة1. وأما مجلس الإدارة فيحدد نظام الجمعية، اختصاصه وطرق تعيين أعضائه وانتهاء عضويتهم.
وقد فرض القانون بعض القيود على أهلية الجمعيات في اكتساب الحقوق وإجراء التصرفات, فنص على أنه ((لا يجوز أن تكون للجمعية حقوق ملكية أو أية حقوق أخرى على عقارات إلا بالقدر الضروري لتحقيق الغرض الذي أنشئت من أجله، كما يحظر على الجمعية أن تحتفظ برصيد نقدي يزيد على ثلاثة أمثال المصروفات السنوية للإدارة إلا بإذن من الجهة الإدارية المختصة )).
وللقضاء حق الرقابة على أعمال الجمعية إذ نص القانون على أن كل قرار من الهيئة العامة أو مجلس الإدارة يصدر مخالفاً للقانون يجوز إبطاله.
كما يحق للجهة الإدارية المختصة في حال الاستعجال وقف العمل بأي قرار يصدر عن مجلس إدارة الجمعية أو هيئتها العامة إذا كان مخالفاً للقانون أو للنظام العام.
زوال الجمعية وتصفية أموالها:
يجوز حل الجمعية اختيارياً أو إجبارياً.
أما الحل الاختياري:
فهو من اختصاص الهيئة العامة ويقرر بأغلبية ثلثي أعضائها ما لم يرد في النظام نص يشترط أغلبية أكثر من ذلك.
أما الحل الإجباري:
فيفرض بقرار مسبب من وزير الشؤون الاجتماعية والعمل ويكون قرار حل الجمعية قطعياً وغير قابل لأي طريق من طرق المراجعة وحل الجمعية يؤدي إلى زوالها
الجمعيات ذات النفع العام:
وهي الجمعية التي تهدف إلى تحقيق مصلحة عامة يصدر مرسوم جمهوري باعتبارها كذلك.
وتختلف الجمعية عن غيرها من ناحيتين:
فهي تستثنى من قيود الأهلية المتعلقة بتملك الأموال والعقارات كما أنه من الممكن أن تمنح بعض امتيازات السلطة العامة كعدم جواز الحجز على أموالها وجواز قيام الجهة الإدارية المختصة بنزع الملكية للمنفعة العامة التي تقوم بها الجمعية.
غير أنها تخضع بالمقابل لرقابة أشد وتدخل أقوى من قبل الدولة في أعمالها وأمورها.
الشــــركات:
وهي (( جماعة من الأشخاص يضمون جهودهم لتحقيق ربح مالي)).
وغرض الربح يميز الشركة عن الجمعية.
وهنالك نوعان من الشركات: مدنية وتجارية وهي تتمتع جميعاً بالشخصية الاعتبارية ما عدا شركات المحاصة لأن كيانها منحصر بين المتعاقدين وبأنها غير معدة لإطلاع الغير عليها.
والشركات التجارية على أنواع:
فهي إما أن تكون شركات تضامن (تعمل تحت عنوان معين لها وتؤلف ما بين شخصين أو عدة أشخاص مسؤولين بصفة شخصية وبوجه التضامن عن ديون الشركة ) أو شركات مساهمة مغفلة (عارية عن العنوان وتؤلف بين عدد من الأشخاص يكتتبون بأسهم أي أسناد قابلة للتداول " أو شركات محدودة المسؤولية (لا يسأل الشريك فيها إلا بمقدار حصته في رأس المال ولا يقسم رأس المال فيها إلى أسهم)
نشوء الشركة وبدء شخصيتها الاعتبارية:
تنشأ الشركة بصورة عامة بعقد مكتوب يتفق فيه على تكوينها، على أن بعض أنواع الشركات لا بد لها من الحصول على ترخيص إداري1.
ويعتبر القانون المدني الكتابة شرطاً أساسياً في عقد الشركة فإذا لم يكن هذا العقد مكتوباً اعتبر باطلاً على أن البطلان في هذه الحالة لا يمكن الاحتجاج به قبل الغير، بمعنى أن الغير يستطيع أن يتمسك ببطلان الشركة التي أنشئت بعقد غير مكتوب ولكن الشركاء لا يستطيعون أن يحتجوا تجاه الغير بذلك.
(وتعتبر الشركة بمجرد تكوينها شخصاً اعتبارياً ولكن لا يحتج بهذه الشخصية على الغير إلا بعد استيفاء إجراءات النشر التي يقررها القانون، ومع ذلك للغير إذا لم تقم الشركة بإجراءات النشر المقررة أن يتمسك بشخصيتها).
إدارة الشركة وأعمالها:
يقوم بإدارة الشركة مديرها وفقاً للأحكام الخاصة بكل نوع من أنواع الشركات.
زوال الشركة وتصفية أموالها:
ويمكن إجمال ذلك بما يلي:
1- انقضاء الميعاد المعين للشركة و انتهاء العمل الذي قامت من أجله.
2- هلاك جميع مال الشركة أو جزء كبير منه.
3- انسحاب أحد الشركاء من الشركة إذا كانت مدتها غير معينة أو أصابته بعارض من عوارض الأهلية أو إعساره أو إفلاسه وذلك بالنسبة لشركات الأشخاص فقط.
4- موت أحد الشركاء بالنسبة لشركات الأشخاص دون شركات الأموال.
5- اتفاق الشركاء على حل الشركة, أما الشركات المساهمة فيقرر حلها من قبل الهيئة العامة وفقاً لشروط القانون.
6- صدور حكم قضائي بحل الشركة.
وانقضاء الشركة يستوجب تصفية أموالها وإيفاء الالتزامات المترتبة عليها ويوزع الباقي على الشركاء.
المــــــؤسسـات
تعريف المؤسسة:
هي: (شخص اعتباري ينشأ بتخصيص مال مدة غير معينة لعمل ذي صفة إنسانية أو دينية أو علمية أو فنية أو رياضية أو لأي عمل آخر من أعمال البر والرعاية الاجتماعية أو النفع العام دون قصد إلى ربح مادي)1.
وتختلف المؤسسة عن الجمعية والشركة في أنها مجموعة أموال لا أشخاص.
نشوء المؤسسة وبدء شخصيتها الاعتبارية:
$نص القانون على أن: (( إنشاء المؤسسة يكون بسند رسمي أو وصية ".
ويعتبر هذا السند دستوراً للمؤسسة ويجب أن يشتمل على البيانات التالية2:
1- اسم المؤسسة ومركزها على أن يكون هذا المركز في الجمهورية العربية السورية.
2- الغرض الذي أنشئت لتحقيقه.
3- بيان دقيق للأموال المخصصة لهذا العمل.
4- تنظيم إدارة المؤسسة بما في ذلك اسم مديرها.
5- البيانات الأخرى التي يصدر بتعيينها قرار من الجهة المختصة.
ولا تكتسب المؤسسة الشخصية الاعتبارية بحسب قانون الجمعيات والمؤسسات الخاصة إلا بعد أن يتم شهرها وفقاً لأحكام هذا القانون.
((ويعتبر إنشاء المؤسسة بالنسبة إلى دائني المنشئ وورثته هبة أو وصية فإذا كانت المؤسسة قد أنشأت إضرارا بحقوقهم جاز لهم مباشرة الدعاوى التي يعتمدها القانون في مثل هذه الحالة بالنسبة للهبات والوصايا)).
أي يجوز لهؤلاء الدائنين أو الورثة إبطال التصرف المنشئ للمؤسسة إذا توافرت لديهم الأسباب القانونية التي تخولهم ذلك.
كما يجوز لمن أنشأ المؤسسة بسند رسمي أن يعدل عنها بسند رسمي آخر على أن يتم هذا العدول قبل شهر المؤسسة.
إدارة المؤسسة وأعمالها:
ليس للمؤسسة أعضاء يشكلون هيئتها العامة أو يقومون بانتخاب مجلس إدارتها وإنما هي عبارة عن مجموعة أموال يعين لها مدير أو أكثر لتولي أمورها وتسيير أعمالها وتمثيلها من الوجهة القانونية.
زوال المؤسسة وتصفية أموالها:
بالرغم من أن القانون يساوي بين الجمعية والمؤسسة من حيث الحل والتصفية فإنه من الواضح أن الحل الاختياري لا يمكن وقوعه بالنسبة للمؤسسة لعدم وجود هيئة عامة لها يعود إليها أمر تقريره.
لهذا فلا يطبق على المؤسسة إلا الحل الإجباري الذي يطبق بالنسبة للجمعية كما أن تصفيتها وتوجيه الفائض عن أموالها بعد التصفية إنما يخضع لنفس الأحكام التي تخضع لها الجمعيات في هذا الشأن.
الأوقـــــاف:
تعريف الوقف:
بحسب الشريعة الإسلامية هو: (حبس العين على حكم ملك الله تعالى والتصدق بالمنفعة) ومعنى ذلك أن الأعيان أو الأموال الموقوفة تخرج عن ملكية الواقف لا إلى مالك جديد وإنما تعتبر كأنها أصبحت على حكم ملك الله تعالى.
أما المستحقون من الوقف فلا يملكون الأموال المرصدة لأجله بل يقتصر حقهم على الاستفادة من منافعها.
والأصل أن الوقف مؤبد أي أن منافعه يجب أن تؤول ابتداء وانتهاء إلى جهة بر لا تنقطع وقد تخصص هذه المنافع ابتداء إلى أشخاص معينين ثم تؤول من بعدهم إلى جهة بر لا تنقطع كما في الأوقاف الذرية التي توقف أولاً على ذرية الواقف ثم تؤول بعد انقراض المستحقين إلى جهة من جهات البر.
ويلاحظ أن المرسوم التشريعي رقم /76/ لعام 1949 قد ألغى الوقف الذري ومنع إنشاءه.
نشوء الوقف وبدء شخصيته الاعتبارية:
ينشأ الوقف بتصرف إرادي يعبر فيه الواقف عن إرادته الحازمة في إنشائه.
ويرى أغلب الفقهاء أن المال الموقوف يجب أن يكون عقاراً أو منقولاً تابعاً للعقار الموقوف أو متعارفاً على وقفه.
أما الشخصية الاعتبارية فلم يعترف بها بشكل واضح لدى جميع المذاهب بل أن فقهاء المذهب الحنفي يرون بأن الوقف لا ذمة له غير أن الأحكام الشرعية التي تطبق على الوقف توحي بوجود شخصية مستقلة له وهذا ما دعا قانوننا المدني للاعتراف صراحة بهذه الشخصية.
إدارة الوقف وأعماله:
يكون للوقف متول أو ناظر يمثله ويدير شؤونه وهو يعين في الأصل بحسب الشروط التي حددها الواقف فإذا لم يوجد من تتوافر فيه هذه الشروط انتقلت النظارة أو التولية إلى مديرية الأوقاف أو عين القاضي المتولي الذي يصلح لهذه المهمة.
زوال الوقف وتصفية أمواله:
بالنسبة للوقف المؤقت الذي أخذ به القانون المصري فإنه ينقضي بانتهاء مدته أو انقراض الموقوف عليهم.
أما الوقف المؤبد فلا يمكن زواله مهما مر عليه من زمن.
كما يمكن أن يزول الوقف بقانون يقضي بحله كما في الأوقاف الذرية.
وحين يزول الوقف تنتهي شخصيته الاعتبارية وتوزع أمواله بعد التصفية على الجهات التي تستحقها وقت الحكم بزواله.
الباب الثاني
الأشــــــياء
رأينا سابقاً أن المحل الذي يقع عليه الحق قد يكون شيئاً أو عملاً, فهو شيء في الحقوق العينية إطلاقاً وكذلك في الحقوق الشخصية التي يكون موضوعها إعطاء شيء حيث يكون الإعطاء هو مضمون الحق الشخصي أو الالتزام المقابل له والشيء هو المحل الذي يتعلق به هذا المضمون.وهو عمل في الحقوق الشخصية التي يكون موضوعها قياماً بعمل – عدا إعطاء شيء- أو امتناعاً عن عمل، حيث يندمج المحل في هذه الحالة بالمضمون فيكون القيام بعمل أو الامتناع عنه هو مضمون الحق الشخصي أو الالتزام، كما يكون أيضاً هو المحل الذي يقعان عليه.
ودراسة محل الحق وهو الركن الثاني من أركانه، يجب أن يتناول في الأصل دراسة الأشياء والأعمال معاًً، غير أن الأعمال لا يمكن حصرها أو تصنيفها، وهي تختلف باختلاف الحقوق الشخصية أو الالتزامات التي تقع عليها، كما أنها تدرس من خلال دراسة هذه الحقوق الشخصية أو الالتزامات نفسها. ولذلك سنقتصر في هذا البحث المخصص لمحل الحق على دراسة الأشياء وحدها دون الأعمال.
ودراسة الأشياء التي سيقتصر عليها بحثنا تتناول، بالإضافة إلى تحديد مفهومها، بيان أقسامها المتعددة وخصائص كل من هذه الأقسام. وعلى هذا فإن الباب الحالي سيتألف من تمهيد وفصل واحد على النحو التالي:
$تمهيد: مفهوم الأشياء والأموال والتمييز بينها
الفصل الأول: تقسيم الأشياء
تمهيد
مفهوم الأشياء والتمييز بينها:
$ تشمل الأشياء: كل ما له وجود مادي محسوس من جهة، عدا الإنسان الذي يعتبر شخصاً لا شيئاً، كما تشمل أيضاً بعض الأمور المعنوية التي لا تدخل تحت الحس المادي ولكن لها وجوداً قائماً بذاته يجعلها محلاً للحقوق الأدبية أو المعنوية التي تقع عليها1.
$أما الأموال: فهي بحسب المفهوم الحديث الحقوق ذات القيمة المالية، سواء أكانت حقوقاً شخصية أو عينية أو معنوية وسواءً أكانت واقعة على الأشياء أو الأعمال1.
وهذا التمييز بين الأشياء والأموال لم يكن معروفاً وإنما كانت الأشياء تعد على أنها نوع من الأموال.
ويرجع هذا الخلط بين الأموال والأشياء إلى عهد القانون الروماني ثم إلى القانون المدني الفرنسي فالمال كان يعرف في بادئ الأمر بأنه كل شيء نافع للإنسان يصح أن يستأثر به دون غيره ويكون محلاً للحقوق.
$وعلى هذا يجوز القول بأن الأموال كانت تعتبر كلها أشياء، و ثم لاحظ رجال القانون أن الأشياء ليست وحدها ذات القيمة المالية وإنما يمكن أن تقع على هذه الأشياء أنواع أخرى من الحقوق كحق الانتفاع.
وعلى هذا ظهر أن تعريف الأموال بأنها الأشياء القابلة للتملك لم يعد كافياً للإحاطة بجميع هذه الأموال فعدل هذا المفهوم بحيث لم تعد الأموال قاصرة على الأشياء القابلة للتملك فقط وإنما أضيفت إليها أيضاً الحقوق الشخصية والعينية ذات القيمة المالية.
وهذا المفهوم الأخير للمال هو الذي أخذ به القانون المدني الفرنسي إذ يستعمل لفظ المال للتعبير عن الأشياء نفسها وعن الحقوق المالية في نفس الوقت.
غير أن هذا المفهوم قد انتقد بعد ذلك انتقاداً شديداً لما يكتنفه من غموض وتشويش.
فهو يؤدي من جهة إلى ضم مفهومين مختلفين في تعريف واحد يجمع كلاً من الحق والشيء الذي هو محل هذا الحق و ركن من أركانه.
لذلك كان لا بد من فصل أحد هذين العنصرين وإخراجه من مفهوم المال فإما أن نخرج من مفهوم المال الحقوق المالية ونبقي الأشياء فقط كما كان الحال في بادئ الأمر أو نخرج $الأشياء ونبقي الحقوق المالية. وقد لوحظ أن الحل الثاني هو الأصح، ولذا أخرجت الأشياء من نطاق الأموال وأصبحت مفهوماً مستقلاً عنها، وبقي مفهوم المال مقتصراً فقط على الحقوق المالية وحدها دون الأشياء.
الفصل الأول
تقسيم الأشياء
تقسم الأشياء إلى أنواع متعددة عدد القانون المدني بعضها أو أشار إليه وأغفل ذكر بعضها الآخر.
تقسيم الأشياء:
لقد نص القانون المدني صراحة على أنواع معينة:
1- الأشياء القابلة للتعامل والأشياء الخارجة عن التعامل.
2- الأشياء المنقولة والأشياء الثابتة.
3- الأشياء الاستهلاكية والأشياء الاستعمالية.
4- الأشياء المثلية والأشياء القيمية.
5- الأشياء المادية والأشياء المعنوية.
وأهم الأنواع التي أغفلها قانوننا المدني هي:
1- الأشياء المعتبرة أصلاً والأشياء المعتبرة ثمرة.
2- الأشياء الأصلية والأشياء التبعية.
3- الأشياء القابلة للقسمة والأشياء غير القابلة للقسمة.
ولما كان تقسيم الأشياء إلى منقولة وثابتة هو أهم هذه التقسيمات و أكثرها آثاراً من الوجهة القانونية، فقد آثرنا أن نفرد لهذا التقسيم بحثاً خاصاً به وأن نستعرض التقسيمات الأخرى، سواء ما ذكره القانون المدني منها أو سكت عنه في بحث آخر
وبالتالي سيحتوي هذا الفصل الفرعين التاليين:
الفرع الأول: تقسيم الأشياء إلى منقولة وثابتة
الفرع الثاني: التقسيمات الأخرى للأشياء
الفرع الأول
تقسيم الأشياء إلى منقولة وثابتة
نصت المادة /84/ من القانون المدني على أن (كل شيء مستقر بحيزه ثابت فيه لا يمكن نقله منه دون تلف فهو عقار وكل ما عدا ذلك من شيء فهو منقول)1.
الأشياء الثابتة أو العقارات:
هنالك نوعان من العقارات نص عليهما قانوننا المدني:
أولاً: العقارات بطبيعتها:
وهو الذي عرفته المادة /84/ بأنه: "كل شيء مستقر بحيزه ثابت فيه لا يمكن نقله منه دون تلف".
وتشمل العقارات بطبيعتها الأراضي وما يتصل بها من نباتات وأبنية وما تتضمنه من مناجم ومقالع2.
فالأراضي: هي العقارات الأساسية التي تتوافر فيها صفة الثبات والاستقرار والتي تقوم في باطنها أو على سطحها بقية العقارات بطبيعتها.
والنباتات: أياً كان نوعها ومهما كانت قيمتها تعتبر عقارات بطبيعتها إذا كانت متأصلة بالأرض وكانت جذورها ممتدة فيها أما إذا كانت هذه النباتات لا تتصل بالأرض مباشرة وإنما هي موضوعة في أوعية أو صناديق فلا تعتبر من العقارات بل تعتبر أشياء منقولة.
والأبنية: ينطبق عليها أيضاً ما ينطبق على النباتات فهي تعتبر من العقارات بطبيعتها ما دامت متأصلة في الأرض سواء أقيمت على سطح الأرض كالدور والمخازن والمعامل أو في باطن الأرض كالآبار والأنفاق وسواء أكانت دائمة أو مؤقتة.
أما الإنشاءات الخفيفة التي لا تتصل بالأرض اتصالاً متيناً ولا تقوم على دعائم ثابتة كالخيام أو الأكواخ التي تقام في الساحات العامة فلا تعتبر من العقارات.
والمقالع والمناجم: تعتبر أيضاً عقارات بطبيعتها.
فالمقالع: هي المكامن الطبيعية التي توجد فيها مواد البناء ومواد تحسين الزراعة ومناجم الفحم النباتي.
أما المناجم: فهي المكامن الطبيعية المحتوية على المواد المنجمية.
وتعتبر المقالع ملكاً لصاحب الأرض التي توجد فيها أما المناجم فلا تعود ملكيتها لصاحب الأرض وإنما تعتبر من أملاك الدولة العامة.
وقد صنف القانون المدني السوري العقارات إلى خمس أصناف وهي كما عددتها المادة 86 منه1:
1-العقارات الملك:
وهي العقارات القابلة للملكية المطلقة والكائنة داخل مناطق الأماكن المبنية المحددة إدارياً.
ولا يشترط أن تكون العقارات مبنية فعلاً لتعتبر ملكاً بل يكفي دخولها داخل مناطق الأماكن المخصصة للبناء, على أن من الضروري أن تكون هذه المناطق المخصصة للبناء قد حددت بقرار إداري.
2-العقارات الأميرية:
وهي العقارات التي تكون رقبتها للدولة ويجوز أن يجري عليها حق التصرف.
فالعقارات الأميرية هي العقارات التي تكون ملكية رقبتها للدولة وهي من حيث المبدأ العقارات التي لا تدخل ضمن المناطق المبنية المحددة إدارياً وإن حق التصرف فيها قريب من حق الملكية وقد نصت المادة /772/ على أن:
"النصوص المتعلقة بحق الملكية تسري على حق التصرف في الأراضي الأميرية ما لم ينص القانون على خلاف ذلك".
الاختلاف بين حق الملكية وحق التصرف, وبين العقارات الملك والعقارات الأميرية:
إن العقار الأميري لا يجوز وقفه وكل وقف ينشأ عليه يعتبر باطلاً وإن حق التصرف في العقارات الأميرية يسقط بعدم حراثة الأرض أو بعدم استعمالها مدة خمس سنوات وأن قواعد الإرث بالنسبة للعقارات الأميرية لا تخضع لأحكام الشريعة الإسلامية كما هو الحال بالنسبة للعقارات الملك وإنما تخضع لقانون خاص تختلف أحكامه عن أحكام الشريعة الإسلامية وبصورة خاصة من حيث مساواته بين الأنثى والذكر في الحصة الإرثية.
3-العقارات المتروكة المرفقة:
وهي العقارات (( التي تخص الدولة ويكون لجماعة ما حق استعمال عليها تحدد مميزاته ومداه العادات المحلية. أو الأنظمة الإدارية)).
مثالها:البيادر والمراعي المخصصة لانتفاع أهل القرية منها وتكون هذه المراعي عائدة للدولة
4-العقارات المتروكة المحمية:
وهي العقارات (( التي تخص الدولة أو المحافظات أو البلديات وتكون جزءا ًمن الأملاك العامة )).
ومن أهم أمثلة هذه العقارات الطرق والشوارع والساحات والحدائق العامة.
5-العقارات الخالية المباحة:
وهي (( الأراضي الأميرية التي تخص الدولة إلا أنها غير معينة ولا محددة. فيجوز لمن $يشغلها أولاً أن يحصل بترخيص من الدولة, على حق أفضلية بالتصرف فيها ضمن الشروط المعينة في أنظمة أملاك الدولة )).
ثانياً: العقارات بالتخصيص:
يعرف القانون المدني العقار بالتخصيص بأنه: ((المنقول الذي يضعه صاحبه في عقار يملكه رصداً على خدمة هذا العقار أو استغلاله)).
ويجب لاعتبار المنقول عقاراً بالتخصيص توافر شرطين هما1:
الشرط الأول: اتحاد المالك في العقار والمنقول:
يجب أن يكون مالك العقار هو نفسه مالك المنقول الذي يرصد لمنفعة هذا العقار.
فالمنقول الذي يرصده صاحبه على منفعة عقار لا يملكه كالأدوات الزراعية المرصودة على منفعة الأرض, وكذلك المنقول الذي يرصده صاحب العقار على خدمة العقار ولكن دون أن يكون مالكاً له, لا يعتبر عقاراً بالتخصيص بل يظل منقولاً لأن المالك ليس واحداً في الحالتين.
الشرط الثاني: رصد المنقول على منفعة العقار:
يجب أن يخصص المنقول لمنفعة العقار وقد عبر القانون المدني عن ذلك بضرورة رصد المنقول على خدمة العقار أو استغلاله وإن المنقول الذي يخصص لمنفعة صاحب العقار لا يعتبر عقاراً بالتخصيص " كالسيارة مثلاً.
ورصد المنقول على استغلال العقار يشمل:
الاستغلال الزراعي:
$حيث تعتبر عقارات بالتخصيص مثلاً الأدوات الزراعية والماشية، وخلايا النحل، وأبراج الحمام والبذور التي لم تبذر والسماد.... الخ.
الاستغلال الصناعي:
فتعتبر من العقارات بالتخصيص مثلاً الآلات والأجهزة الصناعية والعربات والسيارات.
الاستغلال التجاري والمدني:
تعتبر من العقارات بالتخصيص مثلاً موجودات وأدوات المسارح والملاهي والمطاعم والأدوات اللازمة لاستغلال المحلات التجارية كالخزائن والطاولات وذلك بشرط أن يكون المكان معداً لإيوائها.
أما رصد المنقول على خدمة العقار فيشمل المنقولات التي توضع في الأبنية دون أن تكون متصلة بها اتصال قرار, والتي تستعمل لمنفعة هذه الأبنية, وذلك كالمفاتيح ومضخات الحريق في دور السكن..... الخ.
وأما المنقولات التي تتصل بالعقار اتصال قرار وثبات كالأبواب والنوافذ فهي تعتبر جزءاً من البناء وبالتالي تكون عقارات بطبيعتها وليست بالتخصيص.
والأثر الرئيسي الذي ينجم عن إعطاء المنقول المرصد لمنفعة العقار صفة العقار بالتخصيص هو دمجه بالعقار المرصد لمنفعته في الحكم من حيث عدم جواز الحجز عليه كمنقول وبصورة مستقلة عن العقار المرتبط به.
الأشياء المنقولة:
لم يعرف القانون المدني الأشياء المنقولة وإنما اكتفى بتعريف العقار وأعتبر أن ((كل ما عدا ذلك فهو شيء منقول))1.
1-المنقولات بطبيعتها:
هي الأشياء التي يمكن نقلها من مكان إلى آخر دون تلف، سواء أكانت قادرة على الانتقال بقوتها الذاتية كالحيوانات أو بقوة خارجية كالجمادات2.
وتشمل المنقولات بطبيعتها جميع الأشياء المادية التي لا تعتبر عقارات بطبيعتها أو عقارات بالتخصيص.
ويعتبر الغاز والكهرباء ونحوهما من الطاقات أو القوى المحرزة من الأشياء المنقولة وقد اعتبر قانون العقوبات اختلاسها من قبيل السرقة.
$2- المنقولات من حيث المآل:
هي أشياء ثابتة أو عقارات بطبيعتها تطلق عليها صفة الأشياء المنقولة بالنظر لما ستؤول إليه3.
فإذا بيع شيء من الثمار أو المحصولات بقصد جنيها أو حصدها أو إذا بيع بناء ليهدم ويستفاد منه كأنقاض، تعتبر منقولات من حيث المآل وفقاً لاتفاق المتعاقدين بالنظر إلى أنها ستنفصل عن الأرض في وقت قريب.
فحين تنفصل عن الأرض فعلاً تعتبر منقولات بطبيعتها أما قبل ذلك فهي منقولات من حيث المآل.
3- المنقولات المعنوية:
$إن الأشياء غير المادية هي التي لا تقع تحت الحس كالأفكار والابتكارات والمخترعات لا تدخل بحسب طبيعتها في المنقولات ولا في العقارات.
غير أن هذه الأشياء قد اعتبرها المشرع من قبيل المنقولات، لأن كل ما لا يدخل في التعريف الذي أعطاه للعقار فهو منقول ولما كان تعريف العقار لا ينطبق على الأشياء غير المادية فلم يبق سوى اعتبار هذه الأشياء منقولات معنوية أو غير مادية.
الأموال العقارية والأموال المنقولة:
$يوجد هناك حقوق عقارية أو أموال عقارية من جهة وحقوق أو أموال منقولة من جهة ثانية. ويعتبر عقاراً بحسب المادة 85 من القانون المدني (كل حق عيني على عقار وكذلك كل دعوى تتعلق بحق عيني على عقار).
أما الأموال المنقولة فهي كل ماعدا ذلك من الحقوق المالية كما أن الدعاوى المنقولة هي كل ما يتعلق بأموال منقولة.
وقد عدد القانون المدني الحقوق العينية وهي: الملكية، التصرف، الانتفاع، حق الأفضلية على الأراضي الخالية المباحة، حقوق الارتفاق العقارية، الرهن والتأمين العقاري، الامتياز، الوقف، الإجارتان، الإجارة الطويلة، حق الخيار الناتج عن الوعد بالبيع.
وبعض الحقوق العينية كالتصرف والسطحية والارتفاق لا تقع إلا على العقارات فتعد حقوقاً عينية عقارية.
أما الأموال المنقولة فتشمل جميع الحقوق المالية التي لا تدخل في نطاق الحقوق العقارية.
وعلى هذا تعتبر أموالاً منقولة:
1. جميع الحقوق العينية الواقعة على الأشياء المنقولة فحق ملكية المنقول يعتبر حقاً عينياً منقولاً.
2. جميع الحقوق المعنوية والأدبية.
3. جميع الحقوق الشخصية أياً كان نوعها.
آثار التمييز بين العقار والمنقول1:
في نطاق القانون المدني:
1. إن اكتساب الحقوق العينية العقارية أو انتقالها من شخص إلى آخر يخضع لمبدأ تسجيلها في السجل العقاري، أما الحقوق المنقولة فلا تخضع لشرط التسجيل, وعلى هذا فإن مشتري المنقول مثلاً يصبح مالكاً له بمجرد عقد البيع ولكن ملكية العقار لا تنتقل لمشتريه إلا بعد تسجيله في السجل العقاري.
2. مجرد حيازة المنقول بسبب صحيح وبحسن نية تكسب الحائز ملكية المنقول باستثناء حالتي الضياع والسرقة, وأما حيازة العقار ولو كانت مقترنة بحسن نية لا تؤدي إلى اكتساب ملكيته.
3. العقارات الملك يصح وقفها إطلاقاً، أما الأشياء المنقولة فلا يصح وقفها إلا في حالات معينة.
4. إذا بيع عقار مملوك لشخص لا تتوافر فيه الأهلية وكان في البيع غبن يزيد على الخمس، فللبائع أن يطلب تكملة الثمن إلى أربعة أخماس ثمن المثل ولا يسري هذا الحكم فيما إذا كان المبيع منقولاً لا عقاراً.
5. إن بعض الحقوق العينية لا يمكن أن تقع إلا على العقار دون المنقول.
في نطاق أصول المحاكمات:
1. يختلف الاختصاص المكاني للمحاكم بحسب ما إذا كانت الدعاوى عقارية أو منقولة. فالدعاوى العقارية ترفع أمام المحكمة التي يوجد العقار في دائرتها، أما الدعاوى المنقولة فترفع أمام محكمة موطن المدعى عليه.
2. دعاوى الحيازة التي تمكن الحائز من طلب منع التعرض أو استرداد الحيازة أو وقف العمل الجديد لا تكون إلا في حيازة العقار دون المنقول.
3. حجز العقار يتم بوضع إشارة الحجز في السجل العقاري أما حجز المنقول فيكون بوضع اليد عليه وتسليمه إلى حارس مكلف بحفظه.
في نطاق القانون الدولي الخاص:
1. يسري قانون موقع العقار على العقود التي أبرمت بشأن هذا العقار، أما العقود الأخرى فيسري عليها قانون الدولة التي يوجد فيها الموطن المشترك للمتعاقدين إذا اتحدا موطناً.
2. القيود التي تحد من تملك الأجانب عادة تقتصر فقط على العقارات دون المنقولات.
الفرع الثاني
التقسيمات الأخرى للأشياء
الأشياء القابلة للتعامل والأشياء الخارجة عن التعامل:
الأشياء إما أن تكون قابلة للتعامل أو خارجة عنه والنوع الأول هو وحده الذي يصح أن يكون محلاً للحقوق المالية1.
الأشياء الخارجة عن التعامل إما أن تكون خارجة عنه بطبيعتها أو بحكم القانون.
والأشياء التي تخرج عن التعامل بطبيعتها هي التي لا يستطيع أحد أن يستأثر بحيازتها مثل الهواء.
أما الأشياء التي تخرج عن التعامل بحكم القانون فهي التي لا يجيز القانون أن تكون محلاً للحقوق المالية وهذه الأشياء يمكن الاستئثار بحيازتها وذلك كالمخدرات والمواد المتفجرة.
أما الأشياء القابلة للتعامل فهي الأشياء التي يستطيع الشخص الاستئثار بحيازتها ولم يمنع القانون التعامل بها.
الأشياء الاستهلاكية والأشياء الاستعمالية:
الأشياء القابلة للاستهلاك هي التي ينحصر استعمالها بحسب ما أعدت له في استهلاكها أو إنفاقها، أما الأشياء الاستعمالية فهي عكس ذلك2.
فالأشياء الاستهلاكية تختلف عن الأشياء الاستعمالية في أنها تستهلك منذ الاستعمال الأول كالوقود والنقود, بينما يمكن أن يتكرر استعمال الأشياء الاستعمالية أكثر من مرة.
والاستهلاك قد يكون فعلياً يؤدي إلى زوال الشيء وفنائه وقد يكون قانونياً اعتبارياً يؤدي إلى إنفاق الشيء والتخلي عنه.
أما بالنسبة لحق الانتفاع فهو يقع على الأشياء الاستعمالية دون الاستهلاكية.
$وأما بالنسبة للعقود كعقد العارية فهو يقع على الأشياء الاستعمالية لالتزام المستعير بإعادة الشيء المعار
الأشياء المثلية والأشياء القيمية:
الأشياء المثلية هي التي يقوم بعضها مقام بعض عند الوفاء والتي تقدر عادة في التعامل بين الناس بالعدد أو المقاس أو الكيل أو الوزن أما الأشياء القيمية فهي ما عدا ذلك.
فالتفريق بين الأشياء المثلية والأشياء القيمية يقوم على أساس التماثل بين أفراد النوع الواحد أو عدم التماثل فإذا كان هناك تشابه أو تماثل اعتبرت هذه الأشياء مثلية أما إذا لم يتوافر هذا الشرط اعتبرت الأشياء قيمية1.
والأشياء المثلية تقدر عادة بالعدد كالبيض والنقود أو بالمقاس أو بالكيل أو بالوزن.
والأشياء المثلية يمكن أن تعتبر قيمية عند التعاقد عليها، كما أن الأشياء القيمية يمكن أن تعتبر مثلية وبذلك تنقلب الأشياء من نوع إلى آخر وفقاً لقصد المتعاقدين.
$ ومن الملاحظ أن الأشياء المثلية هي على الأغلب أشياء استهلاكية وأن الأشياء القيمية هي على الغالب أيضاً أشياء استعمالية.
لتقسيم الأشياء إلى مثلية وقيمية آثار عديدة:
1- فالالتزام الذي يكون محله شيئاً مثلياً يستطيع المدين أن يبرئ ذمته منه بإيفاء الدائن أي شيء آخر مماثل له في النوع والمقدار، أما إذا كان محل الالتزام شيئاً قيمياً فلا تبرأ ذمة المدين منه إلا بإيفاء الدائن هذا الشيء بذاته.
2. الحقوق العينية لا ترد إلا على الأشياء القيمية أو المعينة بالذات بينما يمكن أن يكون المحل غير المباشر للحقوق الشخصية شيئاً قيميأً أو مثلياً.
3. انتقال الملكية يتم بمجرد العقد إذا كان الشيء قيمياً أو معيناً بالذات أما إذا كان الشيء مثلياً فلا تنتقل ملكيته إلا بإفرازه.
الأشياء المادية والأشياء المعنوية:
رأينا أن الأشياء المعنوية لا تدخل تحت الحس المادي كالأفكار والمخترعات وتعتبر كلها أشياء منقولة بينما تقسم الأشياء المادية إلى منقولة وعقارية1.
بعض التقسيمات الأخرى التي لم يذكرها القانون المدني2:
الأشياء المعتبرة أصلاً والأشياء المعتبرة ثمرة:
الأشياء المعتبرة أصلاً هي التي لا تكون ثمرة لغيرها.
أما الأشياء المعتبرة ثمرة فهي التي تنتج عن الأشياء المعتبرة أصلاً.
ولا يتحتم أن ينتج الأصل ثماراً ليعتبر أصلاً وإنما يجب ألا يكون ثمرة لغيره ولا يعتبر $الشيء ثمرة إلا إذا كان انفصاله عن الأصل لا يؤدي إلى نقصانه، فالأرض والمنزل هي من الأشياء التي تعتبر أصلاً، أما نتاج الأرض وأجرة المنزل فهي من الأشياء المعتبرة ثمرة.
الأشياء الأصلية والأشياء التبعية:
الشيء الأصلي هو الذي يكون له وجود مستقل عن غيره كالدار والأشجار، أما الشيء التبعي فهو الذي يرتبط بشيء أصلي ويتبعه كالنوافذ والأبواب وتمديدات الكهرباء.
الأشياء القابلة للقسمة والأشياء الغير قابلة لها:
الشيء القابل للقسمة هو الشيء الذي لا يكون في تجزئته ضرر بحيث يكون نوع المنفعة التي للأصل قبل القسمة ثابتاً لكل قسم منه بعدها أما الشيء غير القابل للقسمة فهو الذي تفوت $بتجزئته المنفعة المقصودة منه، فالحيوان والجوهرة والسيارة هي من الأشياء غير القابلة للقسمة، أما الأرض والقمح والزيت ونحوها هي من الأشياء القابلة للقسمة.
تعليقات
إرسال تعليق